المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

46- أولئك هم الخاضعون المطمئنة قلوبهم ، الذين يؤمنون باليوم الآخر ويوقنون بأنهم سيلاقون ربهم عند البعث ، وإليه - وحده - يعودون ليحاسبهم على ما قدمت أيديهم ويثيبهم عليه .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

قوله تعالى : { الذين يظنون } . يستيقنون فالظن من الأضداد يكون شكاً ويقيناً ، كالرجاء يكون أمنا وخوفاً .

قوله تعالى : { أنهم ملاقوا } . معاينو .

قوله تعالى : { ربهم } . في الآخرة ، وهو رؤية الله تعالى . وقيل : المراد من اللقاء الصيرورة إليه .

قوله تعالى : { وأنهم إليه راجعون } . فيجزيهم بأعمالهم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

45

ولهذا قال : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ } أي : يستيقنون { أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ } فيجازيهم بأعمالهم { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات ، ونفس عنهم الكربات ، وزجرهم عن فعل السيئات ، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات ، وأما من لم يؤمن بلقاء ربه ، كانت الصلاة وغيرها من العبادات من أشق شيء عليه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

ثم وصف - سبحانه - الخاشعين وصفاً يناسب المقام ، ويظهر وجه الاستعانة ، فقال - تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .

الظن : يرد في أكثر الكلام بعنى الاعتقاد الراجح ، وهو ما يتجاوز مرتبة الشك ، وقد يقوي حتى يصل إلى مرتبة اليقين والقطع ، وهو المراد هنا ؛ ومثل ذلك قوله - تعالى -

{ أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ . لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } أي ألا يعتقد أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم . وقوله تعالى : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أي علمت أني ملاق حسابيه .

وملاقاة الخاشعين لربهم معناها الحشر إليه بعد الموت ، ومجازاتهم على ما قدموا من عمل .

والمعنى : إن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين ، الذين يعتقدون لقاء الله - تعالى - يوم الحساب ، وأنهم عائدون إليه لينالوا ما يستحقونه من جزاء على حسب أعمالهم .

قال ابن جرير - مرجحاً أن المراد بالظن هنا العلم واليقين - : " إن قال لنا قائل : وكيف أخبر الله - تعالى - عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظن أنه ملاقيه ، والظن شك ، والشاك في لقاء الله كافر ؟ قيل له : إن العرب قد تسمى اليقين ظناً : والشك ظناً ؛ نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضاء سدفة ، والمغيث صارخاً ، والمستغيث صارخاً ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضده ، ومما يدل على أنه يسمى به اليقين ، قول دريد بن الصمة : ( فقلت لهم ظنوا بألفى مدجج . . . ) .

يعني بذلك : تيقنوا أن ألفى مدجج تأتيكم ، ثم قال : والوشاهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرنا لمن وفق في فهمه كافية ، ومنه قوله تعالى : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } وعن مجاهد قال : " كل ظن في القرآن فهو علم " .

والذين قالوا إن الظن هنا على معناه الحقيقي ، وهو الاعتقاد الراجح ، فسروا " ملاقاة الخاشعين لربهم " بمعنى قربهم من رضاه يوم القيامة " ورجوعهم إلأيه " بمعنى حلولهم بجواره الطيب ، واستقرارهم في جناته ، أي : وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يتوقعون قربهم من ربهم ، ودخولهم جناته عند رجوعهم إليه .

وإلى هذا التفسير ذهب صاحب الكشاف ، فقال قال : ( فإن قلت : ما لها لم تثقل على الخاشعين والخشوع في نفسه مما يثقل ؟ قلت : لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها فتهون عليهم . ألا ترى إلى قوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ } أي يتوقعون لقاء ثوابه ، ونيل ما عنده ويطمعون فيه ) .

وإنما كان شعور الخاشعين بذلك كله ظناً لا يقيناً ، لأن خواتيم الحياة لا يعلمها كيف تكون سوى علام الغيوب ، ففي وصفهم بأنهم { يَظُنُّونَ } إشارة إلى خوفهم ، وعدم أمنهم مكر الله - تعالى - وهكذا يكون المؤمن دائماً بين الخوف والرجاء .

ومن هذا العرض لمعنى الآية الكريمة يتبين لنا ، أن من فسر الظن هنا بمعنى اليقين والعلم ، يرى أن لقاء الخاشعين لله معناه الحشر بعد الموت ، ورجوعهم إليه معناه مجازاتهم على أعمالهم والحشر والمجازاة يعتقد صحتهما الخاشعون اعتقاداً جازماً .

أما من فسر الظن هنا بمعنى الاعتقاد الراجح ، فيرى أن لقاء الخاشعين لله معناه توقعهم لقاء توابه ، ورجوعهم إليه معناه ظفرهم بجناته ، وتوقع الثواب والظفر بالجنات يرجح الخاشعون حصولهما لأن مرجعهما إلى فضل الله وحده .

والذي نراه أن الرأي الأول أكثر اتساقاً مع ظاهر معنى الآية الكريمة وبه قال قدماء المفسرين ، كمجاهد وأبي العالية وغيرهما .

46

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

40

واليقين بلقاء الله - واستعمال ظن ومشتقاتها في معنى اليقين كثير في القرآن وفي لغة العرب عامة - واليقين بالرجعة إليه وحده في كل الأمور . . هو مناط الصبر والاحتمال ؛ وهو مناط التقوى والحساسية . كما أنه مناط الوزن الصحيح للقيم : قيم الدنيا وقيم الآخرة . ومتى استقام الميزان في هذه القيم بدت الدنيا كلها ثمنا قليلا ، وعرضا هزيلا ؛ وبدت الآخرة على حقيقتها ، التي لا يتردد عاقل في اختيارها وإيثارها .

وكذلك يجد المتدبر للقرآن في التوجيه الذي قصد به بنو إسرائيل أول مرة ، توجيها دائما مستمر الإيحاء للجميع . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

هذا من تمام الكلام الذي قبله ، أي : وإن الصلاة أو الوَصَاة{[1700]} لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ، أي : [ يعلمون أنهم ]{[1701]} محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون عليه ، وأنهم إليه راجعون ، أي : أمورهم راجعة إلى مشيئته ، يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء سَهُل عليهم فعلُ الطاعات وترك المنكرات .

فأما قوله : { يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال{[1702]} ابن جرير ، رحمه الله : العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنًا ، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة ، والضياء سُدفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخًا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي يسمى بها الشيء وضدّه ، كما قال دُرَيد بن الصِّمَّة :

فقلت لهم ظُنُّوا بألفي مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُم في الفَارسِيِّ المُسَرَّدِ{[1703]}

يعني بذلك تيقنوا بألفي مدجج يأتيكم ، وقال عَمِيرة بن طارق :

بِأنْ يَعْتَزُوا{[1704]} قومي وأقعُدَ فيكم *** وأجعلَ مني الظنَّ غيبا مرجمّا{[1705]}

يعني : وأجعل مني اليقين غيبا مرجما ، قال : والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظن في معنى اليقين ، أكثر من أن تحصر ، وفيما ذكرنا لمن وفق لفهمه كفاية ، ومنه قول الله تعالى : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] .

ثم قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن يقين ، أي : ظننت وظَنوا .

وحدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا أبو داود الحَفَرِيّ ، عن سفيان عن ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، قال : كل ظن في القرآن فهو علم . وهذا سند صحيح .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } قال : الظن هاهنا يقين .

قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة نحو قول أبي العالية .

وقال سُنَيد ، عن حجاج ، عن ابن جريج : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ } علموا أنهم ملاقو ربهم ، كقوله : { إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] يقول : علمت .

وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

قلت : وفي الصحيح : " أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك ، ألم أكرمك ، ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذرك ترأس وتربع ؟ فيقول : بلى . فيقول الله تعالى : أفظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا . فيقول الله : اليوم أنساك كما نسيتني " . وسيأتي مبسوطا عند قوله : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] إن شاء الله ، والله تعالى أعلم .


[1700]:في أ: "الوصية".
[1701]:زيادة من جـ، ب، أ.
[1702]:في طـ، ب: "فقال".
[1703]:البيت في تفسير الطبري (2/18).
[1704]:في جـ: "نصروا"، وفي ب، أ: "تعيروا".
[1705]:البيت في تفسير الطبري (2/18).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَظُنّونَ أَنّهُم مّلاَقُو رَبّهِمْ وَأَنّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ }

قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف أخبر الله جل ثناؤه عمن قد وصفه بالخشوع له بالطاعة أنه يظنّ أنه ملاقيه ، والظنّ : شكّ ، والشاكّ في لقاء الله عندك بالله كافر ؟ قيل له : إن العرب قد تسمي اليقين ظنا ، والشك ظنا ، نظير تسميتهم الظلمة سُدْفة والضياء سُدْفة ، والمغيث صارخا ، والمستغيث صارخا ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي تسمي بها الشيء وضدّه . ومما يدل على أنه يسمى به اليقين قول دُريد بن الصمة :

فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنّوا بإِلْفَيْ مُدَجّجٍ *** سَرَاتُهُمُ في الفارِسيّ المُسَرّدِ

يعني بذلك : تيقنوا ألفي مدجج تأتيكم . وقول عَميرة بن طارق :

بِأنْ تَغْتَزُوا قَوْمي وأقْعُدُ فِيكُمُ *** وأجْعَلَ مِنّي غَيْبا مُرَجّمَا

يعني : وأجعل مني اليقين غيبا مرجما . والشواهد من أشعار العرب وكلامها على أن الظنّ في معنى اليقين أكثر من أن تحصى ، وفيما ذكرنا لمن وُفّق لفهمه كفاية .

ومنه قول الله جل ثناؤه : ورأى المُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوا أنّهُمْ مُواقِعوها . وبمثل الذي قلنا في ذلك جاء تفسير المفسرين .

حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : يظّنونَ أنّهُمْ مُلاقُوا رَبّهمْ قال : إن الظنّ ههنا يقين .

وحدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، قال : كل ظنّ في القرآن يقين ، إني ظننت وظنوا .

وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو داود الحفري ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : كل ظنّ في القرآن فهو علم .

وحدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : الّذين يظنّون أنّهم مُلاقوا ربّهم أما يظنون فيستيقنون .

وحدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : الّذين يظنّونَ أنّهم مُلاقُوا ربّهم علموا أنهم ملاقوا ربهم ، هي كقوله : إنّي ظَنَنْتُ أني مُلاقٍ حِسابِيَه يقول علمت .

وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : الّذِينَ يَظُنون أنَهُمْ مُلاقُو رَبّهِمْ قال : لأنهم لم يعاينوا ، فكان ظنهم يقينا ، وليس ظنا في شك . وقرأ : إنّي ظَنَنْتُ أنّي مُلاقٍ حسابيَهْ .

القول في تأويل قوله تعالى : أنّهّمْ مُلاقُو رَبّهِمْ .

قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : وكيف قيل إنهم ملاقو ربهم فأضيف الملاقون إلى الربّ جل ثناؤه وقد علمت أن معناه : الذين يظنون أنهم يلقون ربهم ؟ وإذا كان المعنى كذلك ، فمن كلام العرب ترك الإضافة وإثبات النون ، وإنما تسقط النون وتُضيف في الأسماء المبنية من الأفعال إذا كانت بمعنى فعل ، فأما إذا كانت بمعنى يفعل وفاعل ، فشأنها إثبات النون ، وترك الإضافة قيل : لا تَدَافُعَ بين جميع أهل المعرفة بلغات العرب وألسنها في إجازة إضافة الاسم المبني من فعل ويفعل ، وإسقاط النون وهو بمعنى يفعل وفاعل ، أعني بمعنى الاستقبال وحالِ الفعل ولما ينقض ، فلا وجه لمسألة السائل عن ذلك : لم قيل ؟

وإنما اختلف أهل العربية في السبب الذي من أجله أضيف وأسقطت النون .

فقال نحويو البصرة : أسقطت النون من : مُلاقو رَبّهمْ وما أشبهه من الأفعال التي في لفظ الأسماء وهي في معنى يفعل وفي معنى ما لم ينقض استثقالاً لها ، وهي مرادة كما قال جل ثناؤه : كُلّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وكما قال : إنّا مُرْسِلُو النّاقَة فِتْنَةً لَهُمْ ولما يرسلها بعد وكما قال الشاعر :

هَلْ أَنْتَ باعِثُ دِينارٍ لِحاجَتِنا *** أوْ عَبْدَ رَبَ أخا عَوْنِ بْنِ مخْرَاقِ

فأضاف باعثا إلى الدينار ، ولما يبعث ، ونصب عبد ربّ عطفا على موضع دينار لأنه في موضع نصب وإن خفض . وكما قال الاَخر :

الحافِظُو عَوْرَةَ العَشِيرَةِ لا *** يَأتيهِمُ مِنْ وَرَائِهِمْ نَطَفُ

بنصب العورة وخفضها . فالخفض على الإضافة ، والنصب على حذف النون استثقالاً ، وهي مرادة . وهذا قول نحويي البصرة .

وأما نحويو الكوفة فإنهم قالوا : جائز في مُلاقُو الإضافة ، وهي في معنى يلقون ، وإسقاط النون منه لأنه في لفظ الأسماء ، فله في الإضافة إلى الأسماء حظّ الأسماء ، وكذلك حكم كل اسم له كان نظيرا . قالوا : وإذا أثبت في شيء من ذلك النون وتركت الإضافة ، فإنما تفعل ذلك به لأن له معنى يفعل الذي لم يكن ولم يجب بعد . قالوا : فالإضافة فيه للفظ ، وترك الإضافة للمعنى .

فتأويل الآية إذا : واستعينوا على الوفاء بعهدي بالصبر عليه والصلاة ، وإن الصلاة لكبيرة إلا على الخائفين عقابي ، المتواضعين لأمري ، الموقنين بلقائي والرجوع إليّ بعد مماتهم .

وإنما أخبر الله جل ثناؤه أن الصلاة كبيرة إلا على من هذه صفته لأن من كان غير موقن بمعاد ولا مصدّق بمرجع ولا ثواب ولا عقاب ، فالصلاة عنده عناء وضلال ، لأنه لا يرجو بإقامتها إدراك نفع ولا دفع ضرّ ، وحقّ لمن كانت هذه الصفة صفته أن تكون الصلاة عليه كبيرة ، وإقامتها عليه ثقيلة ، وله فادحة .

وإنما خفت على المؤمنين المصدّقين بلقاء الله ، الراجين عليها جزيل ثوابه ، الخائفين بتضييعها أليم عقابه ، لما يرجون بإقامتها في معادهم من الوصول إلى ما وعد الله عليها أهلها ، ولما يحذرون بتضييعها ما أوعد مضيعها . فأمر الله جل ثناؤه أحبار بني إسرائيل الذين خاطبهم بهذه الاَيات أن يكونوا من مقيميها الراجين ثوابها إذا كانوا أهل يقين بأنهم إلى الله راجعون وإياه في القيامة ملاقون .

القول في تأويل قوله تعالى : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

قال أبو جعفر : والهاء والميم اللتان في قوله : وأنّهُمْ من ذكر الخاشعين ، والهاء في «إليه » من ذكر الربّ تعالى ذكره في قوله : مُلاقُو رَبّهِمْ فتأويل الكلمة : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الموقنين أنهم إلى ربهم راجعون .

ثم اختلف في تأويل الرجوع الذي في قوله : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ . فقال بعضهم بما :

حدثني به المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ قال : يستيقنون أنهم يرجعون إليه يوم القيامة .

وقال آخرون : معنى ذلك أنهم إليه يرجعون بموتهم .

وأولى التأويلين بالآية القول الذي قاله أبو العالية لأن الله تعالى ذكره ، قال في الآية التي قبلها كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وكُنْتُمْ أمْوَاتا فأحْياكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فأخبر الله جل ثناؤه أنَ مرجعهم إليه بعد نشرهم وإحيائهم من مماتهم ، وذلك لا شك يوم القيامة ، فكذلك تأويل قوله : وأنّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

{ الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } أي يتوقعون لقاء الله تعالى ونيل ما عنده ، أو يتيقنون أنهم يحشرون إلى الله فيجازيهم ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود " يعلمون " وكأن الظن لما شابه العلم في الرجحان أطلق عليه لتضمن معنى التوقع ، قال أوس بن حجر :

فأرسلته مستيقن الظل أنه *** مخالط ما بين الشراسيف جائف

وإنما لم تثقل عليهم ثقلها على غيرهم فإن نفوسهم مرتاضة بأمثالها ، متوقعة في مقابلتها ما يستحقر لأجله مشاقها ويستلذ بسببه متاعبها ، ومن ثمة قال عليه الصلاة والسلام : " وجعلت قرة عيني في الصلاة " .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

وقد وصف تعالى الخاشعين بأنهم الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون وهي صلة لها مزيد اتصال بمعنى الخشوع ففيها معنى التفسير للخاشعين ومعنى بيان منشأ خشوعهم ، فدل على أن المراد من الظن هنا الاعتقاد الجازم وإطلاق الظن في كلام العرب على معنى اليقين كثير جداً ، قال أوس بن حجر يصف صياداً رمى حمار وحش بسهم{[120]} :

فأرسله مستيقن الظن أنه *** مخالطُ ما بين الشرا سيف جائف

وقال دريد بن الصمة :

فقلت لهم ظُنُّوا بأَلْفَيْ مُدَجَّج *** سراتهم بالفارسي المسرج

فهو مشترك بين الاعتقاد الجازم وبين الاعتقاد الراجح .

والملاقاة والرجوع هنا مجازان عن الحساب والحشر أو عن الرؤية والثواب ؛ لأن حقيقة اللقاء- وهو تقارب الجسمين ، وحقيقة الرجوع وهو الانتهاء إلى مكان خرج منه المنتهى- مستحيلة هنا . والمقصود من قوله : { وإنها لكبيرة } إلخ التعريض بالثناء على المسلمين ، وتحريض بني إسرائيل على التهمم بالاقتداء بالمؤمنين وعلى جعل الخطاب في قوله : { واستعينوا } للمسلمين يكون قوله : { وإنها لكبيرة } تعريضاً بغيرهم من اليهود والمنافقين .

والملاقاة مفاعلة من لقي ، واللقاء الحضور كما تقدم في قوله : { فتلقى آدم من ربه كلمات } [ البقرة : 36 ] والمراد هنا الحضور بين يدي الله للحساب أي الذين يؤمنون بالبعث ، وسيأتي تفصيل لها عند قوله تعالى { واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه } [ البقرة : 222 ] في هذه السورة ، وفي سورة الأنعام ( 31 ) عند قوله تعالى : { قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله . }


[120]:- أوس بن حجر – بحاء مهملة وجيم مفتوحتينن ويغلط من يضم حاءه ويسكن جيمه- وهو من فحول شعراء بني تميم في الجاهلية وكان فحل مضر قبل النابغة وزهير، فلما نبغ زهير والنابغة أخملاه, وهذا البيت من قصيدة أولها: تنكر بعدي من أميمة صائف *** فبرك فأعلى تولب فالمخالف وصائف وبرك وتولب والمخالف أسماء بقاع، وقد ذكر في اثنائها وصف الصياد لحمار الوحش فقال: فأمهله حتى إذا أن كانه *** معاطي يد من جملة الماء غارف فسير سهاما راشه بمناكب *** لؤام ظهار فهو أعجف شائف