البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

الظنّ : ترجيح أحد الجانبين ، وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك ، وقد يطلق على التيقن .

وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو ، خلافاً لأبي زيد السهيلي ، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء .

والظنّ أيضاً يستعمل بمعنى : التهمة ، فيتعدى إذ ذاك لواحد ، قال الفراء : الظنّ يقع بمعنى الكذب ، والبصريون لا يعرفون ذلك .

ويجوز في { الذين } الاتباع والقطع إلى الرفع أو النصب ، وذلك صفة مدح ، فالقطع أولى بها .

و { يظنون } معناه : يوقنون ، قاله الجمهور ، لأن من وصف بالخشوع لا يشك أنه ملاق ربه ويؤيده أن في مصحف عبد الله الذين يعلمون .

وقيل معناه : الحسبان ، فيحتاج إلى مصحح لهذا المعنى ، وهو ما قدّروه من الحذف ، وهو بذنوبهم فكأنهم يتوقعون لقاء ربهم مذنبين ، والصحيح هو الأول ، ومثله { إني ظننت أني ملاق حسابيه } فظنوا أنهم مواقعوها .

وقال دريد :

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج *** سراتهم في السائريّ المسرّد

قال ابن عطية : قد يوقع الظن موقع اليقين في الأمور المتحققة ، لكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحس .

لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر : أظن هذا إنساناً ، وإنما نجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحس ، انتهى .

والظن في كلا استعماليه من اليقين ، أو الشك يتعدّى إلى اثنين ، وتأتي بعد الظن أن الناصبة للفعل وأنّ الناصبة للاسم الرافعة للخبر فتقول : ظننت أن تقوم ، وظننت أنك تقوم .

وفي توجيه ذلك خلاف .

مذهب سيبويه : أن أن وإن كل واحدة منهما مع ما دخلت عليه تسد مسد المفعولين ، وذلك بجريان المسند والمسند إليه في هذا التركيب .

ومذهب أبي الحسن وأبي العباس : أن أن وما عملت فيه في موضع مفعول واحد أول ، والثاني مقدّر ، فإذا قلت : ظننت أن زيداً قائم ، فتقديره : ظننت قيام زيد كائناً أو واقعاً ، والترجيح بين المذهبين يذكر في علم النحو .

{ أنهم ملاقوا ربهم } ، الملاقاة : مفاعلة تكون من اثنين ، لأن من لاقاك فقد لاقيته .

وقال المهدوي والماوردي وغيرهما : الملاقاة هنا ، وإن كانت صيغتها تقتضي التشريك ، فهي من الواحد كقولهم : طارقت النعل ، وعاقبت اللص ، وعافاك الله ، قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن لقي يتضمن معنى لاقي ، وليست كذلك الأفعال كلها ، بل فعل خلاف في المعنى لفاعل ، انتهى كلامه .

ويحتاج إلى شرح ، وذلك أنه ضعفه من حيث إن مادة لقي تتضمن معنى الملاقاة ، بمعنى أن وضع هذا الفعل ، سواء كان مجرداً أو على فاعل ، معناه واحد من حيث إن من لقيك فقد لقيته ، فهو لخصوص مادة يقتضي المشاركة ، ويستحيل فيه أن يكون لواحد .

وهذا يدل على أن فاعل يكون لموافقة الفعل المجرد ، وهذا أحد معاني فاعل ، وهو أن يوافق الفعل المجرد .

وقول ابن عطية : وليست كذلك الأفعال كلها كلام صحيح ، أي ليست الأفعال مجردها بمعنى فاعل ، بل فاعل فيها يدل على الاشتراك .

وقوله : بل فعل خلاف فاعل يعني بل المجرد فيها يدل على الانفراد ، وهو خلاف فاعل ، لأنه يدل على الاشتراك ، فضعف بأن يكون فاعل من اللقاء من باب : عاقبت اللص ، حيث إن مادة اللقاء تقتضي الاشتراك ، سواء كان بصيغة المجرد أو بصيغة فاعل .

وهذه الإضافة غير محضة ، لأنها إضافة اسم الفاعل بمعنى الاستقبال .

وقد تقدم لنا الكلام على اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال ، أو الاستقبال بالنسبة إلى أعماله في المفعول ، وإضافته إليه ، وإضافته إلى الرب ، وإضافة الرب إليهم في غاية من الفصاحة ، وذلك أن الرب على أي محامله حملته فيه دلالة على الإحسان لمن يربه ، وتعطف بين لا يدل عليه غير لفظ الرب .

وقد اختلف المفسرون في معنى ملاقاة ربهم ، فحمله بعضهم على ظاهره من غير حذف ولا كناية بأن اللقاء هو رؤية الباري تعالى ، ولا لقاء أعظم ولا أشرف منها ، وقد جاءت بها السنة المتواترة ، وإلى اعتقادها ذهب أكثر المسلمين ، وقيل ذلك على حذف مضاف ، أي جزاء ربهم ، لأن الملاقاة بالذوات مستحيلة في غير الرؤية ، وقيل ذلك كناية عن انقضاء أجلهم كما يقال لمن مات قد لقي الله ، ومنه قول الشاعر :

غداً نلقى الأحبة*** محمداً وصحبه

وكنى بالملاقاة عن الموت ، لأن ملاقاة الله متسبب عن الموت ، فهو من إطلاق المسبب ، والمراد منه السبب ، وذلك أن من كان يظن الموت في كل لحظة لا يفارق قلبه الخشوع ، وقيل ذلك على حذف مضاف أخص من الجزاء ، وهو الثواب ، أي ثواب ربهم .

فعلى هذا القول ، والقول الأول ، يكون الظن على بابه من كونه يراد به الترجيح ، وعلى تقدير الجزاء ، أو كون الملاقاة يراد بها انقضاء الأجل ، يكون الظن يراد به التيقن .

وقد نازعت المعتزلة في كون لفظ اللقاء لا يراد به الرؤية ولا يفيدها .

ألا ترى إلى قوله تعالى : { فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه } والمنافق لا يرى ربه { واعلموا أنكم ملاقوه } ويتناول الكافر والمؤمن ؟ وفي الحديث : « لقي الله وهو عليه غضبان » إلى غير ذلك مما ذكروه .

وقد تكلم على ذلك أصحابنا .

ومسألة الرؤية يتكلم عليها في أصول الدين .

{ وأنهم إليه راجعون } : اختلف في الضمير في إليه على من يعود ، فظاهر الكلام والتركيب الفصيح أنه يعود إلى الرب ، وأن المعنى : وأنهم إلى ربهم راجعون ، وهو أقرب ملفوظ به .

وقيل : يعود على اللقاء الذي يتضمنه ملاقو ربهم .

وقيل : يعود على الموت .

وقيل : على الإعادة ، وكلاهما يدل عليه ملاقو .

وقد تقدم شرح الرجوع ، فأغنى عن إعادته هنا .

وقيل : بالقول الأول ، وهو أن الضمير يعود على الرب ، فلا يتحقق الرجوع ، فيحتاج في تحققه إلى حذف مضاف ، التقدير : إلى أمر ربهم راجعون .

وقيل : المعنى بالرجوع : الموت .

وقيل : راجعون بالإعادة في الآخرة ، وهو قول أبي العالية .

وقيل : راجعون إلى أن لا يملك أحدهم ضراً ولا نفعاً لغيره ، كما كانوا في بدء الخلق .

وقيل : راجعون ، فيجزيهم بأعمالهم ، وليس في قوله : وأنهم إليه راجعون دلالة للمجسمة والتناسخية على كون الأرواح قديمة ، وإنما كانت موجودة في عالم الروحانيات .

قالوا : لأن الرجوع إلى الشيء المسبوق بالكون عنده .