الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمۡ وَأَنَّهُمۡ إِلَيۡهِ رَٰجِعُونَ} (46)

قوله تعالى : { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } : " الذين " يَحتملُ موضعُه الحركاتِ الثلاثَ ، فالجرُّ على أنه تابعٌ لِما قَبْلَه نعتاً ، وهو الظاهرُ ، والرفعُ والنصبُ على القَطْع ، وقد تقدَّم معناه . وأصلُ الظنِّ : رُجْحانُ أحدِ الطرفينِ وأمَّا هذه الآيةُ ففيها قولانِ ، أحدُهما وعليه الأكثرُ أنَّ الظنَّ ههنا بمعنى اليقين ومثلُه : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقة : 20 ] ، وقوله :

فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ *** سَرَاتُهُمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ

وقال أبو دُؤاد :

رُبَّ همٍّ فَرَّجْتُه بعَزيمٍ *** وغُيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنونِ

فاستُعْمِلَ الظنَّ استعمالَ اليقينِ مجازاً ، كما استُعْمِل العِلْمُ استعمالَ الظنِّ كقولِه : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } [ الممتحنة : 10 ] ولكنَّ العربَ لا تَسْتَعْمِلُ الظنَّ استعمالَ اليقين إلا فيما لم يَخْرُجْ إلى الحِسِّ والمشاهدةِ كالآيتين والبيت ، ولا تَجِدُهم يقولون في رجل مَرْئيٍّ حاضراً : أظنُّ هذا إنساناً .

والقولُ الثاني : أنَّ الظنَّ على بابِه وفيه حينئذٍ تأويلان ، أحدُهما ذَكَره المهدوي والماوَرْدي وغيرُهما : أن يُضْمَر في الكلام " بذنوبهم " فكأنهم يتوقَّعون لقاءَه مُذْنِبين . قال ابن عطية : " وهذا تعسُّفٌ " والثاني من التأويلين : أنهم يظنُّون ملاقاةَ ثوابِ ربهم لأنهم ليسوا قاطِعين بالثوابِ دونَ العقاب ، والتقديرُ : يَظُنُّون أنهم ملاقُو ثوابِ ربِّهم ، ولكن يُشْكِلُ على هذا عَطْفُ { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } فإنه لا يَكْفي فيه الظنُّ ، هذا إذا أَعَدْنا الضميرَ في " إليه " على الربِّ سبحانه وتعالى ، أمَّا إذا أَعَدْناه على الثوابِ المقدَّر فيزولُ الإِشكالُ أو يُقالُ : إنه بالنسبةِ إلى الأول بمعنى الظنِّ على بابه ، وبالنسبةِ إلى الثاني بمعنى اليقينِ ، ويكونُ قد جَمَعَ في الكلمةِ الواحدةِ بين الحقيقةِ والمجازِ ، وهي مسألةُ خلافٍ و " أن " وما في حَيِّزها سادَّةٌ [ مَسَدَّ ] المفعولَيْنِ عندَ الجمهورِ ، ومسدَّ الأولِ ، والثاني محذوفٌ عند الأخفش ، وقد تقدَّم تحقيقُه .

و { مُّلاَقُو رَبِّهِمْ } من باب إضافةِ اسم الفاعل لمعموله إضافةً تخفيفٍ لأنه مستقبلٌ ، وحُذِفَتِ النونُ للإِضافة ، والأصلُ : مُلاقونَ ربِّهم . والمفاعلةُ هنا بمعنى الثلاثي نحو : عافاك الله ، قاله المهدوي : قال ابن عطية : وهذا ضعيفٌ ، لأنَّ " لَقِيَ " يتضمَّن معنى " لاقى " . كأنه يَعْني أن المادةَ لذاتها تقتضي المشاركةَ بخلافِ غيرِها من : عاقَبْت وطارقت وعافاك . وقد تقدَّم أن في الكلام حَذْفاً تقديرُه : ملاقو ثوابِ ربِّهم وعقابِه . قال ابن عطية : " ويَصِحُّ أن تكونَ الملاقاةُ هنا الرؤيةَ التي عليها أهلُ السُّنَّةِ وورد بها متواترُ الحديث " ، فعلى هذا الذي قاله لا يُحْتاج إلى حَذْفِ مضاف . { وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } عَطْفٌ على " أَنَّهم " وما في حَيِّزها ، و " إليه " متعلق ب " راجعون " ، والضميرُ : إمَّا للربِّ سبحانَه أو الثَّوابِ كما تقدَّم ، أو اللقاءِ المفهوم من " مُلاقُو " .