ف { قَالَ } لهم يوسف عليه السلام ، كرما وجودا : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } أي : لا أثرب عليكم ولا ألومكم { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } فسمح لهم سماحا تاما ، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب السابق ، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة ، وهذا نهاية الإحسان ، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين .
فرد عليهم يوسف - عليه السلام - بقوله : { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين } .
والتثريب : التعبير والتوبيخ والتأنيب . وأصله كما يقول الآلوسى : من الثرب ، وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش . . . فاستعير للتأنيب الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه ، لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال ، كما أنه بالتأنيب واللوم تظهر العيوب ، فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال .
أى : قال يوسف لإِخوته على سبيل الصفح والعفو يا إخوتى : لا لوم ولا تأنيب ولا تعيير عليكم اليوم ، فقد عقوت عما صدر منكم في حقى وفى حق أخى من أخطاء وآثام وأرجو الله - تعالى - أن يغفر لكم ما فرط منكم من ذنوب وهو - سبحانه - أرحم الراحمين بعباده .
وقوله { لاَ تَثْرِيبَ } اسم لا النافية للجنس ، و { عَلَيْكُمُ } متعلق بمحذوف خبر لا ، و { اليوم } متعلق بذلك الخبر المحذوف .
أى : لا تقريع ولا تأنيب ثابت أو مستقر عليكم اليوم .
وليس التقييد باليوم لإِفادة أن التقريع ثابت في غيره ، بل المراد نفيه عنهمفى كل ما مضى من الزمان ، لأن الإِنسان إذا لم يوبخ صاحبه في أول لقاء معه على أخطائه فلأن يترك ذلك بعد أول لقاء أولى .
يقابله يوسف بالصفح والعفو وإنهاء الموقف المخجل . شيمة الرجل الكريم . وينجح يوسف في الابتلاء بالنعمة كما نجح من قبل في الابتلاء بالشدة . إنه كان من المحسنين .
( قال : لا تثريب عليكم اليوم . يغفر الله لكم ، وهو أرحم الراحمين ) . .
لا مؤاخذة لكم ولا تأنيب اليوم . فقد انتهى الأمر من نفسي ولم تعد له جذور . والله يتولاكم بالمغفرة وهو أرحم الراحمين .
{ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } يقول : لا تأنيب عليكم ولا عَتْب عليكم اليوم ، ولا أعيد{[15286]} ذنبكم في حقي بعد اليوم .
ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة فقال : { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
قال السدي : اعتذروا إلى يوسف ، فقال : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } يقول : لا أذكر لكم ذنبكم .
وقال ابن إسحاق والثوري : { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ [ الْيَوْمَ ] } {[15287]} أي : لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم { يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ } أي : يستر الله عليكم فيما فعلتم ، { وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قال يوسف لإخوته : لا تَثْرِيبَ يقول : لا تغيير عليكم ولا إفساد لما بيني وبينكم من الحُرْمة وحقّ الأخوّة ، ولكن لكم عندي الصفح والعفو .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم لم يثرّب عليهم أعمالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزّبير ، قوله : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ قال : قال سفيان : لا تغيير عليكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ : أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ ، قال : اعتذروا إلى يوسف ، فقال : لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ يقول : لا أذكر لكم ذنبكم .
و قوله : يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ وهذا دعاء من يوسف لإخوته بأن يغفر الله لهم ذنبهم فيما أتوا إليه وركبوا منه من الظلم ، يقول : عفا الله لكم عن ذنبكم وظلمكم ، فستره عليكم وَهُوَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ يقول : والله أرحم الراحيم لمن تاب من ذنبه وأناب إلى طاعته بالتوبة من معصيته . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : يَغْفُر اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أرْحَمُ الرّاحِمينَ حيث اعترفوا بذنبهم .
{ قال لا تثريب عليكم } لا تأنيب عليكم تفعيل من الثرب وهو الشحم الذي يغشى الكرش للإزالة كالتجليد ، فاستعير للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب ماء الوجه . { اليوم } متعلق بال { تثريب } أو بالمقدر للجار الواقع خبرا لل { لا تثريب } والمعنى لا أثربكم اليوم الذي هو مظنته فما ظنكم بسائر الأيام أو بقوله : { يغفر الله لكم } لأنه صفح عن جريمتهم حينئذ واعترفوا بها . { وهو أرحم الراحمين } فإنه يغفر الصغائر والكبائر ويتفضل على التائب ، ومن كرم يوسف عليه الصلاة والسلام أنهم لما عرفوه أرسلوا إليه وقالوا : إنك تدعونا بالبكرة والعشي إلى الطعام ونحن نستحي منك لما فرط منا فيك ، فقال درهما ما بلغ ، ولد شرفت بكم وعظمت في عيونهم حيث علموا أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه الصلاة والسلام .
وقوله : { لا تثريب عليكم } عفو جميل ، وقال عكرمة : أوحى الله إلى يوسف : بعفوك على إخوتك رفعت لك ذكرك ؛ وفي الحديث : أن أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية لما وردا مهاجرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنهما لقبح فعلهما معه قبل ، فشق ذلك عليهما وأتيا أبا بكر فكلفاه الشفاعة ، فأبى ، وأتيا عمر فكذلك ، فذهب أبو سفيان بن الحارث إلى ابن عمه علي ، وذهب عبد الله إلى أخته أم سلمة ، فقال علي رضي الله عنه : الرأي أن تلقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفل فتصيحان به : { تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين } فإنه لا يرضى أن يكون دون أحد من الأنبياء فلا بد لذلك أن يقول : لا تثريب عليكما ، ففعلا ذلك ، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تثريب عليكم } الآية{[6824]} .
والتثريب : اللوم والعقوبة وما جرى معهما من سوء معتقد ونحوه ، وقد عبر بعض الناس عن التثريب بالتعيير ، ومنه قول النبي عليه السلام : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب »{[6825]} ، أي لا يعير ، أخرجه الشيخان في الحدود .
ووقف بعض القرأة { عليكم } وابتدأ { اليوم يغفر الله لكم } ووقف أكثرهم : { اليوم } وابتدأ { يغفر الله لكم } على جهة الدعاء - وهو تأويل ابن إسحاق والطبري ، وهو الصحيح - و { اليوم } ظرف ، فعلى هذا فالعامل فيه ما يتعلق به { عليكم } تقديره : لا تثريب ثابت أو مستقر عليكم اليوم . وهذا الوقف أرجح في المعنى ، لأن الآخر فيه حكم على مغفرة الله ، اللهم إلا أن يكون ذلك بوحي .
لذلك أعلمهم بأن الذنب قد غفر فرفع عنهم الذم فقال : { لا تثريب عليكم } .
والتثريب : التوبيخ والتقريع . والظاهر أن منتهى الجملة هو قوله : { عليكم } ، لأن مثل هذا القول مِمّا يجري مجرى المثل فيُبنى على الاختصار فيكتفي ب { لا تثريب } مثل قولهم : لا بأس ، وقوله تعالى : { لا وزر } [ القيامة : 11 ] .
وزيادة { عليكم } للتأكيد مثل زيادة { لَك } بعد ( سقياً ورعياً ) ، فلا يكون قوله : { اليوم } من تمام الجملة ولكنه متعلق بفعل { يغفر الله لكم } .
وأعقب ذلك بأن أعلمهُم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة لأنها ساعة توبة ، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم .
وأطلق { اليوم } على الزمن ، وقد مضى عند قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } في أول سورة العقود ( 3 ) .