مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَالَ لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّـٰحِمِينَ} (92)

واعلم أنهم لما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم مجرمين خاطئين قال يوسف : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم } وفيه بحثان :

البحث الأول : التثريب التوبيخ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : «إذا زنت أمة أحدكم فليضربها الحد ولا يثربها » أي ولا يعيرها بالزنا ، فقوله : { لا تثريب } أي لا توبيخ ولا عيب وأصل التثريب من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش . ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد إزالة الجلد قال عطاء الخراساني طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ ألا ترى إلى قول يوسف عليه السلام لإخوته { لا تثريب عليكم } وقوله يعقوب : { سوف أستغفر لكم ربى } .

البحث الثاني : إن قوله : { اليوم } متعلق بماذا وفيه قولان :

القول الأول : إنه متعلق بقوله : { لا تثريب } أي لا أثر بكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بسائر الأيام ، وفيه احتمال آخر وهو أني حكمت في هذا اليوم بأن لا تثريب مطلقا لأن قوله : { لا تثريب } نفي للماهية ونفي الماهية يقتضي انتفاء جميع أفراد الماهية ، فكان ذلك مفيدا للنفي المتناول لكل الأوقات والأحوال . فتقدير الكلام اليوم حكمت بهذا الحكم العام المتناول لكل الأوقات والأحوال ثم إنه لما بين لهم أنه أزال عنهم ملامة الدنيا طلب من الله أن يزيل عنهم عقاب الآخرة فقال : { يغفر الله لكم } والمراد منه الدعاء .

والقول الثاني : أن قوله : { اليوم } متعلق بقوله : { يغفر الله لكم } كأنه لما نفى التثريب مطلقا بشرهم بأن الله غفر ذنبهم في هذا اليوم ، وذلك لأنهم لما انكسروا وخجلوا واعترفوا وتابوا فالله قبل توبتهم وغفر ذنبهم ، فلذلك قال : { اليوم يغفر الله لكم } روي أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح ، وقال لقريش : « ما تروني فاعلا بكم » فقالوا نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت ، فقال : « أقول ما قال أخي يوسف لا تقريب تثريب اليوم » وروي أن أبا سفيان لما جاء ليسلم قال له العباس : إذا أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتل عليه : { قال لا تثريب عليكم اليوم } ففعل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « غفر الله لك ولمن علمك » وروي أن إخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تحضرنا في مائدتك بكرة وعشيا ونحن نستحي منك لما صدر منا من الإساءة إليك ، فقال يوسف عليه السلام إن أهل مصر وإن ملكت فيهم فإنهم ينظروني بالعين الأولى ويقولون : سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ، ولقد شرفت الآن بإتيانكم وعظمت في العيون لما جئتم وعلم الناس أنكم إخوتي وإني من حفدة إبراهيم عليه السلام .