قوله تعالى : { وإذا قيل له اتق الله } . أي خف الله .
قوله تعالى : { أخذته العزة بالإثم } . أي حملته العزة وحمية الجاهلية على الفعل بالإثم أي بالظلم ، والعزة : التكبر والمنعة ، وقيل معناه : أخذته العزة للإثم الذي في قلبه ، فأقام الباء مقام اللام .
قوله تعالى : { فحسبه جهنم } . أي كافيه .
قوله تعالى : { ولبئس المهاد } . أي الفراش ، قال عبد الله بن مسعود : إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال : للعبد اتق الله ، فيقول : عليك بنفسك . وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب : اتق الله ، فوضع خده على الأرض تواضعاً لله عز وجل .
ثم ذكر أن هذا المفسد في الأرض بمعاصي الله ، إذا أمر بتقوى الله تكبر وأنف ، و { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ } فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر{[133]} على الناصحين .
{ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } التي هي دار العاصين والمتكبرين ، { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : المستقر والمسكن ، عذاب دائم ، وهم لا ينقطع ، ويأس مستمر ، لا يخفف عنهم العذاب ، ولا يرجون الثواب ، جزاء لجناياتهم ومقابلة لأعمالهم ، فعياذا بالله من أحوالهم .
أما الصفة الخامسة لهذا النوع من الناس فهي قوله - تعالى - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } أي : وإذا قيل لهذا المنافق على سبيل النصح والإِرشاد اتق الله واترك ما أنت فيه من نفاق وخداع وخروج عن طاعة الله ، استولت عليه العزة - أي حمية الجاهلية - مقترنة بالإِثم ومصاحبة له ، فهي ليست العزة المحمودة ولكنها الكبرياء المبغوضة . والباء على هذا المعنى للمصاحبة والاقتران .
قال الجمل . والباء على هذا تكون في محل نصب على الحال وفيها حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون حالا من العزة أي ملتبسة بالإِثم .
والثاني : أن تكون حالا من المفعول . أي : أخذته كال كونه ملتبسا بالإِثم ، وفي قوله العزة بالإِثم التتميم وهو نوع من علم البديع ، وهو عبارة عن إرداف الكلمة بأخرى ترفع عنها للبس وتقربها من الفهم ، وذلك أن العزة تكون محمودة ومذمومة فمن مجيئها محمودة قوله - تعالى { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } فلو أطلقت لتوهم فيها بضع من لا دراية له أنها محمودة ، فقثيل بالإِثم توضيحاً للمراد فرفع اللبس ، ويجوز أن تكون الباء للتعدية - وهو قول الزمخشري - فإنه قال : أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه . أي : حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإِثم الذي ينهى عنه وألزمته ارتكابه ، ويجوز أن تكون للسببية بمعنى أن إِثمه كان سبباً لأخذ العزة له " .
أي : استولت عليه حمية الجاهلية بسبب الإِثم الذي استحوذ على قلبه فأنساه كل ما يوصل إلى الصلاح والاستقامة .
و " ال " في العزة للعهد . أي : العزة المعهودة المعروفة عند أهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول النصيحة .
قال الأستاذ الإِمام محمد عبده مرجحاً ما ذهب إليه من أن " تولى " بمعنى الولاية والإِمارة : " وهذا الوصف ظاهر جداً في تفسير التولى بالولاية والسلطة ، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة ، أو يحذر من مفسدة ، لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجلعه أعلى الناس رأيا وأرجحهم عقلا ، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله - تعالى - يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة ، فيجب أن يكون أفن رأيه خيراً من جودة آرائهم ، وإفساده نافذاً مقبولا دون إصلاحهم ، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له : اتق الله في كذا . . . " .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من هذه صفاته فقال : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد } .
الفاء هنا للإِفصاح ، لأنها تفصح عن شرط محذوف تقديره : إذا كانت هذه حالة المعرض عن النصح أنفة وتكبراً { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } أي : كافية جهنم جزاء له { وَلَبِئْسَ المهاد } أي : كافية جهنم جزاء له { وَلَبِئْسَ المهاد } أي : ولبئس الفراش الذي يستقر عليه بسبب غروره وفجوره .
وقوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } جملة من مبتدأ وخبر ، وقوله { وَلَبِئْسَ المهاد } جواب قسم مقدر .
أي : والله والمخصوص بالذم محذوف لظهوره وتعينه وهو جهنم . والمهاد جمع مهد وهو المكان المهيأ للنوم ، والتعبير عن جهنم بالهاد من باب التهم والاستهزاء بهذا النوع المغرور المفسد من الناس .
هذا وقد أورد بعض المفسرين في سبب نزول هذه الآيات منها أنها نزلت في الأخنس ابن شريق الثقفي أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فأظهر الإِسلام وزعم أنه يحبه وأقسم بالله على ذلك ، غير أنه كان منافقاً خبيث الباطن ، فخرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل بعض الماشية فنزلت .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه بعد أن ساق هذه الرواية وغيرها : واختيار أكثر المحققين من المفسرين أن هذه الآيات عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة . . . ولا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفاً بتلك الصفات ، ونزولها على السبب الذي حكيناه لا يمنع من العموم ، وهو من وجوه .
أحدها : أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية ، فلما ذم الله - تعالى - قوماً وصفهم بصفات توجب استحقاق الذم ، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات ، فيلزم أن كل من كان موصوفاً بتلك الصفات أن يكون مستوجباً للذم .
وثانيها : أن الحمل على العموم أكثر فائدة ، وذلك لأنه يكون زجراً لكل المكلفين عن تلك الطريقة المذمومة .
وثالثها : أن هذا أقرب إلى الاحتياط ، لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص ، وِإما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره ، فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى " .
هذا ، وفي هذه الآيات الكريمة زجر شديد ووعيد أليم للمنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ويفسدون في الأرض ولا يصلحون ، ويكادون يسطون بالذين ينصحونهم ويتلون عليهم آيات الله لأن المنافقين ما كثروا في أمة إلا وجعلوا بأسها بينها شديدا ، روى ابن جرير عن نوف البكالي قال : إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل : قوم يحتالون على الدنيا بالدين ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، يلبسون للناس مسوك - أي جلود - الضأن وقلوبهم الذئاب يقول الله - تعالى - فعلى يجترثون وبي يغترون ، حلفت بنفسي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم حيران " .
قال ابن كثير : قال القرظي الذي روى هذا القول عن نوف : تدبرت هذه الصفات في القرآن فإذا هي في المنافقين ووجدتها في قوله - تعالى { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } .
والحق أنه ما ابتليت أمة بتفشي هذا النوع من الناس فيها إلا فسد حالها وهان شأنها وكانت عاقبة أمرها خسرا .
ويمضي السياق يوضح معالم الصورة ببعض اللمسات :
( وإذا قيل له : اتق الله أخذته العزة بالإثم . فحسبه جهنم ولبئس المهاد ) . .
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض ؛ وأهلك الحرث والنسل ؛ ونشر الخراب والدمار ؛ وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد . . إذا فعل هذا كله ثم قيل له : ( اتق الله ) . . تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه . . أنكر أن يقال له هذا القول ؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى ؛ وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب . وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن( بالإثم ) . . فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة ، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به ، وامام الله بلا حياء منه ؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه ؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء !
إنها لمسة تكمل ملامح الصورة ، وتزيد في قسماتها وتمييزها بذاتها . . وتدع هذا النموذج حيا يتحرك . تقول في غير تردد : هذا هو . هذا هو الذي عناه القرآن ! وأنت تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن !
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم ؛ واللدد في الخصومة ؛ والقسوة في الفساد ؛ والفجور في الإفساد . . في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة :
( فحسبه جهنم ، ولبئس المهاد ! ) . .
حسبه ! ففيها الكفاية ! جهنم التي وقودها الناس والحجارة . جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون . جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة . جهنم التي لا تبقي ولا تذر . جهنم التي تكاد تميز من الغيظ ! حسبه جهنم ( ولبئس المهاد ! )ويا للسخرية القاصمة في ذكر( المهاد )هنا . . ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء !
وقوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ } أي : إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله ، وقيل له : اتق الله ، وانزع عن قولك وفعلك ، وارجع إلى الحق - امتنع وأبى ، وأخذته الحميَّة والغضب بالإثم ، أي : بسبب ما اشتمل عليه من الآثام ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } [ الحج : 72 ] ، ولهذا قال في هذه الآية : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي : هي كافيته عقوبة في ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ }
يعني بذلك جل ثناؤه : وإذا قيل لهذا المنافق الذي نعت نعته لنبيه عليه الصلاة والسلام وأخبره أنه يعجبه قوله في الحياة الدنيا : اتقّ الله ، وخَفْهُ في إفسادك في أرض الله ، وسعيك فيها بما حرّم الله عليك من معاصيه ، وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم استكبر ودخلته عزّة وحمية بما حرّم الله عليه ، وتمادى في غيه وضلاله . قال الله جل ثناؤه : فكفاه عقوبة من غيه وضلاله صِلِيّ نار جهنم ولبئس المهاد لصاليها .
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية ، فقال بعضهم : عنى بها كل فاسق ومنافق . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، قال : حدثنا بسطام بن مسلم ، قال : حدثنا أبو رجاء العطاردي ، قال : سمعت عليا في هذه الآية : وَمِنَ النّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحَياة الدّنْيا إلى : وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ قال عليّ : اقتتلا وربّ الكعبة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَإذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أخَذَتْهُ العِزّةُ بالإْثمِ إلى قوله : وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ قال : كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السبحة وفرغ دخل مربدا له ، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن ، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة ، قال : فيأتون فيقرءون القرآن ويتدارسونه ، فإذا كانت القائلة انصرف . قال فمروا بهذه الآية : وَإذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أخَذِتْهُ العِزّةُ بالإثْمِ وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ قال ابن زيد : وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله . فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه : اقتتل الرجلان . فسمع عمر ما قال ، فقال : وأيّ شيء قلت ؟ قال : لا شيء يا أمير المؤمنين . قال : ماذا قلت ؟ اقتتل الرجلان ؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال : أرى ههنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم ، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل وأخذته العزّة بالإثم ، قال هذا : وأنا أشتري نفسي فقاتله ، فاقتتل الرجلان . فقال عمر : لله تلادك يا ابن عباس .
وقال آخرون : بل عنى به الأخنس بن شريق ، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى .
وأما قوله : وَلَبِئْس المِهادُ فإنه يعني : ولبئس الفراش والوطاء : جهنم التي أوعد بها جل ثناؤه هذا المنافق ، ووطأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرّده على ربه .
{ وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإثم الذي يؤمر بإتقانه لجاجا ، من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه . { فحسبه جهنم } كفته جزاء وعذابا ، و{ جهنم } علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار . وقيل معرب . { ولبئس المهاد } جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به ، والمهاد الفراش . وقيل ما يوطأ للجنب .
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ( 206 )
وقوله تعالى : { وإذا قيل له اتق الله } الآية ، هذه صفة الكافر أو المنافق الذاهب بنفسه زهواً ، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا .
وقال بعض العلماء : كفى بالمرء إثماً أن يقول له أخوه اتق الله فيقول له : عليك نفسك ، مثلك يوصيني ؟ . والعزة هنا المنعة وشدة النفس ، أي اعتز في نفسه وانتحى( {[1933]} ) فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته به وألزمته إياه ، ويحتمل لفظ الآية أن يكون أخذته العزة مع الإثم ، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلين( {[1934]} ) ، و { حسبه } أي كافيه معاقبة وجزاء ، كما تقول للرجل كفاك ما حل بك ، وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل به ، و { المهاد } ما مهد الرجل لنفسه كأنه الفراش ، ومن هذا الباب( {[1935]} ) قول الشاعر : [ الوافر ]
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ( {[1936]} ) . . .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم}: الحمية. {فحسبه جهنم} شدة عذاب. {ولبئس المهاد}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وإذا قيل لهذا المنافق الذي نعت نعته لنبيه عليه الصلاة والسلام وأخبره أنه يعجبه قوله في الحياة الدنيا: اتقّ الله، وخَفْهُ في إفسادك في أرض الله، وسعيك فيها بما حرّم الله عليك من معاصيه، وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم،استكبر ودخلته عزّة وحمية بما حرّم الله عليه، وتمادى في غيه وضلاله. قال الله جل ثناؤه: فكفاه عقوبة من غيه وضلاله صِلِيّ نار جهنم ولبئس المهاد لصاليها.
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية؛ فقال بعضهم: عنى بها كل فاسق ومنافق... حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وَإذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أخَذَتْهُ العِزّةُ بالإْثمِ" إلى قوله: "وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ "قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السبحة وفرغ دخل مربدا له، فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة، قال: فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمروا بهذه الآية: "وَإذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أخَذِتْهُ العِزّةُ بالإثْمِ... وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بالعِبادِ" قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله. فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان. فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزّة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي فقاتله، فاقتتل الرجلان. فقال عمر: لله تلادك يا ابن عباس.
وقال آخرون: بل عنى به الأخنس بن شريق.
"وَلَبِئْس المِهادُ": ولبئس الفراش والوطاء: جهنم التي أوعد بها جل ثناؤه هذا المنافق، ووطأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرّده على ربه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم}: {قيل له اتق الله} عن صنيعك، وهو السعي في الأرض بالفساد، حملته الحمية على الإثم تكبرا منه، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم {فحسبه جهنم ولبئس المهاد} يقول، والله أعلم: أعرض عنه، واتركه وصنيعه، فإن جهنم مصيره ومأواه.
روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {إن أبغض الناس من يقال له: اتق الله، فيقول: عليك نفسك}...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبُّر، وزال عنهم خضوعُ الإنصاف؛ فَشَمَخَتْ آنافُهم عن قبول الحق فإِذا أمرته بمعروف قال: ألمثلى يقال هذا؟! وأنا كذا وكذا! ثم يكبر عليك... فيقول: وأنت أَوْلى بأن تؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا. و لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة، وتقلَّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه، ونبهه على سوء وصفه، لم يطوِ على نصيحة جنبيه وتبقى في القلب -إلى سنين- آثارها...
قال تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} يعني ما هو فيه في الحال من الوحشة وظلمات النَّفْس وضيق الاختيار حتى لا يسعى في شيء غير مراده، فيقع في كل لحظة غير مرة في العقوبة والمحنة، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر، قال الله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة: 21]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} من قولك: أخذته بكذا، إذا حملته عليه وألزمته إياه، أي حملته العزة التي فيه وحمية الجاهلية على الإثم الذي ينهى عنه، وألزمته ارتكابه، وأن لا يخلي عنه ضراراً ولجاجاً. أو على ردّ قول الواعظ.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {وإذا قيل له اتق الله} الآية، هذه صفة الكافر أو المنافق الذاهب بنفسه زهواً، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في نحو هذا...
والعزة هنا المنعة وشدة النفس، أي اعتز في نفسه وانتحى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته به وألزمته إياه، ويحتمل لفظ الآية أن يكون أخذته العزة مع الإثم، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلين...
في الآية مسائل، منها: أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة؛
أولها: اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا.
وثانيها: استشهاده بالله كذبا وبهتانا.
وثالثها: لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل.
وخامسها: سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح.
وظاهر قوله: {إذا قيل له اتق الله} فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل: اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد، وفي اللجاج الباطل، وفي الاستشهاد بالله كذلك، وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض...
أما قوله تعالى: {فحسبه جهنم} قال المفسرون: كافيه جهنم جزاء له وعذابا يقال: حسبك درهم أي كفاك وحسبنا الله، أي كافينا الله، وأما جهنم فقال يونس وأكثر النحويين: هي اسم للنار التي يعذب الله بها في الآخرة وهي أعجمية وقال آخرون. جهنم اسم عربي سميت نار الآخرة بها لبعد قعرها.
وقال بعض العلماء: المهاد الفراش للنوم، فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك مهادا له وفراشا.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
جهنم: علم للنار وقيل: اسم الدرك الأسفل فيها، وهي عربية مشتقة من قولهم: ركية جهنام إذا كانت بعيدة القعر، وقد سمي الرجل بجهنام أيضاً فهو علم، وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة.
وفي قوله: {أخذته العزة بالإثم} نوع من البديع يسمى التتميم، وهو إرداف الكلام بكلمة يرفع عنه اللبس، وتقربه للفهم، كقوله تعالى: {ولا طائر يطير بجناحيه} وذلك أن العزة محمودة ومذمومة، فالمحمودة طاعة الله، كما قال: {أعزة على الكافرين} {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} {فإن العزة لله جميعاً} فلما قال: {بالإثم}، اتضح المعنى وتم، وتبين أنها العزة المذمومة المؤثم صاحبها. {فحسبه جهنم} أي: كافيه جزاءً وإذلالاً جهنم.
وقوبل على اعتزازه بعذاب جهنم، وهو الغاية في الذل، ولما كان قوله: اتق الله، حل به ما أمر أن يتقيه، وهو: عذاب الله.
وفي قوله: فحسبه جهنم، استعظام لما حل به من العذاب، كما تقول للرجل: كفاك ما حل بك! إذا استعظمت وعظمت عليه ما حل به.
وجعل ما أعد لهم مهاداً على سبيل الهزء بهم، إذ المهاد: هو ما يستريح به الإنسان ويوطأ له للنوم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان من الناس من يفعل الفساد فإذا نهى عنه انتهى بين أن هذا على غير ذلك تحقيقاً لألديته فقال مبشراً بأداة التحقيق بأنه لا يزال في الناس من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وإذا قيل له} من أي قائل كان {اتق الله} أي الملك الأعظم الذي كل شيء تحت قهره واترك ما أنت عليه من الفساد.
{أخذته} أي قهرته لما له من ملكة الكبر {العزة} في نفسه لما فيها من الكبرياء والاستهانة بأمر الله، وليس من شأن الخلق الاتصاف بذلك فإن العزة لله جميعاً {بالإثم} أي مصاحباً للذنب، وهو العمل الرذل السافل وما -لا يحل ويوجب العقوبة باحتقار الغير والاستكبار عليه.
ولما كان هذا الشأن الخبيث شأنه دائماً يمهد به لنفسه التمكين مما يريد سبب عنه قوله: {فحسبه} أي كفايته {جهنم} تكون مهاداً له كما مهد للفساد، وتخصيص هذا الاسم المنبئ عن الجهامة في المواجهة أي الاستقبال بوجه كريه لما وقع منه من المواجهة لمن أمره من مثله.
قال الحرالي: فلمعنى ما يختص بالحكم يسمي تعالى النار باسم من أسمائها...
{ولبئس المهاد} هي والمهاد موطن الهدوء والمستطاب مما يستفرش ويوطأ- قاله الحرالي، وقال: فيه إشعار بإمهال الله عزّ وجلّ لهذه الأمة رعاية لنبيها فأحسب فاجرها وكافرها بعذاب الآخرة، ولو عاجل مؤمنها بعقوبة الدينا فخلص لكافرها الدنيا ولمؤمنها الآخرة وأنبأ بطول المقام والخلود فيها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر من صفة المفسد ما يميز بينه وبين المخطئ فقال: {وإذا قيل له اتق الله أخذنه العزة بالإثم} أي أنه إذا أمر بمعروف أو نهي عن منكر يسرع إليه الغضب، ويعظم عليه الأمر، فتأخذه الكبرياء والأنفة، وتخطفه الحمية وطيش السفه، فيكون كالمأخوذ بالسحر، لا يستقيم له فكر، لأنه مصر على إفساد لا يبغي عنه حولا، وعبر عن الكبرياء والحمية بالعزة، للإشعار بوجه الشبهة للنفس الأمارة بالسوء وهو تخيلها النصح والإرشاد ذلة تنافي العزة المطلوبة.
قال شيخنا: هذا الوصف ظاهر جدا في تفسير التولي بالولاية والسلطة، فإن الحاكم الظالم المستبد يكبر عليه أن يرشد إلى مصلحة، أو يحذر من مفسدة، لأنه يرى أن هذا المقام الذي ركبه وعلاه يجعله أعلا الناس رأيا وأرجحهم عقلا، بل الحاكم المستبد الذي لا يخاف الله تعالى يرى نفسه فوق الحق كما أنه فوق أهله في السلطة، فيجب أن يكون أفن رأيه خيرا من جودة آرائهم، وإفساده نافذا مقبولا دون إصلاحهم، فكيف يجوز لأحد منهم أن يقول له: اتق الله في كذا؟ وأن الأمير منهم ليأتي أمرا فيظهر له ضرره في شخصه أو في ملكه ويود لو يهتدي السبيل إلى الخروج منه فيعرض له ناصح يشرع له السبيل فيأبى سلوكها، وهو يعلم أن فيها النجاة والفوز إلا أن يحتال الناصح في إشراعها فيجعله بصيغة لا تشعر بالإرشاد والتعليم، ولا بأن السيد المطاع في حاجة إليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض؛ وأهلك الحرث والنسل؛ ونشر الخراب والدمار؛ وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد.. إذا فعل هذا كله ثم قيل له: {اتق الله}.. تذكيرا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه.. أنكر أن يقال له هذا القول؛ واستكبر أن يوجه إلى التقوى؛ وتعاظم أن يؤخذ عليه خطأ وأن يوجه إلى صواب. وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن بالإثم.. فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يذكر به، وامام الله بلا حياء منه؛ وهو الذي كان يشهد الله على ما في قلبه؛ ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء!
وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم؛ واللدد في الخصومة؛ والقسوة في الفساد؛ والفجور في الإفساد.. في مواجهة هذا كله يجبهه السياق باللطمة اللائقة بهذه الجبلة النكدة: {فحسبه جهنم، ولبئس المهاد!}.. حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة. جهنم التي يكبكب فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة. جهنم التي لا تبقي ولا تذر. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم {ولبئس المهاد!} ويا للسخرية القاصمة في ذكر {المهاد} هنا.. ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} أي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك، والأخذ أصله تناول الشيء باليد، واستُعمل مجازاً مشهوراً في الاستيلاء قال تعالى: {وخذوهم واحصروهم} [التوبة: 5] وفي القهر نحو {فأخذناهم بالبأساء} [الأنعام: 42]. وفي التلقي مثل {أخذ الله ميثاق النبيين} [آل عمران: 81] ومنه أخذ فلان بكلام فلان، وفي الاحتواء والإحاطة يقال أخذته الحمى وأخذتهم الصيحة، ومنه قوله هنا {أخذته العزة} أي احتوت عليه عزة الجاهلية.
والعزة صفة يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيره ولا يُعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم ف (أَل) في (العزة) للعهد أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه، لأن العزة تقتضي معنى المنعة فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد} هذه حال الطغاة يرتكبون ما يرتكبون، وينزلون بالناس ما ينزلون، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وإذا كانت النوازل تنزل بالضعفاء لم يلتفتوا إليها لعماية الطغيان وفساد البصر والمدارك، فإذا تقدم أحد الناس مرشدا واعظا نهروه، وربما امتدت إليه أيديهم بالأذى، وأخذتهم العزة، أي الاستعلاء الجاهلي وحماقة الكبرياء، ودفعتهم الجرائم إلى إثم آخر فوق إثم الطغيان، و فوق ما ارتكبوا من آثام، وما أنزلوا بالضعفاء من آلام.
[و] المعنى: أخذتهم العزة الغاشمة والعنجهية الظالمة بسبب الإثم الذي استغرق قلوبهم وأحاط بنفوسهم، أي أنهم لفرط ما ارتكبوا من آثام، قد أحاطت بهم خطيئاتهم فسدت مسارب الهداية إلى قلوبهم، فإذا سمعوا كلمة الرشاد لم يتقبلوها، وأنغضوا رءوسهم حاسبين أن ذلك إهانة لسلطانهم، وإصغار لشأنهم، وما هو في حقيقة الأمر إلا حماية للسلطان، وإكبار للأمر، وخصوصا إذا كان من ناصح أمين. و إذا كانت تلك حالهم فلا صلاح لهم في الدنيا، وهم في إحدى حالين وكلتاهما نتيجتها السوءى: إما أن يديل الله منهم في الدنيا، ويجعلهم عبرة المعتبرين، ويذيقهم وبال أمرهم في الدنيا، وتمامه في الآخرة.. وإما أن يمهلهم ويملي لهم حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويلقى بهم في نار جهنم، ولذا قال سبحانه: {فحسبه جهنم ولبئس المهاد}، الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت هذه حال ذلك الطاغي الفاجر: لا يقيم الحق، بل يفسد، ولا يطيع الناصح، بل يؤذيه، وربما يقتله، فالله كافيه ومتوليه، وهو العزيز المنتقم الجبار، والله سبحانه ينزل به العذاب الأليم، بإلقائه في نار الجحيم، فمعنى {فحسبه جهنم} أي جهنم هي التي تكفيه، بدل كلمة الحق التي كانت تؤذيه، {و لبئس المهاد} اللام هنا تنبئ عن قسم مقدر وهي داخلة على جوابه.
والآية هنا تتعرض لشيء يدل على فطنة المؤمنين، إن الآية فضحت من نافق. وكان الأخنس عمدة في النفاق، وفضيحة المنافق بهذه الصورة، تدل على أن وراء محمد صلى الله عليه وسلم ووراء المؤمنين بمحمد، ربا يخبرهم بمن يدلس عليهم، وأيضا ينبههم لضرورة أن تكون لهم فطنة بدليل قول الحق: {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد 206} ولا يقال له اتق الله إلا إذا كان قد عرف أنه منافق، وماداموا قد قالوا له ذلك فهذا دليل على أن فطنتهم لم يجز عليها هذا النفاق.
ونفهم من هذه الآية أن المؤمن كيّس فطن، ولابد أن ينظر إلى الأشياء بمعيار اليقظة العقلية، ولا يدع نفسه لمجرد الصفاء الرباني ليعطيه القضية، بل يريد الله أن يكون لكل مؤمن ذاتية وكياسة.
{وإذا قيل له اتق الله} فكأن المظهر الذي يقول أو يفعل به، وينافي التقوى؛ لأنه قول معجب لا ينسجم مع باطن غير معجب، صحيح أنه يصلي في الصف الأول، ويتحمس لقضايا الدين، ويقول القول الجميل الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم ويعجب المؤمنين، لكنه سلوك وقول صادر عن نية فاسدة.
ومعنى {اتق الله} أي ليكن ظاهرك موافقا لباطنك، فلا يكفي أن تقول قولا يعجب، ولا يكفي أن تفعل فعلا يروق الغير؛ لأن الله يحب أن يكون القول منسجما مع الفعل، وأن يكون فعل الجوارح منسجما مع نيات القلب. {فحسبه} أي يكفيه هذا فضيحة لعزته بالإثم،
وأما كلمة {مهاد} فمعناها شيء ممهد وموطأ، أي مريح في الجلوس والسير والإقامة. ولذلك يسمّون فراش الطفل المهد. وهل المهاد بهذه الصورة يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تماما؛ لأن الذي يجلس في المهاد لا إرادة له في أن يخرج منه، كالطفل فلا قوة له في أن يغادر فراشه. إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على إبعاضه. فإن كان المهاد بهذه الصورة في النار فهو بئس المهاد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّه} ووقف أمامه الناصحون والناقدون لينصحوه، ويُبيّنوا له خطأ السبيل التي يسير فيها، وليعظوه، ويوجهوه إلى خطّ التقوى الذي يدفعه إلى مراقبة اللّه في كلّ شؤون الحكم والحياة {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ}، فتمسك به والتزمه اعتزازاً به، فلم يستمع للنصائح، ولم يأخذ بالمواعظ؛ بل امتدّ في طغيانه واستعلى واستكبر في عملية إيحاء كاذب بأنه فوق مستوى النقد والشبهات، فهو الذي يعطي للآخرين برنامج العمل ويحدّد لهم مسيرة الحياة، فلا يجوز لأحد أن يحدّد له برنامجه ومسيرة حكمه.
وتختم الآية الصورة بالمصير الذي ينتظر مثل هذا الإنسان {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} يعذب فيها أشدّ العذاب، {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} الذي مهّده لنفسه بعمله وجريمته. تلك هي صورة هذا النموذج الذي يتمثّل بشخصية المنافق الذي يتحرّك في حقول الدِّين والسياسة والاجتماع في كلّ زمان ومكان، هذا الذي يبيع نفسه للشيطان في كلّ ما يمثّله من التواء وانحراف وإغراء وإغواء، من أجل أن يؤدي بنا إلى الانهيار والدمار من حيث لا نشعر ولا نريد.