اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (206)

قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ } : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها ، أَعْني : كونها مستأنفةً ، أو معطوفة على " يُعجِبُك " ، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ } [ البقرة : 11 ] .

قوله : " أخذَتْهُ العزَّةُ " ، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل .

قوله : " بالإثم " أي : بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ :

أحدها : أنْ تكونَ للتعديةِ ، وهو قول الزمخشري فإنه قال : " أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه ، وأَلْزَمْتهُ إياه ، أي : حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم ، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه " قال أبو حيان : " وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ ، نحو : { ذَهَبَ اللَّهُ } [ البقرة : 17 ] ، { وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ }

[ البقرة : 20 ] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو : " صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ " أي : جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ " .

الثاني : أَنْ تكونَ للسببيةِ ، بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له ؛ كما في قوله : [ الرمل ]

أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ *** فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ{[68]}

فتكونُ الباءُ بمعنى اللام ، فتقول : فعلت هذا بسببك ، ولسببك ، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ ، وبجنايَتِه .

الثالث : أن تكونَ للمصاحبة ؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، وفيها حينئذٍ وجهان :

أحدهما : أَنْ تكون حالاً مِنَ " العِزَّة " أي : مُلْتبسةً بالإِثمِ .

والثاني : أن تكونَ حالاً من المفعولِ ، أي : أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ .

قال القُرطبيُّ : وقيل : " الباءُ " بمعنى " مَعَ " أي : أخذته العِزَّةُ مع الإثم .

وفي قوله : " العِزَّةُ بالإِثْم " من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى ، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم ، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً .

فَمِنْ مَجِيئها محمودةً : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ المائدة : 54 ] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة ؛ فقيل : " بالإِثْمِ " تَتْمِيماً للمرادِ ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها .

فصل

اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا ، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ ، فالظاهِرُ مِنْ قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ } أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض ، فكأَنَّهُ قيل له : اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل ، وفي السَّعي بالفَسَادِ ، وفي اللَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً ، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا .

وقيل : قوله : { أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ } راجِعٌ إلى أنه قيل له : اتَّقِ اللَّهَ فقط ؛ على ما سيأتي ، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له : اتَّقِ الله ، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم ؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم .

و " العِزَّةُ " القوَّةُ والغلبةُ مِنْ : عَزَّهُ يَعُزُّه ، إِذا غلبهُ ، ومنه

{ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ } [ ص : 23 ] .

وقيل : العزَّةُ هُنا : الحمِيَّة ؛ قال الشَّاعرُ : [ الرَّمل ]

أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ *** فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ{[69]}

وقيل : العِزَّةُ هنا : المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ ، أي : اعتَزَّ في نفسه ، فأَوقعَتْهُ{[70]} تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ ، وألزمتْهُ إيَّاه .

قوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } ، " حَسْبُهُ " مبتدأٌ ، و " جهنَّمُ " خبرُه أي : كافيهم جهنَّمُ ، وقيل : " جَهَنَّمُ " فاعلٌ ب " حَسْبَ " ، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في " حَسْب " فَقِيل : هو بمعنى اسم الفاعلِ ، أي : الكافي ، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل ، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - سَدَّ مَسَدَّ الخبر ، وقَويَ " حَسْبُ " لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها ، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء . {[71]}

وقيل : بل " حَسْبُ " اسمُ فِعْلٍ ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ ؛ فقيل : اسمُ [ فِعْلٍ ] ماضٍ ، أي : كَفَاهُمْ وقِيل : فعلُ أمرٍ ، أي : لِيَكفِيهم ، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل .

وقد تلخَّصَ أَنَّ " حَسْب " هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ ، أو فِعْلُ أَمْر ؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ ؛ تقولُ : مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك ، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ ، ويكونُ مبتدأً ؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ ، وخبراً ؛ فلا يُجَرُّ بها ، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ ، ولا يؤَنَّثُ ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ .

و " جهنَّمُ " اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة : هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ ، وأَصْلُها كِهِنَّام ، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ .

وقيل : بل هي عربيةُ الأَصْلِ ، والقائلون ، بذلك اختلَفوا في نُونِها : هل هي زائدةٌ ، أمْ أصليةٌ ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ، ووزنُها " فَعَنَّلُ " مُشتقةٌ من " رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ " ، أي : بعيدةُ القَعْر ، وهي من الجَهْم ، وهو الكراهةُ ، وقيل : بل نُونُها أصليَّةٌ ، ووزنُها فَعَلَّل ؛ ك " عَدَبَّسٍ " ؛ قال : لأن " فَعَنَّلاً " مفقودٌ في كلامِهِم ، وجعل " زَوَنَّكاً " فَعَلَّلاً أيضاً ؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ ؛ ك " وَرَنْتَلٍ " ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ ، قالوا : " ضَغَنَّطٌ " من الضَّغاطةِ ، وهي الضَّخامةُ ، و " سَفَنَّجٌ " و " هَجَنَّفٌ " لِلظّلِيم ، والزَّوَنَّكُ : القصيرُ سُمِّيَ بذلك ؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ ، أي : يَتَبَخْتَرُ ؛ قال حَسَّان : [ الكامل ]

أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى *** فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ{[72]}

وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في " زَوَنَّكٍ " وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ .

قوله : { وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ " المِهَادِ " وقعَ فاصِلةً . وتقدَّمَ الكلامُ على " بِئْسَ " وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ ، أو مُبتَدأً محذوفَ الخبرِ ، ثم حذَفْنَاهُ ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها ، إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ ، وليست مُعْترضةً ، ولا مفسِّرةً ، ولا صلةً . والمِهَادُ فيه قولان :

أحدهما : أَنَّهُ جَمْعُ " مَهْدٍ " ، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى : و

{ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ } [ الذاريات : 48 ] .

والثاني : أنه اسمٌ مُفْردٌ ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل : " المُسْتَقِر " كقوله تعالى : { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ } [ إبراهيم : 29 ] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ ، أي : جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ ؛ وهو كقوله : [ الوافر ]

وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ *** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ{[73]}

أي : القائمُ لهم مقامَ التحيةِ ، الضربُ الوَجِيع .


[68]:- في أ: بالعبد.
[69]:- أخرجه الترمذي في "السنن": (5/490) كتاب الدعوات (49) باب (76)، حديث رقم (3493) والنسائي في "السنن: (1/102)، وابن ماجه في "السنن": (2/1262-1263) كتاب الدعاء، باب (ما تعوذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم) حديث رقم (3841) – والدارقطني في السنن (1/143)، ومالك في "الموطأ" (214)-وابن خزيمة في صحيحه، حديث رقم (654)، والحاكم في "المستدرك" (1/288).
[70]:- ينظر الفخر الرازي: 1/85.
[71]:- في ب: يقال.
[72]:- في أ: وهذا.
[73]:- سقط في أ.