الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ} (206)

هذه صفة الكافر والمنافق الذاهب بنفسه زهوا ، ويكره للمؤمن أن يوقعه الحرج في بعض هذا . وقال عبدالله : كفى بالمرء إثما أن يقول له أخوه : اتق الله ، فيقول : عليك بنفسك ، مثلك يوصيني{[1854]} ! والعزة : القوة والغلبة ، من عزه يعزه إذا غلبه . ومنه : " وعزني في الخطاب " {[1855]} وقيل : العزة هنا الحمية ، ومنه قول الشاعر :

أخذته عزةٌ من جهله *** فتولى مغضبا فعل الضّجر

وقيل : العزة هنا المنعة وشدة النفس ، أي اعتز في نفسه وانتحى فأوقعته تلك العزة في الإثم حين أخذته وألزمته إياه . وقال قتادة : المعنى إذا قيل له مهلا ازداد إقداما على المعصية ، والمعنى حملته العزة على الإثم . وقيل : أخذته العزة بما يؤثمه ، أي ارتكب الكفر للعزة وحمية الجاهلية . ونظيره : " بل الذين كفروا في عزة وشقاق " {[1856]} وقيل : الباء في " بالإثم " بمعنى اللام ، أي أخذته العزة والحمية عن قبول الوعظ للإثم الذي في قلبه ، وهو النفاق ، ومنه قول عنترة يصف عرق الناقة :

وكأن رُبَّا أو كُحَيْلاً مُعْقَداً *** حَشَّ الوَقودِ به جوانبَ قُمْقُمِ{[1857]}

أي حش الوقود له وقيل : الباء بمعنى مع ، أي أخذته العزة مع الإثم ، فمعنى الباء يختلف بحسب التأويلات . وذكر أن يهوديا كانت له حاجة عند هارون الرشيد ، فاختلف إلى بابه سنة ، فلم يقض حاجته ، فوقف يوما على الباب ، فلما خرج هارون سعى حتى وقف بين يديه وقال : اتق الله يا أمير المؤمنين ! فنزل هارون عن دابته وخر ساجدا ، فلما رفع رأسه أمر بحاجته فقضيت ، فلما رجع قيل له : يا أمير المؤمنين ، نزلت عن دابتك لقول يهودي ! قال : لا ، ولكن تذكرت قول الله تعالى : " وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد " . حسبه أي كافيه معاقبة وجزاء ، كما تقول للرجل : كفاك ما حل بك ! وأنت تستعظم وتعظم عليه ما حل . والمهاد جمع المهد ، وهو الموضع المهيأ للنوم ، ومنه مهد الصبي .

وسمي جهنم مهادا ؛ لأنها مستقر الكفار . وقيل : لأنها بدل لهم من المهاد ، كقوله : " فبشرهم بعذاب أليم " {[1858]} ونظيره من الكلام قولهم :

تحيةُ بينِهم ضربٌ وَجِيعُ{[1859]}


[1854]:- في ح: "أنت تأمرني"!.
[1855]:- آية 23 سورة ص.
[1856]:- آية 2 سورة ص.
[1857]:- الرب (بضم الراء): الطلاء الخائر. والكحيل (مصغرا): النفط أو القطران تطلى به الإبل. والمعقد (بفتح القاف): الذي أوقد تحته حتى انعقد وغلظ. وحش: اتقد، والقمقم (بالضم): ضرب من الأواني.
[1858]:- آية 21 سورة آل عمران.
[1859]:- هذا عجز بيت لمعدي كرب، صدره: *وخيل قد دلفت لها بخيل*