قوله تعالى : { ولما وقع عليهم الرجز ولما وقع عليهم الرجز } ، أي : نزل بهم العذاب ، وهو ما ذكر الله عز وجل من الطوفان وغيره . وقال سعيد بن جبير : الرجز الطاعون ، وهو العذاب السادس بعد الآيات الخمس ، حتى مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد ، فأمسوا وهو لا يتدافنون .
قوله تعالى : { قالوا } لموسى .
قوله تعالى : { يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي : بما أوصاك ، وقال عطاء : بما نبأك ، وقيل : بما عهد عندك من إجابة دعوتك .
قوله تعالى : { لئن كشفت عنا الرجز } وهو الطاعون .
قوله تعالى : { لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل } . أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، ثنا زاهر بن أحمد ، ثنا أبو إسحاق الهاشمي ، ثنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن محمد بن المنكدر ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله ، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه ، أنه سمعه يسأل أسامة بن زيد : أسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطاعون ؟ فقال أسامة بن زيد : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطاعون رجز أرسل على بني إسرائيل و على من كان قبلكم ، فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " .
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي : العذاب ، يحتمل أن المراد به : الطاعون ، كما قاله كثير من المفسرين ، ويحتمل أن يراد به ما تقدم من الآيات : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، فإنها رجز وعذاب ، وأنهم كلما أصابهم واحد منها
قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ أي : تشفعوا بموسى بما عهد اللّه عنده من الوحي والشرع ، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وهم في ذلك كذبة ، لا قصد لهم إلا زوال ما حل بهم من العذاب ، وظنوا إذا رفع لا يصيبهم غيره .
ثم بين - سبحانه - حالهم عند نزول العقاب بهم فقال : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ } .
أى وحين وقع على فرعون ومثله العذاب المذكور في الآية السابقة ، والمتمثل في الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، حين وقع عليهم ذلك أخذوا يقولون لموسى بتذلل واستعطاف عقب كل عقوبة من تلك العقوبات : يا موسى ادع لنا ربك واسأله بحق ما عهد عندك من أمر إرسالك إلينا لانقاذنا من الهلاك أن يكشف عنا هذا العذاب ، ونحن نقسم لك بأنك إن كشفته عنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل .
قال صاحب الكشاف : { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } ما مصدرية ، والمعنى بعهده عندك وهو النبوة ، والباء إما أن تتعلق بقوله : { ادع لَنَا رَبَّكَ } على وجهين :
أحدهما : أسفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة .
أو ادع الله لنا متوسلا إليه بعهدنه عندك .
وإما أن يكون قسما مجابا بلنؤمنن ، أى أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك " .
ولقد جمع السياق هنا تلك الآيات المفصلة ، التي جاءتهم مفرقة . واحدة واحدة . وهم في كل مرة يطلبون إلى موسى تحت ضغط البلية أن يدعو لهم ربه لينقذهم منها ؛ ويعدونه أن يرسلوا معه بني إسرائيل إذا أنجاهم منها ، وإذا رفع عنهم هذا( الرجز ) ، أي العذاب ، الذي لا قبل لهم بدفعه :
( ولما وقع عليهم الرجز قالوا : يا موسى ادع لنا ربك - بما عهد عندك - لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ، ولنرسلن معك بني إسرائيل ) . .
قال الله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ }
اختلفوا في معناه ، فعن ابن عباس في رواية : كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار . وبه قال الضحاك بن مُزَاحِم .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو كثرة الموت . وكذا قال عطاء .
وقال مجاهد : { الطُّوفَانَ } الماء ، والطاعون على كل حال .
وقال ابن جرير : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، حدثنا يحيى بن يَمان ، حدثنا المِنْهَال بن{[12031]} خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن مِيناء ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطوفان الموت " .
وكذا رواه ابن مردويه ، من حديث يحيى بن يمان ، به وهو حديث غريب .
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو أمر من الله طاف بهم ، ثم قرأ : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ . [ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ]{[12032]} } [ القلم : 19 ، 20 ] وأما الجراد فمعروف مشهور ، وهو مأكول ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفُور{[12033]} قال : سألت عبد الله بن أبي أَوْفَى عن الجراد ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد{[12034]}
وروى الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد ، والكبد والطحال " {[12035]}
ورواه أبو القاسم البغوي ، عن داود بن رُشَيْد ، عن سُوَيْد بن عبد العزيز ، عن أبي تمام الأيليّ ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا مثله{[12036]}
وروى أبو داود ، عن محمد بن الفرج ، عن محمد بن الزِّبْرِقان الأهوازي ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال : " أكثر جنود الله ، لا آكله ، ولا أحرمه " {[12037]}
وإنما تركه ، عليه السلام{[12038]} لأنه كان يعافه ، كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب ، وأذن فيه .
وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد ، من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي ، حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد ، حدثنا يحيى بن خالد ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد ، ولا الكلوتين ، ولا الضب ، من غير أن يحرمها . أما الجراد : فرجز وعذاب . وأما الكلوتان : فلقربهما من البول . وأما الضب فقال : " أتخوف أن يكون مسخا " ، ثم قال{[12039]} غريب ، لم أكتبه إلا من هذا الوجه{[12040]}
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يشتهيه ويحبه ، فروى عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن عمر سُئل عن الجراد فقال : ليت أن عندنا منه قَفْعَة أو قفعتين نأكله{[12041]}
وروى ابن ماجة : حدثنا أحمد بن مَنِيع ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال ، سمع أنس بن مالك يقول : كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يَتَهادَيْن الجراد على الأطباق{[12042]}
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رُشَيْد ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، عن نُمَيْر بن يزيد القَيْني{[12043]} حدثني أبي ، عن صُدَيّ بن عَجْلان ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مريم بنت عمران ، عليها السلام ، سألت ربها [ عز وجل ]{[12044]} أن يطعمها لحما لا دم له ، فأطعمها الجراد ، فقالت : اللهم أعشه بغير رضاع ، وتابع بَيْنَه بغير شياع " {[12045]} وقال نُمَير : " الشَيَاع " : الصوت .
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك اليَزَني{[12046]} حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عبيد ، عن أبي زُهَيْر النميري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تقاتلوا الجراد ، فإنه جند الله الأعظم " . غريب جدًا{[12047]}
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ } قال : كانت تأكل مسامير أبوابهم ، وتَدَع الخشب .
وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي ، عن محمد بن كثير ، سمعت الأوزاعي يقول : خرجت إلى الصحراء ، فإذا أنا برِجْل من جراد في السماء ، وإذا برَجل راكب على جَرَادة منها ، وهو شاك في الحديد ، وكلما قال بيده هكذا ، مال الجراد مع يده ، وهو يقول : الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها .
وروى الحافظ أبو الفرج{[12048]} المعافي بن زكريا الحريري ، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا وَكِيع ، عن الأعمش ، أنبأنا عامر قال : سئل شُرَيْح القاضي عن الجراد ، فقال : قبح الله الجرادة . فيها خلقة سبعة جبابرة : رأسها رأس فرس ، وعنقها عنق ثور ، وصدرها صدر أسد ، وجناحها جناح نسر ، ورجلاها رجلا جمل . وذنبها ذنب حية ، وبطنها بطن عقرب .
و[ قد ]{[12049]} قدمنا عند قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [ المائدة : 96 ] حديث حماد بن سلمة ، عن أبي المُهزَم ، عن أبي هريرة ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة ، فاستقبلنا{[12050]} رجْلُ جراد ، فجعلنا نضربه بالعِصِيِّ ، ونحن محرمون ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ عن ذلك ]{[12051]} فقال : " لا بأس بصيد البحر " {[12052]}
وروى ابن ماجه ، عن هارون الحمال{[12053]} عن هاشم بن القاسم ، عن زياد بن عبد الله بن عُلاثة ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أنس وجابر [ رضي الله عنهما ]{[12054]} عن رسول الله{[12055]} صلى الله عليه وسلم ؛ أنه كان إذا دعا على الجراد قال : " اللهم أهلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء " . فقال له جابر : يا رسول الله ، أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال : " إنما هو نثرة حوت{[12056]} في البحر " قال هاشم{[12057]} أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت{[12058]} قال : من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس ، أنه يفقس كله جرادًا طيارًا .
وقدمنا عند قوله : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [ الأنعام : 38 ] حديث عُمَر ، رضي الله عنه : " إن الله خلق ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وإن أولها هلاكًا الجراد " {[12059]}
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا يزيد بن المبارك ، حدثنا عبد الرحمن بن قَيْس ، حدثنا سالم بن سالم ، حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا وَباء مع السيف ، ولا نجاء مع الجراد " . حديث غريب{[12060]}
وأما { الْقُمَّلَ } فعن ابن عباس : هو{[12061]} السوس الذي يخرج من الحنطة . وعنه أنه الدبى{[12062]} - وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له . وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة .
وعن الحسن وسعيد بن جبير : { الْقُمَّلَ } دواب سود صغار .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { الْقُمَّلَ } البراغيث .
وقال ابن جرير { الْقُمَّل } جمع واحدتها " قُمَّلة " ، وهي دابة تشبه القَمْل ، تأكلها الإبل ، فيما بلغني ، وهي التي عناها الأعشى بقوله :
قوم تعالج{[12063]} قُمَّلا أبناؤهم وسلاسلا أجُدا وبابًا مؤصدا{[12064]}
قال : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب " الحمنان " ، واحدتها " حمنانة " ، وهي صغار القردان فوق القمقامة .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن حميد الرازي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى ، عليه السلام ، فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئا ، خافوا أن يكون عذابا ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل . فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر{[12065]} والكلأ فقالوا : هذا ما كنا نتمنى . فأرسل الله عليهم الجراد ، فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع ، فقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك ليكشف{[12066]} عنا الجراد فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت ، فقالوا : قد أحرزنا . فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة{[12067]} أجربة إلى الرحى ، فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة{[12068]} فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا القمل ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا . قال{[12069]} وما عسى أن يكون كيد هذا ؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فتثب{[12070]} الضفدع في فيه . فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه ، فكشف{[12071]} عنهم فلم يؤمنوا . وأرسل{[12072]} الله عليهم الدم ، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وما كان في أوعيتهم ، وجدوه دمًا عبيطًا ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب . فقال : إنه قد سحركم ! ! فقالوا : من أين سحرنا ، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دمًا عَبِيطًا ؟ فأتوه وقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك{[12073]} ونرسل معك بني إسرائيل . فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل{[12074]}
وقد روي نحو هذا عن ابن عباس ، والسدي ، وقتادة وغير واحد من علماء السلف{[12075]}
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر ، والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه الآيات ، وأخذه بالسنين ، فأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات . فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد ، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا ، حتى جهدوا جوعًا ، فلما بلغهم ذلك { قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فدعا موسى ربه ، فكشف{[12076]} عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل الشجر ، فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد ، حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى ، عليه السلام ، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه ، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرارة ، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا . فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلا يكشف أحد ثوبًا ولا طعامًا إلا وجد فيه الضفادع ، قد غلبت عليه . فلما جهدهم ذلك ، قالوا له مثل ما قالوا ، فسأل ربه{[12077]} فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياه آل فرعون دمًا ، لا يستقون من بئر ولا نهر ، ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دما عبيطا{[12078]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، أنبأنا النضر ، أنبأنا إسرائيل ، أنبأنا جابر ابن يزيد{[12079]} عن عكرمة ، قال عبد الله بن عَمْرو : لا تقتلوا الضفادع ، فإنها لما أرسلت على قوم فرعون{[12080]} انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار ، يطلب بذلك مرضات الله ، فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء ، وجعل نقيقهن التسبيح . وروي من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ، نحوه{[12081]}
وقال زيد بن أسلم : يعني بالدم : الرعاف . رواه ابن أبي حاتم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قَالُواْ يَمُوسَىَ ادْعُ لَنَا رَبّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ لَنُؤْمِنَنّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِيَ إِسْرَآئِيلَ } . .
يقول تعالى ذكره : ولما وقع عليهم الرجز ، ولما نزل بهم عذاب الله ، وحلّ بهم سخطه .
ثم اختلف أهل التأويل في ذلك الرجز الذي أخبر الله أنه وقع بهؤلاء القوم ، فقال بعضهم : كان ذلك طاعونا . ذكر من قال ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : وأمر موسى قومه من بني إسرائيل ، وذلك بعد ما جاء قومَ فرعون بالاَيات الخمس الطوفان ، وما ذكر الله في هذه الاَية ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال : ليذبح كلّ رجل منكم كبشا ، ثم ليخضب كفه في دمه ، ثم ليضرب به على بابه ، فقالت القبط لبني إسرائيل : لم تجعلون هذا الدم على أبوابكم ؟ فقالوا : إن الله يرسل عليكم عذابا فنسلم وتهلكون ، فقالت القبط : فما يعرفكم الله إلاّ بهذه العلامات ؟ فقالوا : هكذا أمرنا به نبينا . فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفا ، فأمسوا وهم لا يتدافنون ، فقال فرعون عند ذلك : ادْعُ لَنا رَبّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرّجزَ وهو الطاعون ، لَنُؤْمِنَنّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ فدعا ربه فكشفه عنهم ، فكان أوفاهم كلهم فرعون ، فقال لموسى : اذهب ببني إسرائيل حيث شئت
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حبّويه الرازي ، وأبو داود الحفري ، عن يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد بن جبير قال حبويه : عن ابن عباس : لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ قال : الطاعون .
وقال آخرون : هو العذاب . ذكر من قال ذلك .
حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : الرجز العذاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرّجْزَ أي العذاب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : وَلمّا وَقَع عَلَيْهِمُ الرّجْزُ يقول : العذاب .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ قال : الرجز : العذاب الذي سلّطه الله عليهم من الجراد والقُمّل وغير ذلك ، وكلّ ذلك يعاهدونه ثم ينكثون .
وقد بيّنا معنى الرّجز فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده المغنية عن إعادتها .
وأولى القولين بالصواب في هذا الموضع أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر عن فرعون وقومه أنهم لما وقع عليهم الرجز ، وهو العذاب والسخط من الله عليهم ، فزعوا إلى موسى بمسألته ربه كشف ذلك عنهم وجائز أن يكون ذلك الرجز كان الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، لأن كل ذلك كان عذابا عليهم ، وجائز أن يكون ذلك الرجز كان طاعونا . ولم يخبرنا الله أيّ ذلك كان ، ولا صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيّ ذلك كان خبر فنسلم له .
فالصواب أن نقول فيه كما قال جلّ ثناؤه : وَلمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرّجْزُ ولا نتعدّاه إلاّ بالبيان الذي لا تمانع فيه بين أهل التأويل ، وهو لما حلّ بهم عذاب الله وسخطه ، قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبّكَ بمَا عَهِدَ عِنْدَكَ يقول : بما أوصاك وأمرك به ، وقد بينا معنى العهد فيما مضى لَئِنْ كَشَفْتَ عَنّا الرّجْزَ يقول : لئن رفعت عنا العذاب الذي نحن فيه ، لَنُؤْمِنَنّ لَكَ يقول : لنصدقنّ بما جئت به ودعوت إليه ولنقرّنّ به لك ، ولَنُرْسِلَنّ مَعَكَ بَنِي إسْرَائِيلَ يقول : ولنخلينّ معك بني إسرائيل فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاءوا .
{ ولما وقع عليهم الرجز } يعني العذاب المفصل ، أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم بعد ذلك . { قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك } بعهده عندك وهو النبوة ، أو بالذي عهده إليك أن تدعه به فيجيبك كما أجابك في آياتك ، وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلا إليه بما عهد عنك ، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله : { لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بني إسرائيل } أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن ولنرسلن .
{ الرجز } العذاب ، والظاهر من الآية أن المراد بالرجز هاهنا العذاب المتقدم الذكر من الطوفان والجراد وغيره ، وقال قوم من المفسرين : الإشارة هنا بالرجز إنما هي إلى طاعون أنزله فيهم مات منهم في ليلة واحدة سبعون ألف قبطي ، وروي في ذلك أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل بأن يذبحوا كبشاً وُيَضِّمخوا أبوابهم بالدم ليكون ذلك فرقاً بينهم وبين القبط في نزول العذاب .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، وهذه الأخبار وما شاكلها إنما تؤخذ من كتب بني إسرائيل فلذلك ضعفت ، وقولهم : { بما عهد } يريدون بذمامك وماَّتِتك إليه ، فهي تعم جميع الوسائل بين الله وبين موسى من طاعة من موسى ونعمة من الله تبارك وتعالى ، ويحتمل أن يكون ذلك منهم على جهة القسم على موسى ، ويحتمل أن يكون المعنى ادع لنا ربك ماتّاً إليه بما عهد إليك ، ويحتمل إن كان شعر أن بين الله تعالى وبين موسى في أمرهم عهد ما أن تكون الإشارة إليه ، والأول أعم وألزم ، والآخر يحتاج إلى رواية وقولهم : { لئن كشفت } أي بدعائك { لنؤمنن ولنرسلن } قسم وجوابه ، وهذا عهد من فرعون وملئه الذين إليهم الحل والعقد ، ولهم ضمير الجمع في قوله { لنؤمنن } ، وألفاظ هذه الآية تعطي الفرق بين القبط وبين بني إسرائيل في رسالة موسى ، لأنه لو كان إيمانهم به على أحد إيمان بني إسرائيل لما أرسلوا بني إسرائيل ولا فارقوا دينهم ، بل كانوا يشاركون فيه بني إسرائيل ، وروي أنه لما انكشف العذاب قال فرعون لموسى اذهب ببني إسرائيل حيث شئت فخالفه بعض ملئه فرجع فنكث .
وأخبر الله عز وجل أنه لما كشف عنهم العذاب نكثوا عهدهم الذي أعطوه موسى . و { إذا } هاهنا للمفاجأة ، و { إلى } متعلقة ب { كشفنا } و «الأجل » يراد به غاية كل واحد منهم بما يخصه من الهلاك والموت . وهذا اللازم من اللفظ كما تقول أخذت كذا إلى وقت وأنت لا تريد وقتاً بعينه ، وقال يحيى بن سلام : «الأجل » هنا الغرق .
قال القاضي أبو محمد : وإنما هذا القول لأنه رأى جمهور هذه الطائفة قد اتفق أن هلكت غرقاً فاعتقد أن الإشارة هنا بالأجل إنما هي إلى الغرق ، وهذا ليس بلازم لأنه لا بد أنه مات منهم قبل الغرق عالم وهم ممن أخر وكشف عنهم العذاب إلى أجل بلغه ، ودخل في هذه الآية فأين الغرق من هؤلاء ؟ وأين هو ممن بقي بمصر ولم يغرق ؟ وذكر بعض الناس أن معنى الكلام فلما كشفنا عنهم الرجز المؤجل إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون ، ومحصول هذا التأويل أن العذاب كان مؤجلاً ، والمعنى الأول أفصح لأنه تضمن توعداً ما وقرأ أبوالبرهشم وأبو حيوة : «ينكِثون » بكسر الكاف ، والنكث نقض ما أبرم ، ويستعمل في الأجسام وفي المعاني ، وقرأ ابن محيصن ومجاهد وابن جبير «الرُّجز » بضم الراء في جميع القرآن ، قال أبو حاتم : إلا أن ابن محيصن كسر حرفين «رجز الشيطان » «والرجز فاهجر » .
قال القاضي أبو محمد : رآهما بمعنى آخر بمثابة الرجز والنتن الذي يجب التطهر منه .