وقد أتبع - سبحانه - هذا الوصف وهو { رَبِّ العالمين } ، بوصف آخر هو { الرحمن الرحيم } لحكم سامية من أبرزها : أن وصفه - تعالى - ب { رَبِّ العالمين } أي : مالكهم ، قد يثير في النفوس شيئًا من الخوف أو الرهبة ، فإن المربي قد يكون خشنًا جبارًا متعنتًا ، وذلك مما يخدش من جميل التربية ، وينقص من فضل التعهد . لذا قرن - سبحانه - كونه مربيًا ، بكونه الرحمن الرحيم ، لينفى بذلك هذا الاحتمال ، وليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته وشمول إحسانه ، فهم برحمته يوجدون ، وبرحمته يتصرفون ويرزقون ، وبرحمته يبعثون ويسألون . ولا شك أن في هذا الإِفهام تحريضًا لهم على حمده وعبادته بقلوب مطمئنة ، ونفوس مبتهجة ، ودعوة لهم إلى أن يقيموا حياتهم على الرحمة والإِحسان ، لا على الجبروت والطغيان ، فالراحمون يرحمهم الرحمن .
( الرحمن الرحيم ) . . هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة ، في آية مستقلة ، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة ؛ ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه . وبين الخالق ومخلوقاته . . إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء . إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة ، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية .
إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق . ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في " العهد القديم " كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين .
قال أبو جعفر : قد مضى البيان عن تأويل قوله «الرحمن الرحيم » ، في تأويل «بسم الله الرحمن الرحيم » ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . ولم يحتج إلى الإبانة عن وجه تكرير الله ذلك في هذا الموضع ، إذ كنا لا نرى أن «بسم الله الرحمن الرحيم » من فاتحة الكتاب آية ، فيكون علينا لسائلٍ مسألة بأن يقول : ما وجه تكرير ذلك في هذا الموضع ، وقد مضى وصف الله عزّ وجلّ به نفسه في قوله «بسم الله الرحمن الرحيم » ، مع قرب مكان إحدى الاَيتين من الاَخرى ومجاورتها لصاحبتها ؟ بل ذلك لنا حجة على خطأ دعوى من ادعى أن بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب آية ، إذ لو كان ذلك كذلك لكان ذلك إعادة آية بمعنى واحد ولفظ واحد مرتين من غير فصل يفصل بينهما . وغير موجود في شيء من كتاب الله آيتان متجاورتان مكرّرتان بلفظ واحد ومعنى واحد ، لا فصل بينهما من كلام يخالف معناه معناهما ، وإنما يأتي بتكرير آية بكمالها في السورة الواحدة ، مع فصول تفصل بين ذلك ، وكلام يُعترض به بغير معنى الاَيات المكرّرات أو غير ألفاظها ، ولا فاصل بين قول الله تبارك وتعالى اسمه «الرحمن الرحيم » من «بسم الله الرحمن الرحيم » ، وقول الله : «الرحمن الرحيم » ، من «الحمد لله رب العالمين » .
فإن قال قائل : فإن «الحمد لله رب العالمين » فاصل بين ذلك . قيل : قد أنكر ذلك جماعةٌ من أهل التأويل ، وقالوا : إن ذلك من الموخّر الذي معناه التقديم ، وإنما هو : الحمد لله الرحمن الرحيم رب العالمين ملك يوم الدين . واستشهدوا على صحة ما ادّعوا من ذلك بقوله : «مَلِكِ يَوْم الدّين » فقالوا : إن قوله : «ملك يوم الدين » تعليم من الله عبده أن يصفه بالمُلْك في قراءة من قرأ مَلِك ، وبالمِلْك في قراءة من قرأ «مالك » .
قالوا : فالذي هو أولى أن يكون مجاور وَصْفه بالمُلْك أو المِلْك ما كان نظير ذلك من الوصف ، وذلك هو قوله «رَبّ العالمين » ، الذي هو خبر عن ملكه جميع أجناس الخلق ، وأن يكون مجاور وصفه بالعظمة والألوهة ما كان له نظيرا في المعنى من الثناء عليه ، وذلك قوله : الرّحْمَنِ الرّحيم . فزعموا أن ذلك لهم دليل على أن قوله «الرحمن الرحيم » بمعنى التقديم قبل «رب العالمين » ، وإن كان في الظاهر مؤخرا . وقالوا : نظائر ذلك من التقديم الذي هو بمعنى التأخير والمؤخر الذي هو بمعنى التقديم في كلام العرب أفشى وفي منطقها أكثر من أن يحصى ، من ذلك قول جرير بن عطية :
طافَ الخَيالُ وأيْنَ منْكَ لِمَاما *** فارْجِعْ لزَوْرِكَ بالسّلام سَلاما
بمعنى طاف الخيال لماما وأين هو منك . وكما قال جل ثناؤه في كتابه : { الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتابَ وَلمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجا قَيّما } المعنى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، وما أشبه ذلك . ففي ذلك دليل شاهد على صحة قول من أنكر أن تكون «بسم الله الرحمن الرحيم » من فاتحة الكتاب آية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.