البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (3)

{ الرحمن الرحيم } تقدم الكلام عليهما في البسملة ، وهما مع قوله { رب العالمين } صفات مدح ، لأن ما قبلهما علم لم يعرض في التسمية به اشتراك فيخصص ، وبدأ أولاً بالوصف بالربوبية ، فإن كان الرب بمعنى السيد ، أو بمعنى المالك ، أو بمعنى المعبود ، كان صفة فعل للموصوف بها التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من الخير والشر ، فناسب ذلك الوصف بالرحمانية والرحيمية ، لينبسط أمل العبد في العفو إن زل ، ويقوى رجاؤه إن هفا ، ولا يصح أن يكون الرب بمعى الثابت ، ولا بمعنى الصاحب ، لامتناع إضافته إلى العالمين ، وإن كان بمعنى المصلح ، كان الوصف بالرحمة مشعراً بقلة الإصلاح ، لأن الحامل للشخص على إصلاح حال الشخص رحمته له .

ومضمون الجملة والوصف إن من كان موصوفاً بالربوبية والرحمة للمربوبين كان مستحقاً للحمد .

وخفض الرحمن الرحيم الجمهور ، ونصبهما أبو العالية وابن السميفع وعيسى بن عمرو ، ورفعهما أبو رزين العقيلي والربيع بن خيثم وأبو عمران الجوني ، فالخفض على النعت ، وقيل في الخفض إنه بدل أو عطف بيان ، وتقدم شيء من هذا .

والنصب والرفع للقطع .

وفي تكرار الرحمن الرحيم أن كانت التسمية آية من الفاتحة تنبيه على عظم قدر هاتين الصفتين وتأكيد أمرهما ، وجعل مكي تكرارها دليلاً على أن التسمية ليست بآية من الفاتحة ، قال : إذ لو كانت آية لكنا قد أتينا بآيتين متجاورتين بمعنى واحد ، وهذا لا يوجد إلا بفواصل تفصل بين الأولى والثانية .

قال : والفصل بينهما بالحمد لله رب العالمين كلا فصل ، قال : لأنه مؤخر يراد به التقديم تقديره الحمد لله ، الرحمن الرحيم ، رب العالمين ، وإنما قلنا بالتقديم لأن مجاورة الرحمة بالحمد أولى ، ومجاورة الملك بالملك أولى .

قال : والتقديم والتأخير كثير في القرآن ، وكلام مكي مدخول من غير وجه ، ولولا جلالة قائلة نزهت كتابي هذا عن ذكره .

والترتيب القرآني جاء في غاية الفصاحة لأنه تعالى وصف نفسه بصفة الربوبية وصفة الرحمة ، ثم ذكر شيئين ، أحدهما ملكه يوم الجزاء ، والثاني العبادة .

فناسب الربوبية للملك ، والرحمة العبادة .

فكان الأول للأول ، والثاني للثاني .

وقد ذكر المفسرون في علم التفسير الوقف ، وقد اختلف في أقسامه ، فقيل تام وكاف وقبيح وغير ذلك .

وقد صنف الناس في ذلك كتباً مرتبة على السور ، ككتاب أبي عمرو الداني ، وكتاب الكرماني وغيرهما ، ومن كان عنده حظ في علم العربية استغنى عن ذلك .