غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (3)

3

في فوائد قوله { الرحمان الرحيم } .

الأولى : الرحمان بما لا يتصور صدوره من العباد ، والرحيم بما يقدر عليه العباد . أنا الرحمان لأنك تسلم إليّ نطفة مذرة فأسلمها إليك صورة حسنة ، أنا الرحيم لأنك تسلم إليّ طاعة ناقصة فأسلم إليك جنة خالصة .

الثانية : ذهب بعضهم إلى ملك فقال : جئتك لمهم يسير . فقال : أطلب المهم اليسير من الرجل اليسير . فكأن الله تعالى يقول : لو اقتصرت على الرحمان لاحتشمت مني ولتعذر عليك سؤالي الأمور اليسيرة ، فأنا الرحمان لتطلب مني الأمور العظيمة ، وأنا الرحيم لتطلب مني شراك نعلك وملح قدرك .

الثالثة : الولد إذا أهمل حال ولده ولم يؤدبه ظن أن ذلك رحمة وهو في الحقيقة عذاب . من لم يؤدبه الأبوان أدبه الملوان ، وعكسه حال من تقطع يده لأكلة فيها ، أو يضرب لتعليم حرفة ، أو لتأدب بخصلة شريفة . فكل ما في العالم من محنة وبلية فهو في الحقيقة رحمة ونعمة { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] وقصة موسى مع الخضر كما تجيء في موضعها تؤيد ما ذكرناه ، والحكيم المحقق هو الذي يبني الأمور على الحقائق لا على الظواهر ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير .

الرابعة : أعطى مريم عليها السلام رحمة { ولنجعله آية للناس ورحمة منه } [ مريم : 21 ] فصارت سبباً لنجاتها من توبيخ الكفار والفجار ، وأعطانا رحمة { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] فكيف لا ننجو بسببه من عذاب النار .

الخامسة : وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة فكان من حاله أنه لما كسرت أسنانه قال : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ، وأنه يوم القيامة يقول : أمتي أمتي . فلما وصف نفسه بكونه رحماناً رحيماً أيضاً فكأنه يقول : الرحمة الواحدة لا تكفي لصلاح المخلوقات فذرني وعبيدي فإني أنا الرحمان الرحيم ، رحمتي غير متناهية ومعصيتهم متناهية والمتناهي لا يدرك غير المتناهي فستغرق معصيتهم في بحار رحمتي

{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] .

السادسة : حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال : كنت ضيفاً لبعض القوم ، فقدم المائدة فنزل غراب وسلب رغيفاً فاتبعته تعجباً ، فنزل في بعض التلال فإذا هو برجل مقيد مشدود اليدين ، فألقى الغراب ذلك الرغيف على وجهه . وعن ذي النون أنه قال : كنت في البيت إذ وقعت في قلبي داعية أن أخرج من البيت ، فانتهيت إلى شط النيل فرأيت عقرباً قوياً يعدو ، فلما وصل إلى النيل فإذا هو بضفدع على طرف النهر ، فقفز العقرب عليه وأخذ الضفدع يسبح ، فركبت السفينة فاتبعته حتى إذا وصل الضفدع إلى الطرف الآخر نزل العقرب عن ظهره وأخذ يعدو ، فتبعته فرأيت شاباً نائماً تحت شجرة وعنده أفعى يقصده ، فلما قرب الأفعى من ذلك الشاب وصلت العقرب إلى الأفعى ولدغتها والأفعى أيضاً لدغتها وماتتا معاً . وفي أدعية العرب : يا رازق النعاب في عشه . وحكايته أن ولد الغراب لما يخرج من البيض يكون كأنه قطعة لحم فتهجره أمه تنفراً منه ، حتى إذا خرج ريشه عادت إليه ، فيبعث الله تعالى إليه في تلك المدة ذباباً يغتذي به . وروي أن فتى قربت وفاته واعتقل لسانه عن شهادة أن لا إله إلا الله ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه ، فقام فدخل عليه وكان يعرض عليه الشهادة ولا يعمل لسانه فقال صلى الله عليه وسلم : أما كان يصلي أما كان يزكي أما كان يصوم ؟ فقالوا : بلى . فقال : فهل عق والدته ؟ قالوا : نعم . فقال : هاتوا أمه . فأتي بعجوز عوراء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هلا عفوت عنه ؟ فقالت : لا أعفو عنه لأنه لطمني ففقأ عيني . فقال صلى الله عليه وسلم : هاتوا بالحطب والنار فقالت : وما تصنع بالنار ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أحرقه بالنار بين يديك جزاء بما عمل . فقالت : عفوت عفوت أللنار حملته تسعة أشهر أللنار أرضعته سنتين فأين رحمة الأم ؟ فعند ذلك انطلق لسانه وذكر " أشهد أن لا إله إلا الله " والنكتة أنها كانت رحيمة فقط ولم تجوّز الإحراق ، فالرحمان الرحيم كيف يجوز إحراق عبد واظب على ذكر الرحمان الرحيم سبعين سنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : " إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الإنس والجن والطير والبهائم والهوام فيها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخر تسعاً وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة " ولعل هذا على سبيل التفهيم والتمثيل وإلا فكرمه بلا غاية ورحمته بلا نهاية .