مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ} (3)

وأما قوله تعالى : { الرحمان الرحيم } فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات ، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات ، أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات ، وهي كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى ، ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع كتب الطب حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء ، ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان ، فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحرا لا ساحل له .

وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال : بخلت على الناس بذكر حكمة الله تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد ، فرأيت في النوم كأن ملكا نزل من السماء وقال يا جالينوس ، إن إلهك يقول : لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي ؟ قال : فانتبهت فصنفت فيه كتابا ، وقال أيضا : إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع ، فرأيت في الهيكل كأن ملكا نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنص ؛ وأكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات والإلهامات ، فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة الله تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء .