قوله تعالى :{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أي : قاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به ، { فمنهم من قضى نحبه } أي : فرغ من نذره ، ووفى بعهده ، فصبر على الجهاد حتى استشهد ، والنحب : النذر ، والنحب : الموت أيضاً ، قال مقاتل : قضى نحبه يعني : أجله فقتل على الوفاء ، يعني حمزة وأصحابه . وقيل : قضى نحبه أي : بذل جهده في الوفاء ، بالعهد من قول العرب : نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع ، إذا مد فلم ينزل ، { ومنهم من ينتظر } الشهادة . وقال محمد بن إسحاق : فمنهم من قضى نحبه من استشهد يوم بدر وأحد ، ومنهم من ينتظر يعني : من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين ، إما الشهادة أو النصر ، { وما بدلوا } عهدهم { تبديلاً } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سعيد الخزاعي ، أنبأنا عبد الأعلى ، عن حميد قال : سألت أنساح وحدثني عمرو بن زرارة ، أنبأنا زياد ، حدثني حميد الطويل ، عن أنس قال : " غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال : يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع ، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني : أصحابه وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني : المشركين ، ثم تقدم ، فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد " ، قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع ، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم ، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه ، قال أنس : كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه : { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } إلى آخر الآية .
أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر ، أنبأنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي ، أنبأنا محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية ، أنبأنا مسلم بن إبراهيم ، أنبأنا الصلت بن دينار ، عن أبي نصرة ، عن جابر بن عبد الله قال : " نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد الله فقال : من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن أبي شيبة ، أنبأنا وكيع بن إسماعيل ، عن قيس قال : " رأيت يد طلحة شلاء " وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
ولما ذكر أن المنافقين ، عاهدوا اللّه ، لا يولون الأدبار ، ونقضوا ذلك العهد ، ذكر وفاء المؤمنين به ، فقال : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ } أي : وفوا به ، وأتموه ، وأكملوه ، فبذلوا مهجهم في مرضاته ، وسبَّلوا أنفسهم في طاعته .
{ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أي : إرادته ومطلوبه ، وما عليه من الحق ، فقتل في سبيل اللّه ، أو مات مؤديًا لحقه ، لم ينقصه شيئًُا .
{ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } تكميل ما عليه ، فهو شارع في قضاء ما عليه ، ووفاء نحبه ولما يكمله ، وهو في رجاء تكميله ، ساع في ذلك ، مجد .
{ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } كما بدل غيرهم ، بل لم يزالوا على العهد ، لا يلوون ، ولا يتغيرون ، فهؤلاء ، الرجال على الحقيقة ، ومن{[701]} عداهم ، فصورهم صور رجال ، وأما الصفات ، فقد قصرت عن صفات الرجال .
ثم أضاف - سبحانه إلى هذا المديح لهم ، مديحا آخر فقال : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } والنحب : النذر ، وهو أن يلتزم الانسان الوفاء بأمر تعهد به .
وقضاؤه : الفراغ منه ، والوفاء به على أكمل وجه .
وكان رجال من الصحابة قد نذروا ، أنهم إصا صاحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حرب ، أن يثبتوا معه ، وأن لا يفروا عنه .
والمعنى : من المؤمنين رجال كثيرون ، وفوا أكمل وفاء بما عاهدوا الله - تعالى - عليه ، من التأييد لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن الثبات معه فى كل موطن .
{ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } أى : فمنهم من وفى بوعده حتى أدركه أجله فمات شهيدا - كحمزة بن عبد المطلب ، ومصعب ابن عمير وغيرهما - رضى الله عنهم أجمعين - .
{ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } أى : ومنهم من هو مستمر على الوفاء ، وينتظر الشهادة فى سبيل الله - تعالى - فى الوقت الذى يريده - سبحانه - ويختاره ، كبقية اليالصحابة ن نزلت هذه الآية وهم ما زالو على قيد الحياة .
قال الامام ابن كثير : قال الامام أحمد : حدثنا هاشم من القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت قال أنس : غاب عمى أنس بن النضر - سُمِّيتُ به - لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، فشق عليه وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، لئن أرانى الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَريَّن الله ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد .
فاستقبل سعد بن معاذ ، فقال له أنس : يا ابا عمرو ، أين واهاً لريح الجنة أجده دون أحد .
قال : فقاتلهم حتى قتل : فوُجِدَ فى جسده بضْعُ وثمانون من ضربة وطعنة ورمية فقالت أخته - عمتى الرُّبَيِّع ابنة النضر - فما عرفت أخى إلا ببنانه .
قال : فنزلت هذه الآية : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ } فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفى أصحابه - رضى الله عنهم ، ورواه مسلم والترمذى والنسائى من حديث سليمان بن المغيرة .
وقوله - تعالى - : { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } معطوف على { صَدَقُواْ } أى : هؤلاء الرجال صدقوا صدقا تاما فى عهودهم مع الله - تعالى - حتى آخر لحظة من لحظات حياتهم ، وما غيروا ولا بدلوا شيئا مما عاهدوا الله - تعالى - عليه .
وهذا هو التوازن الذي صاغ ذلك النموذج الفريد في صدر الإسلام . النموذج الذي يذكر عنه القرآن الكريم مواقفه الماضية وحسن بلائه وجهاده ، وثباته على عهده مع الله ، فمنهم من لقيه ، ومنهم من ينتظر أن يلقاه :
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر . وما بدلوا تبديلا ) . .
هذا في مقابل ذلك النموذج الكريه . نموذج الذين عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار . ثم ولم يوفوا بعهد الله : ( وكان عهد الله مسؤولا ) . .
روى الإمام أحمد - بإسناده - عن ثابت قال : " عمي أنس بن النضر - رضي الله عنه - سميت به - لم يشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم بدر ، فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غبت عنه ! لئن أراني الله تعالى مشهدا فيما بعد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ليرين الله عز وجل ما أصنع . قال : فهاب أن يقول غيرها . فشهد مع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم أحد . فاستقبل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال له أنس - رضي الله عنه - يا أبا عمرو . أين واها لريح الجنة ! إني أجده دون أحد . قال : فقاتلهم حتى قتل - رضي الله عنه - قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية . فقالت أخته - عمتي الربيع ابنة النضر - : فما عرفت أخي إلا ببنانه . قال : فنزلت هذه الآية : من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه . . . الخ قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم . [ ورواه مسلم والترمذي والنسائي من حديث سليمان بن المغيرة ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مّن قَضَىَ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدّلُواْ تَبْدِيلاً * لّيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رّحِيماً } .
يقول تعالى ذكره مِنَ المُؤْمِنِينَ بالله ورسوله رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْه يقول : أوفوا بما عاهدوه عليه من الصبر على البأساء والضرّاء ، وحين البأس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ يقول : فمنهم من فرغ من العمل الذي كان نذره الله وأوجبه له على نفسه ، فاستشهد بعض يوم بدر ، وبعض يوم أُحد ، وبعض في غير ذلك من المواطن وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قضاءه والفراغ منه ، كما قضى من مضى منهم على الوفاء لله بعهده ، والنصر من الله ، والظفر على عدوّه . والنّحب : النذر في كلام العرب . وللنحب أيضا في كلامهم وجوه غير ذلك ، منها الموت ، كما قال الشاعر :
*** قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى القَوْمِ هَوْبَرُ ***
يعني : منيته ونفسه ومنها الخطر العظيم ، كما قال جرير :
بِطَخْفَةَ جالَدْنا المُلُوكَ وَخَيْلُنَا *** عَشِيّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ عَلى نَحْبِ
أي على خطر عظيم ومنها النحيب ، يقال : نحب في سيره يومه أجمع : إذا مدّ فلم ينزل يومه وليلته ومنها التنحيب ، وهو الخطار ، كما قال الشاعر :
وإذْ نَحّبَتْ كَلْبٌ على النّاس أيّهُمْ *** أحَقّ بِتاجِ المَاجِدِ المُتَكَوّم ؟
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني يزيد بن رومان مِنَ المُؤْمِنينَ رجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ : أي وفوا الله بما عاهدوه عليه فمنهم من قَضَى نَحْبَهُ أي فرغ من عمله ، ورجع إلى ربه ، كمن استشهد يوم بدر ويوم أُحد ومنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ما وعد الله من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : عهده فقتل أو عاش وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يوما فيه جهاد ، فيقضي نحبه عهده ، فيقتل أو يصدق في لقائه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن جريج ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : عهده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال : يوما فيه قتال ، فيصدق في اللقاء .
قال : ثنا أبي ، عن سفيان ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : مات على العهد .
قال : ثنا أبو أُسامة ، عن عبد الله بن فلان قد سماه ذهب عنى اسمه عن أبيه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : نذره .
حدثنا ابن إدريس ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمه عيسى بن طلحة : أن أعرابيا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسأله : من الذين قضوا نحبهم ؟ فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ودخل طلحة من باب المسجد وعليه ثوبان أخضران ، فقال : «هَذَا مِنَ الّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوّذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : موته على الصدق والوفاء . وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الموت على مثل ذلك ، ومنهم من بدّل تبديلاً .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سعيد بن مسروق ، عن مجاهد فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قال : النحب : العهد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ على الصدق والوفاء وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ من نفسه الصدق والوفاء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : مات على ما هو عليه من التصديق والإيمان وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي بكير ، قال شريك بن عبد الله ، أخبرناه عن سالم ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ قال : الموت على ما عاهد الله عليه وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الموت على ما عاهد الله عليه .
وقيل : إن هذه الاَية نزلت في قوم لم يشهدوا بدرا ، فعاهدوا الله أن يفوا قتالاً للمشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمنهم من أوفى فقضى نحبه ، ومنهم من بدّل ، ومنهم من أوفى ولم يقض نحبه ، وكان منتظرا ، على ما وصفهم الله به من صفاتهم في هذه الاَية . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر ، فقال : تغيبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن رأيت قتالاً ليرينّ الله ما أصنع فلما كان يوم أُحُد ، وهُزم الناس ، لقي سعد بن معاذ فقال : والله إني لأجدُ ريح الجنة ، فتقدّم فقاتل حتى قُتل ، فنزلت فيه هذه الاَية : مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالُ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الله بن بكير ، قال : حدثنا حميد ، قال : زعم أنس بن مالك قال : غاب أنس بن النضر ، عن قتال يوم بدر ، فقال : غبت عن قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين ، لئن أشهدني الله قتالاً ، ليرينّ الله ما أصنع فلما كان يوم أُحُد ، انكشف المسلمون ، فقال : اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، فمشى بسيفه ، فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أي سعد إني لأجد ريح الجنة دون أُحُد . فقال سعد : يا رسول الله فما استطعت أن أصنع ما صنع . قال أنس بن مالك : فوجدناه بين القتلى ، به بضع ثمانون جراحة ، بين ضربة بسيف ، وطعنة برمح ، ورمية بسهم ، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه . قال أنس : فكنا نتحدّث أن هذه الاَية مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ نزلت فيه ، وفي أصحابه .
حدثنا سوار بن عبد الله ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت حميدا يحدّث ، عن أنس بن مالك ، أن أنس بن النضر ، غاب عن قتال بدر ، ثم ذكر نحوه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا طلحة بن يحيى ، عن موسى وعيسى بن طلحة عن طلحة أن أعرابيا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وكانوا لا يجرءون على مسألته ، فقالوا للأعرابي : سله مَنْ قَضَى نَحْبَهُ من هو ؟ فسأله ، فأعرض عنه ، ثم سأله ، فأعرض عنه ، ثم دخلت من باب المسجد وعليّ ثياب خُضر فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أيْنَ السّائِليُ عَمّنْ قَضَى نَحْبَهُ ؟ » قال الأعرابيّ : أنا يا رسول الله ، قال : «هَذَا مِمّنْ قَضَى نَحْبَهُ » .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد الحِمّاني ، عن إسحاق بن يحيى الطّلْحِي ، عن موسى بن طلحة ، قال : قام معاوية بن أبي سفيان ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «طَلْحَةُ ممّنْ قَضَى نَحْبَهُ » .
حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي ، قال : حدثنا سليمان بن أيوب ، قال : ثني أبي ، عن إسحاق ، عن يحيى بن طلحة ، عن عمه موسى بن طلحة ، عن أبيه طلحة ، قال : لما قدمنا من أُحُد وصرنا بالمدينة ، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم المنبر ، فخطب الناس وعزّاهم ، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر ، ثم قرأ : رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ . . . الاَية ، قال : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ فالتفت وعليّ ثوبات أخضران ، فقال : «أيّها السّائِلُ هَذَا مِنْهُمْ » .
وقوله : وَما بَدّلُوا تَبْدِيلاً : وما غيروا العهد الذي عاقدوا ربهم تغييرا ، كما غيره المعوّقون القائلون لإخوانهم : هلّ إلينا ، والقائلون : إن بيوتنا عورة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما بَدّلُوا تَبْديلاً يقول : ما شكّوا وما تردّدوا في دينهم ، ولا استبدلوا به غيره .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَما بَدّلُوا تَبْديلاً : لم يغيروا دينهم كما غير المنافقون .
أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله { وكفى الله المؤمنين القتال } [ الأحزاب : 25 ] بالثناء على فريق منهم كانوا وَفَّوْا بما عاهدوا الله عليه وفاءً بالعمل والنية ، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدوّ يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يدٌ واحدة .
والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجُل مشتق من الرِّجْل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأيد من اليَد ، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل ، وإن كانت نزلت يوم أُحُد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير : أنها نزلت مع سورة الأحزاب . وأيَّا مَّا كان وقتُ نزول الآية فإن المراد منها : رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أُحُد وهم : عثمان بن عفان ، وأنس بن النضر ، وطلحة بن عبيد الله ، وحمزة ، وسعيد بن زيد ، ومصعب بن عمير . فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استُشهدوا يومَ أُحُد ، وأما طلحة فقد قُطِعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا . وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق . وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من أُحُد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثمّ تلا { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه الآية } .
ومعنى { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئاً في المستقبل فإذا فعله فقد صدق . وفعل الصدق يستعمل قاصراً وهو الأكثر ، ويستعمل متعدياً إلى المخبَر بفتح الباء يقال : صدقه الخبر ، أي قال له الصدق ، ولذلك فإن تعديته هنا إلى { ما عاهدوا الله عليه } إنما هو على نزع الخافض ، أي : صدقوا فيما عاهدوا الله عليه ، كقولهم في المثل : صدقني سنَّ بَكْرِه ، أي : في سن بكره .
والنحب : النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه ، أي : من المؤمنين مَن وفّى بما عاهد عليه من الجهاد كقول أنس بن النضرْ حين لم يشهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبُر ذلك عليه وقال : أولُ مشهد شَهده رسول الله غبت عنه ، أما والله لئن أراني الله مَشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرَيَّن الله ما أصنع فشهد أُحُداً وقاتل حتى قُتل .
ومثل الذين شهدوا أيام الخندق فإنهم قَضَوْا نحبهم يوم قريظة .
وقد حمل بعض المفسرين { قضَى نحبه } في هذه الآية على معنى الموت في الجهاد على طريقة الاستعارة بتشبيه الموت بالنذر في لزوم الوقوع ، وربما ارتقى ببعض المفسرين ذلك إلى جعل النحب من أسماء الموت ، ويمنع منه ما ورد في حديث الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في طلحة بن عبيد الله : « إنه ممن قَضَى نَحْبَه » وهو لم يمت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله { وما بدلوا تبديلاً } فهو في معنى { صدقُوا ما عاهدوا الله عليه } وإنما ذكر هنا للتعريض بالمنافقين الذين عاهدوا الله لا يولُّون الأدبار ثم ولوا يوم الخندق فرجعوا إلى بيوتهم في المدينة . وانتصب { تبديلاً } على أنه مفعول مطلق موكِّد ل { بدّلوا } المنفي . ولعل هذا التوكيد مسوق مساق التعريض بالمنافقين الذين بدّلوا عهد الإيمان لما ظنوا أن الغلبة تكون للمشركين .