37- إن تكن حريصاً - أيها النبي - على هداية المشركين من قومك ، باذلاً معهم أقصى ما في جهدك ، فلا تهلك نفسك حزناً إذا لم يتحقق ما تريد ، فقد تحكمت فيهم الشهوات ، والله لا يجبر على الهداية من اختاروا الضلال وتمسكوا به ، لأنه يتركهم لما اختاروا لأنفسهم ، وسيلقون جزاءهم عذاباً عظيماً ، ولا يجدون لهم يوم القيامة من ينصرهم ويحميهم من عذاب الله .
قوله تعالى : { إن تحرص على هداهم } يا محمد ، { فإن الله لا يهدي من يضل } ، قرأ أهل الكوفة يهدي بفتح الياء وكسر الدال أي : لا يهدي الله من أضله . وقيل : معناه لا يهتدي من أضله الله . وقرأ الآخرون بضم الياء وفتح الدال يعني من أضله الله فلا هادي له كما قال : { من يضلل الله فلا هادي له } [ الأعراف- 86 ] { وما لهم من ناصرين } أي مانعين من العذاب .
ثم أخبر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بأن حرصه على هداية المصرين على ضلالهم ، لن يغير من واقع أمرهم شيئا ، فقال - تعالى - { إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ . . } .
والفعل المضارع { تحرص } بكسر الراء ، ماضيه " حرص " بفتحها كضرب يضرب .
والحرص : شدة الرغبة فى الحصول على الشئ ، والاستئثار به .
وقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } تعليل لجواب الشرط المحذوف ، والتقدير :
إن تحرص - أيها الرسول الكريم - على هداية هؤلاء المصرين على كفرهم لن ينفعهم حرصك . فإن الله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن لا يهدى من يخلق فيه الضلالة بسبب سوء اختياره ، وفساد استعداده .
وفى الجملة الكريمة إشارة إلى ما جبل عليه النبى صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق ، فإنه مع ما لقيه من مشركى قومه من أذى وعناد وتكذيب . . . كان حريصا على ما ينفعهم ويسعدهم .
قال الآلوسى ما ملخصه : وقوله { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } جواب الشرط على معنى فاعلم ذلك ، أو علة للجواب المحذوف ، أى : إن تحرص على هداهم لن ينفع حرصك شيئا ، فإن الله لا يهدى من يضل .
والمراد بالموصول : كفار قريش المعبر عنهم قبل ذلك بالذين أشركوا ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ؛ للتنصيص على أنهم ممن حقت عليهم الضلالة وللإِشعار بعلة الحكم .
ومعنى الآية : أنه - سبحانه - لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره . و " من " على هذا . مفعول { يهدى } وضمير الفاعل فى { يضل } لله - تعالى - والعائد محذوف ، أى من يضله .
وقرأ غير واحد من السبعة { فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي . . } بضم الياء وفتح الدال - على البناء للمفعول .
و " من " على هذا نائب فاعل ، والعائد وضمير الفاعل كما مر . . " .
والمعنى على هذه القراءة : إن تحرص على هداهم - يا محمد - لن ينفعهم حرصك ، فإن من أضله الله - تعالى - لا يهديه أحد .
وقوله : { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله .
أى : وليس لهؤلاء الضالين من ناصر يدفع عنهم عذاب الله - تعالى - إن نزل بهم ، أو يصرفهم عن سبيل الغى الذى آثروه على سبيل الرشد .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - :
{ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً . . }
{ مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك مقولة أخرى من مقولاتهم الباطلة ، التى أكدوها بالأَيمان المغلظة ، ورد عليها بما يدمغها ، فقال - تعالى - : { وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ . . . } .
ومن ثم يعقب على هذا بخطاب إلى الرسول [ ص ] يقرر سنة الله في الهدى والضلال :
( إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل وما لهم من ناصرين ) .
فليس الهدى أو الضلال بحرص الرسول على هدى القوم أو عدم حرصه ، فوظيفته البلاغ . أما الهدى أو الضلال فيمضي وفق سنة الله وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها ، فمن أضله الله لأنه استحق الضلال وفق سنة الله ، فإن الله لايهديه ، لأن لله سننا تعطي نتائجها . وهكذا شاء . والله فعال لما يشاء . ( وما لهم من ناصرين )ينصرونهم من دون الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تَحْرِصْ عَلَىَ هُدَاهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلّ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين إلى الإيمان بالله واتباع الحقّ فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين : فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يَضِلّ بفتح الياء من «يهدي » ، وضمها من «يضلّ » . وقد اختلف في معنى ذلك قارئوه كذلك ، فكان بعض نحويي الكوفة يزعم أن معناه : فإن الله من أضله لا يهتدي ، وقال : العرب تقول : قد هُدي الرجل يريدون قد اهتدى ، وهُدي واهتدى بمعنى واحد . وكان آخرون منهم يزعمون أن معناه : فإن الله لا يهدي من أضله ، بمعنى : أن من أضله الله فإن الله لا يهديه . وقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والشام والبصرة : «فإنّ اللّهَ لاَ يُهْدَى » بضم الياء من «يُهدى » ومن «يُضل » وفتح الدال من «يُهدَى » بمعنى : من أضله الله فلا هادي له .
وهذه القراءة أولى القراءتين عندي بالصواب ، لأن يَهْدي بمعنى يهتدى قليل في كلام العرب غير مستفيض ، وأنه لا فائدة في قول قائل : من أضله الله فلا يهديه ، لأن ذلك مما لا يجهله أحد . وإذ كان ذلك كذلك ، فالقراءة بما كان مستفيضا في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى .
فتأويل الكلام لو كان الأمر على ما وصفنا : إن تحرص يا محمد على هداهم ، فإن من أضله الله فلا هادي له ، فلا تجهد نفسك في أمره وبلغه ما أرسلت به لتتمّ عليه الحجة . وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يقول : وما لهم من ناصر ينصرهم من الله إذا أراد عقوبتهم ، فيحول بين الله وبين ما أراد من عقوبتهم .
وفي قوله : إنْ تَحْرِصْ لغتان : فمن العرب من يقول : حَرَصَ يَحْرِصُ بفتح الراء في فعَل وكسرها في يفعل . وحَرِصَ يَحْرَصُ بكسر الراء في فعِل وفتحها في يفعَل . والقراءة على الفتح في الماضي والكسر في المستقبل ، وهي لغة أهل الحجاز .
وقوله { إن تحرص } الآية ، الحرص أبلغ الإرادة في الشيء ، وهذه تسلية للنبي عليه السلام أي إن حرصك لا ينفع ، فإنها أمور محتومة ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وشبل ومزاحم الخراساني وأبو رجاء العطاردي وابن سيرين «لا يُهدَى » بضم الياء وفتح الدال{[7296]} ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «لا يهدي » بفتح الياء وكسر الدال ، وهي قراءة ابن المسيب وابن مسعود وجماعة ، وذلك على معنيين أي إن الله لا يهدي من قضى بإضلاله ، والآخر أن العرب تقول هدي الرجل بمعنى اهتدى حكاه الفراء{[7297]} وفي القرآن { لا يهدي إلا أن يهدى }{[7298]} [ يونس : 35 ] وجعله أبو علي وغيره بمعنى يهتدي ، وقرأت فرقة «إن الله لا يَهدِي » بفتح الياء وكسر الهاء والدال ، وقرأت فرقة «إن الله لا يُهدي » بضم الياء وكسر الدال ، وهي ضعيفة{[7299]} ، وفي مصحف أبي بن كعب ، «إن الله لا هادي لمن أضل » ، قال أبو علي : الراجع إلى اسم { إن } مقدر في { يضل } على كل قراءة إلا على قراءة من قرأ «يَهْدِي » بفتح الياء وكسر الدال بمعنى يهدي الله ، فإن الراجع مقدر في «يهدي » ، وقوله { وما لهم } ضمير على معنى «من » ، وتقول العرب حَرَص يحرص{[7300]} وَحَرص يحرُص والكسر في المستقبل هي لغة أهل الحجاز ، وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو حيوة بفتح الراء ، وقرأ إبراهيم منهم ، «وإن » بزيادة الواو .
استئناف بياني ، لأن تقسيم كل أمّة ضالّة إلى مهتد منها وباققٍ على الضلال يثير سؤالاً في نفس النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذه الأمّة : أهو جار على حال الأمم التي قبلها ، أو أن الله يهديهم جميعاً . وذلك من حرصه على خيرهم ورأفته بهم ، فأعلمه الله أنه مع حرصه على هداهم فإنهم سيبقى منهم فريق على ضلاله .
الأولى : التعريض بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنَق في نفس من يلحقه الأذى ؛ ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مطهّرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية .
واللطيفة الثانية : الإيماء إلى أن غالب أمّة الدعوة المحمّدية سيكونون مهتدين وأن الضُلاّل منهم فئة قليلة ، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقُدرته من الأسباب التي هيّأت لهم البقاء في الضلال .
والحرصُ : فرط الإرادة الملحّة في تحصيل المُراد بالسّعي في أسبابه .
والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط ، لأن مضمون الشرط معلوم الحصول ، لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه النّاس ، كما قال تعالى : { حريص عليكم } [ سورة التوبة : 128 ] ؛ وإنّما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط . فالمعنى : إن كنت حريصاً على هداهم حرصاً مستمراً فاعلم أن من أضلّه الله لا تستطيع هديه ولا تجد لهديه وسيلة ولا يهديه أحد . فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير ، كقول عنترة :
إن تُغْدِ فِي دوني القِناعَ فإنّني *** طَبّ بأخذ الفارس المستلئم
وأظهر منه في هذا المعنى قوله أيضاً :
إن كنت أزمعتِ الفراق فإنما *** زُمّت رِكابكم بليلٍ مظلم
فإنّ فعل الشرط في البيتين في معنى : إن كان ذلك تصْميماً ، وجواب الشرط فيهما في معنى إفادة العلم .
وجعل المسند إليه في جملة الإخبار عن استمرار ضلالهم اسمَ الجلالة للتهويل المشوق إلى استطلاع الخبر . والخبر هو أن هداهم لا يحصل إلاّ إذا أراده الله ولا يستطيع أحد تحصيله لا أنت ولا غيرك ، فمن قدّر الله دوام ضلاله فلا هادي له . ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يكون المسند إليه ضمير المتحدّث عنهم بأن يقال : فإنهم لا يهديهم غير الله .
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب لا يُهدَى } بضم الياء وفتح الدّال مبنياً للنائب ، وحذف الفاعل للتعميم ، أي لا يهديه هاد .
و { مَن } نائب فاعل ، وضمير { يضل } عائد إلى الله ، أي فإن الله لا يُهدَى المضَلّل بفتح اللاّم منه . فالمسند سببي وحُذف الضمير السببي المنصوب لظهوره وهو في معنى قوله : { ومن يضلل الله فما له من هاد } [ سورة الرعد : 33 ] وقوله تعالى : { من يضلل الله فلا هادي له } [ سورة الأعراف : 186 ] .
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف { لا يَهدي } بفتح الياء بالبناء للفاعل ، وضمير اسم الجلالة هو الفاعل ، و { مَن } مفعول { يهدي } ، والضمير في { يضل } للّهِ ، والضمير السببي أيضاً محذوف ، والمعنى : أنّ الله لا يهدي من قَدّر دوام ضلاله ، كقوله تعالى : { وأضله الله على علم } [ سورة الجاثية : 23 ] إلى قوله : { فمن يهديه من بعد الله } [ سورة الجاثية : 23 ] .
ومعنى { وما لهم من ناصرين } ما لهم ناصر ينجيهم من العذاب ، أي كما أنهم ما لهم منقذ من الضلال الواقعين فيه ما لهم ناصر يدفع عنهم عواقب الضلال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
وقال سبحانه: {إن تحرص على هداهم} يا محمد صلى الله عليه وسلم،
{من يضل}، يقول: من أضله الله فلا هادي له،
{وما لهم من ناصرين}، يعني: مانعين من العذاب.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إن تحرص يا محمد على هدى هؤلاء المشركين إلى الإيمان بالله واتباع الحقّ؟فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ؟. واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء الكوفيين: فإنّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلّ بفتح الياء من «يهدي»، وضمها من «يضلّ». وقد اختلف في معنى ذلك قارئوه كذلك، فكان بعض نحويي الكوفة يزعم أن معناه: فإن الله من أضله لا يهتدي، وقال: العرب تقول: قد هُدي الرجل يريدون قد اهتدى، وهُدي واهتدى بمعنى واحد. وكان آخرون منهم يزعمون أن معناه: فإن الله لا يهدي من أضله، بمعنى: أن من أضله الله فإن الله لا يهديه.
وقرأ ذلك عامّة قرّاء المدينة والشام والبصرة: «فإنّ اللّهَ لاَ يُهْدَى» بضم الياء من «يُهدى» ومن «يُضل» وفتح الدال من «يُهدَى» بمعنى: من أضله الله فلا هادي له. وهذه القراءة أولى القراءتين عندي بالصواب، لأن يَهْدي بمعنى يهتدى قليل في كلام العرب غير مستفيض، وأنه لا فائدة في قول قائل: من أضله الله فلا يهديه، لأن ذلك مما لا يجهله أحد. وإذ كان ذلك كذلك، فالقراءة بما كان مستفيضا في كلام العرب من اللغة بما فيه الفائدة العظيمة أولى وأحرى. فتأويل الكلام لو كان الأمر على ما وصفنا: إن تحرص يا محمد على هداهم، فإن من أضله الله فلا هادي له، فلا تجهد نفسك في أمره وبلغه ما أرسلت به لتتمّ عليه الحجة.
"وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ" يقول: وما لهم من ناصر ينصرهم من الله إذا أراد عقوبتهم، فيحول بين الله وبين ما أراد من عقوبتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال أبو بكر الأصم: كان يحب، ويحرص على هدى قراباته كقوله: {إنك لا تهدي من أحببت} (القصص: 56) فقال: {فإن الله لا يهدي من يضل} أي لا يهديهم بضلالهم وقت ضلالهم، أي لا يهدي وقت اختيارهم الضلال، ولا يهدي من علم أنه اختار الضلال، أو لا ينجي من يهلك من الضلال... أو لا يهدي من علم منه أنه يختار الضلال والظلم، ولا يهدي من يلزم الضلال وقت لزومه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ومعنى اضلال الله -ههنا- يحتمل امرين:
احدهما -ان من حكم الله بضلاله وسماه ضالا، لا يقدر أحد ان يجعله هاديا ويحكم بذلك.
والثاني- إن من أضله الله (عز وجل) عن طريق الجنة لا أحد يقدر على هدايته إليها، ولا يقدر هو أيضا على أن يهتدي إليها. يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم "إن تحرص "يا محمد على أن يؤمنوا ويهتدوا إلى الجنة، فهم بسوء اختيارهم لا يرجعون عن كفرهم، والله تعالى قد حكم بكفرهم وضلالهم واستحقاقهم للعقاب، فلا أحد يقدر على خلاف ذلك.
والمراد بالآية التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه لمن لا يفلح بالإجابة، لانهماكه في الكفر، وأن ذلك ليس تقصيرا من جهتك بل إنه ليس إلى فلاح مثل هذا سبيل.
والحرص: طلب الشيء بجد واجتهاد...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم، وعرّفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة، وأنه {لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} أي لا يلطف بمن يخذل، لأنه عبث، والله تعالى متعال عن العبث؛ لأنه من قبيل القبائح التي لا تجوز عليه. وقرىء: «لا يُهدَى» أي: لا تقدر أنت ولا أحد على هدايته وقد خذله الله. وقوله {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} دليل على أنّ المراد بالإضلال الخذلان الذي هو نقيض النصرة. ويجوز أن يكون {لاَّ يَهِدِّى} بمعنى لا يهتدي. يقال: هداه الله فهدي. وفي قراءة أبيّ «فإنّ الله لا هادي لمن يضل، ولمن أضلّ»، وهي معاضدة لمن قرأ «لا يُهدى» على البناء للمفعول. وفي قراءة عبد الله: «يَهدِّي»، بإدغام تاء يهتدي، وهي معاضدة للأولى.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم إنه تعالى قد أخبر أنه عير عليهم، وأنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل؛ فلهذا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي: اسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق كيف {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10]، {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 18]. ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم، إذا كان الله قد أراد إضلالهم، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، وقال نوح لقومه: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]، وقال في هذه الآية الكريمة: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} كما قال تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97]. فقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ} أي: شأنه وأمره أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن؛ فلهذا قال: {لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} أي: من أضله فمن الذي يهديه من بعد الله؟ أي: لا أحد {وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي: ينقذونهم من عذابه ووثاقه، {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المحقق أنه ليس بعد الإيصال في الاستدلال إلى الأمر المحسوس إلا العناد، أعرض عنهم ملتفتاً إلى الرؤوف بهم الشفيق عليهم، فقال مسلياً له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {إن تحرص على هداهم} فتطلبه بغاية جدك واجتهادك {فإن الله} أي الملك الأعظم {لا يهدي} أي هو بخلق الهداية في القلب- هذا على قراءة الكوفيين بفتح الياء وكسر الدال، ومن هاد ما بوجه من الوجوه على قراءة الجمهور بالبناء للمفعول... والضلال عند العرب سلوك غير سبيل القصد.
{وما لهم من ناصرين}...تبكيت لهم وتقريع وحث وتهييج على أن يقوموا بأنفسهم ويستعينوا بمن شاءوا على نصب دليل ما يدعونه من أنهم أتبع الناس للحق، إما بأن يبرهنوا على صحة معتقدهم أو يعينوهم على الرجوع عنه عند العجز عن ذلك، أو يكفوا عنهم العذاب إذا حاق بهم.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{إنْ تَحْرِصْ} يا محمد {عَلَى هُدَاهُمْ} هدى قومك المأْمورين بالسير للاعتبار أي هدى توفيق، كما روى أنه يقول: اللهم اهد قومي، ويجوز أن يريد بالحرص شدته فوق ما يلزمه من هدى بيان {فَإِنَّ اللهَ لاَ يهْدِى} هدى توفيق، ولو شددت في البيان أو رغبت في هدى التوفيق لهم جدا...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ومجمل القول: إن من اختار الضلالة ووجه همته إلى تحصيل أسبابها فالله سبحانه لا يخلق فيه الهداية قسرا وإلجاء، لأن مدار الإيمان والكفر الاختيار لا الإلجاء والاضطرار.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فليس الهدى أو الضلال بحرص الرسول على هدى القوم أو عدم حرصه، فوظيفته البلاغ. أما الهدى أو الضلال فيمضي وفق سنة الله وهذه السنة لا تتخلف ولا تتغير عواقبها، فمن أضله الله لأنه استحق الضلال وفق سنة الله، فإن الله لا يهديه، لأن لله سننا تعطي نتائجها. وهكذا شاء. والله فعال لما يشاء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الأولى: التعريض بالثناء على النبي صلى الله عليه وسلم في حرصه على خيرهم مع ما لقيه منهم من الأذى الذي شأنه أن يثير الحنَق في نفس من يلحقه الأذى؛ ولكن نفس محمد صلى الله عليه وسلم مطهّرة من كل نقص ينشأ عن الأخلاق الحيوانية.
واللطيفة الثانية: الإيماء إلى أن غالب أمّة الدعوة المحمّدية سيكونون مهتدين وأن الضُلاّل منهم فئة قليلة، وهم الذين لم يقدر الله هديهم في سابق علمه بما نشأ عن خلقه وقُدرته من الأسباب التي هيّأت لهم البقاء في الضلال. والحرصُ: فرط الإرادة الملحّة في تحصيل المُراد بالسّعي في أسبابه.
والشرط هنا ليس لتعليق حصول مضمون الجواب على حصول مضمون الشرط، لأن مضمون الشرط معلوم الحصول، لأن علاماته ظاهرة بحيث يعلمه النّاس، كما قال تعالى: {حريص عليكم} [سورة التوبة: 128]؛ وإنّما هو لتعليق العلم بمضمون الجواب على دوام حصول مضمون الشرط. فالمعنى: إن كنت حريصاً على هداهم حرصاً مستمراً فاعلم أن من أضلّه الله لا تستطيع هديه ولا تجد لهديه وسيلة ولا يهديه أحد. فالمضارع مستعمل في معنى التجدد لا غير..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{فإن الله لا يهدي من يضل} ويضل هنا معناها من كتب عليه الضلالة، وقدرها له في قدرة المحتوم، ولوحه المحفوظ، وذلك لأنه سلك سبيل الغواية ولم يتفكر ويتدبر، وسيطرت عليهم أوهام الماد، والجاه والسلطان وحب السيطرة فإنه تكتب عليه الضلالة، ولترك اله تعالى له سادرا في غلوائه يكون كمن يضله.
وإن هذا الجحود سببه أمران: الأمر الأول – الاستكبار، وقد تكلمت الآيات القرآنية في آثاره. والأمر الثاني – جحود اليوم الآخر، وقولهم: إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب، وقد بين الله تعالى حالهم في جحودهم اليوم الآخر فقال تعالى: {أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون (38)}.
...ثم بعد ذلك يقطع الحق سبحانه الأمل أمام المكذبين المعاندين فيقول تعالى: {فإن الله لا يهدي من يضل} أي: لا يضل إلا من لم يقبل الإيمان به فيدعه إلى كفره، بل ويطمس على قلبه غير مأسوف عليه، فهذه إرادته، وقد أجابه الله إلى ما يريد.
{وما لهم من ناصرين} إذن: المسألة ليست مجرد عدم الهداية، بل هناك معركة لا يجدون لهم فيها ناصراً أو معيناً يخلصهم منها، كما قال تعالى: {فما لنا من شافعين "100 "ولا صديق حميمٍ "101 "} (سورة الشعراء). إذن: لا يهدي الله من اختار لنفسه الضلال، بل سيعذبه عذاباً لا يجد من ينصره فيه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ}، فإن ذلك ليس ملك يديك، لأن الهداية ليست نتيجةً للكلمة التي تلقيها، وللعمل الذي تقوم به في هذا الاتجاه، بل هي، إلى جانب ذلك، نتيجة لحالة من يتلقاها الداخلية، وللاتجاه الذي يتبناه إرادياً حيال أسباب الهداية، كما أن الله لم يجعل لك سلطة في تحريك إرادة الإنسان باتجاه معين، بل ترك للأسباب أن تحدد نتائجها الطبيعية في الحياة.. وهكذا لا تكون المسألة مسألة حرصك يا محمد على هداهم {فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} لأنّه لا يغير سنته في الكون في ما يجعله من أسباب للهداية والضلال. وسيلاقون جزاء أعمالهم، ولن يستطيعوا الخلاص من ذلك مهما حاولوا ذلك وتوسلوا إليه من وسائل. {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ينصرونهم من دون الله. وبهذا نعرف أن إضلال الله لهم لا يعني إجبارهم على ذلك، بل كل ما يعنيه هو أن الله خلق للضلال أسباباً، وجعل للناس الاختيار في الأخذ بها، فصحت نسبتها إليه من خلال علاقته بخلق السبب، وعلاقة المسبّب به، والله العالم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بديهي، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النّبي (هداية وتبليغ)، وللتاريخ شواهد كثيرة على ما لهداية الناس وإِرشادهم من أثر بالغ، وكم أولئك الذين انتشلوا من وحل الضلال ليصبحوا من خلص أنصار الحق، بل ودعاته.
فعليه.. تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال، وأصبحوا غرقى في بحر الاستكبار والغرور والغفلة والمعصية فأُغلقت أمامهم أبواب الهداية، فهؤلاء لا ينفع معهم محاولات النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهديهم حتى وإِن طالت المدّة لأنّهم قد انحرفوا عن الحق بسبب أعمالهم إلى درجة أنّهم باتوا غير قابلين للهداية. ومن الطبيعي أن لا يكون لهكذا أُناس من ناصرين وأعوان، لأنّ الناصر لا يتمكن من تقديم نصرته وعونه إِلاّ في أرضية مناسبة ومساعدة.
ولعل استعمال «ناصرين» بصيغة الجمع للإِشارة إلى أنّ المؤمنين على العكس من الضالين، لهم أكثر من ناصر، فاللّه تعالى ناصرهم و... الأنبياء، وعباد اللّه الصالحين، وملائكة الرحمة كذلك. ويشير القرآن الكريم إلى هذه النصرة في الآية (51) من سورة المؤمن: (إِنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). وكذلك في الآية (30) من سورة فصلت: (إِنّ الذين قالوا ربّنا اللّه ثمّ استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنّة التي كنتم توعدون).