قوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } قال الكلبي : إن كفار مكة قالوا : إن محمداً شاعر ، وما يقوله شعر ، فأنزل الله تكذيباً لهم : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } أي : ما يتسهل له ذلك ، وما كان يتزن له بيت من شعر ، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسراً .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي ، أنبأنا أحمد بن جعفر بن همدان ، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان ، أنبأنا موسى بن إسماعيل ، أنبأنا حماد بن سلمة ، عن علي بن همدان ، حدثنا يوسف بن أبي زيد ، عن الحسن أن النبي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت* كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً* فقال أبو بكر يا رسول الله إنما قال الشاعر : *كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً* فقال أبو بكر ، وعمر أشهد أنك رسول الله ، يقول الله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، أنبأنا علي بن الجعد ، أنبأنا شريك ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال : قلت لعائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة . قالت : وربما قال : *ويأتيك بالأخبار من لم تزود*فأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم :*ويأتيك من لم تزود بالأخبار*وقالت : وربما قال : ويأتيك بالأخبار من لم تزود ، وقال معمر عن قتادة : بلغني أن عائشة سئلت : هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس ، طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود
فجعل يقول : ( ( ويأتيك من لم تزود بالأخبار ) ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : ليس هكذا يا رسول الله ، فقال : إني لست بشاعر ولا ينبغي لي " { إن هو } يعني : القرآن ، { إلا ذكر } موعظة ، { وقرآن مبين } فيه الفرائض والحدود والأحكام .
{ 69 - 70 } { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ }
ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم ، عما رماه به المشركون ، من أنه شاعر ، وأن الذي جاء به شعر فقال : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أن يكون شاعرا ، أي : هذا من جنس المحال أن يكون شاعرا ، لأنه رشيد مهتد ، والشعراء غاوون ، يتبعهم الغاوون ، ولأن اللّه تعالى حسم جميع الشبه التي يتعلق بها الضالون على رسوله ، فحسم أن يكون يكتب أو يقرأ ، وأخبر أنه ما علمه الشعر وما ينبغي له ، { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي : ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب ، جميع المطالب الدينية ، فهو مشتمل عليها أتم اشتمال ، وهو يذكر العقول ، ما ركز اللّه في فطرها من الأمر بكل حسن ، والنهي عن كل قبيح .
{ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ } أي : مبين لما يطلب بيانه . ولهذا حذف المعمول ، ليدل على أنه مبين لجميع الحق ، بأدلته التفصيلية والإجمالية ، والباطل وأدلة بطلانه ، أنزله اللّه كذلك على رسوله .
ثم رد - سبحانه - على الكافرين الذين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه شاعر ، كما قالوا عن القرآن أنه شعر ، فقال - تعالى - :
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا . . . } .
أى : وما عَلَّمْنا الرسول صلى الله عليه وسلم وإنما الذى علمناه إياه هو القرآن الكريم ، المشتملع لى ما يسعد الناس فى دنياهم وفى آخرتهم .
فالمقصود من هذه الجملة الكريمة ، نفى أن يكون القرآن شعرا بأبلغ وجه لأن الذى علمه الله - تعالى - لنبيه هو القرآن وليس الشعر ، وما دام الأمر كذلك فالقرآن ليس شعراً .
وقوله - تعالى - : { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أى : ما علمناه الشعر ، وإنما علمناه القرآن ، فقد اقتضت حكمتنا أن لا نجعل الشعر فى طبعه صلى الله عليه وسلم ولا فى سليقته ، فحتى لو حاوله - على سبيل الفرض - فإنه لا يتأتى له ، ولا يسهل عليه ولا يستقيم مع فطرته صلى الله عليه وسلم .
والضمير فى قوله - تعالى - : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } يعود إلى القرآن الكريم :
أى : ما هذا القرآن الكريم إلا ذكر من الأذكار النافعة ، والمواعظ الناجحة ، والتوجيهات الحكيمة ، وهو فى الوقت نفسه { وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أى : كتاب مقروء من الكتب السماوية الواضحة ، التى لا تختلط ولا تلتبس بكلام البشر .
في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة . . قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية . وقضية البعث والنشور . . تستعرض في مقاطع مفصلة . مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة . كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها . ويتمثل هذا المعنى مركزاً في النهاية في الآية التي تختم السورة : ( فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) . . فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم . وهي خلقت الإنسان من نطفة . وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة . وهي جعلت من الشجر الأخضر ناراً . وهي أبدعت السماوات والأرض . وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود . . وذلك قوام هذا المقطع الأخير . .
( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين . لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .
وردت قضية الوحي في أول السورة : ( يس والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . . . ) . . والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه شاعر ؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر . وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك . وأن ما جاءهم به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] قول غير معهود في لغتهم . وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر . إنما كان هذا طرفاً من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه [ صلى الله عليه وسلم ] في أوساط الجماهير . معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر ، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه .
وهنا ينفي الله - سبحانه - أنه علم الرسول الشعر . وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم . فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله . .
ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : وما ينبغي له فللشعر منهج غير منهج النبوة . الشعر انفعال . وتعبير عن هذا الانفعال . والانفعال يتقلب من حال إلى حال . والنبوة وحي . على منهج ثابت . على صراط مستقيم . يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله . ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة ، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال .
والنبوة اتصال دائم بالله ، وتلق مباشر عن وحي الله ، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله . بينما الشعر - في أعلى صوره - أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته . فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد ، وفورة لحم ودم ! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس . هذه - في أعلى صورها - أشواق تصعد من الأرض . وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء . .
( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) . .
ذكر وقرآن . . وهما صفتان لشيء واحد . ذكر بحسب وظيفته . وقرآن بحسب تلاوته . فهو ذكر لله يشتغل به القلب ، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان . وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة :
وقوله : وَما عَلّمْناهُ الشّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ يقول تعالى ذكره : وما علّمنا محمدا الشعر ، وما ينبغي له أن يكون شاعرا . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَما عَلّمْناهُ الشّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ قال : قيل لعائشة : هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر ؟ قالت : كانت أَبغض الحديث إليه ، غير أنه كان يتمثّل ببيت أخي بني قيس ، فيجعل آخره أوّله ، وأوّله آخره ، فقال له أبو بكر : إنه ليس هكذا ، فقال نبيّ الله : «إنّي وَاللّهِ ما أنا بِشاعِرٍ ، وَلا يَنْبَغِي لي » .
وقوله : إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ يقول تعالى ذكره : ما هو إلا ذكر ، يعني بقوله : إنْ هُوَ : أي محمد إلا ذكر لكم أيها الناس ، ذكركم الله بإرساله إياه إليكم ، وَنّبهكم به على حظكم وَقُرآنٌ مُبِينٌ يقول : وهذا الذي جاءكم به محمد قرآن مبين ، يقول : يَبِين لمن تدبّره بعقل ولبّ ، أنه تنزيل من الله أنزله إلى محمد ، وأنه ليس بشعر ولا مع كاهن ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وقُرآنٌ مُبِينٌ قال : هذا القرآن .
ثم أخبر تعالى عن حال نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ورد قول من قال من الكفرة إنه شاعر ، وإن القرآن شعر بقوله تعالى : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر ، ولا يزنه ، وكان إذا حاول إنشاد بيت قديم متمثلاً كسر وزنه ، وإنما كان يحرز المعنى فقط وأنشد يوماً قول طرفة : [ الطويل ]
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً . . . ويأتيك من لم تزوده بالأخبار{[9808]}
وأنشد يوماً وقد قيل له من أشعر الناس ؟ فقال الذي يقول : [ الطويل ]
ألم ترياني كلما جئت طارقاً . . . وجدت بها وإن لم تطيب طيبا{[9809]}
أتجعل نهبي ونهب العبي . . . د بين الاقرع وعيينة ؟{[9810]}
وقد كان صلى الله عليه وسلم ربما أنشد البيت المستقيم في النادر وروي أنه أنشد بيت ابن رواحة : [ الطويل ]
يبيت يجافي جنبه عن فراشه . . . إذا استثقلت بالمشركين المضاجع{[9811]}
وقال الحسن بن أبي الحسن : أنشد النبي صلى الله عليه وسلم
* كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً *
، فقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما : نشهد أنك رسول الله إنما قال الشاعر :
* كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا{[9812]}
قال القاضي أبو محمد : وإصابته الوزن أحياناً لا يوجب أنه يعلم الشعر ، وكذلك قد يأتي أحياناً في نثر كلامه ما يدخل في وزن كقوله يوم حنين ، * أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب *{[9813]}
كذلك يأتي في آيات القرآن الكريم{[9814]} وفي كل كلام وليس كله بشعر ولا هو في معناه .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية تقتضي عندي غضاضة على الشعر ولا بد ، ويؤيد ذلك قول عائشة رضي الله عنها : كان الشعر أبغض الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يتمثل بشعر أخي قيس طرفة فيعكسه ، فقال له أبو بكر : ليس هكذا ، فقال : «ما أنا بشاعر وما ينبغي لي »{[9815]} ، وقد ذهب قوم إلى أن الشعر لا غض عليه ، قالوا وإنما منعه الله من التحلي بهذه الحلية الرفيعة ليجيء القرآن من قبله أغرب فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن إن هذا من تلك القوى .
قال القاضي أبو محمد : وليس الأمر عندي كذلك ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبيان في النثر في المرتبة العليا ، ولكن كلام الله تعالى يبين بإعجازه ويبرز برصفه ويخرجه إحاطة علم الله من كل كلام ، وإنما منعه الله تعالى من الشعر ترفيعاً له عما في قول الشعراء من التخييل ، وتزويق القول ، وأما القرآن فهو ذكر الحقائق وبراهين ، فما هو بقول شاعر ، وهكذا كان أسلوب كلامه عليه السلام لأنه لا ينطق عن الهوى ، والشعر نازل الرتبة عن هذا كله ، والضمير في { علمناه } عائد على محمد صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً ، والضمير في { له } يحتمل أن يعود على محمد ويحتمل أن يعود على القرآن ، وإن كان لم يذكر لدلالة المجاورة عليه ، وبين ذلك قوله تعالى : { إن هو } .
هذه الآية ترجع إلى ما تضمنه قوله تعالى : { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } [ يس : 46 ] فقد بيّنا أن المراد بالآيات آيات القرآن ، فإعراضهم عن القرآن له أحوالٌ شتى : بعضها بعدم الامتثال لما يأمرهم به من الخير مع الاستهزاء بالمسلمين وهو قوله تعالى : { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } [ يس : 47 ] الآية ، وبعضها بالتكذيب لما يُنذِرهم به من الجزاء ، وهو قوله : { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ يس : 48 ] . ومن إعراضهم عنه طعنُهم في آيات القرآن بأقوال شتّى منها قولهم : هو قول شاعر ، فلما تصدّى القرآن لإِبطال تكذيبهم بوعيد بالجزاء يوم الحشر بما تعاقب من الكلام على ذلك عاد هنا إلى طعنهم في ألفاظ القرآن من قولهم : { بل افتراه بل هو شاعر } [ الأنبياء : 5 ] ، فقولهم { بل هو شاعر } يقتضي لا محالة أنهم يقولون : القرآن شعر .
فالجملة معطوفة على جملة { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ الأنبياء : 38 ] ، عطف القصة على القصة والغرضضِ على الغرضضِ . ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ويكون الواو للاستئناف ، ولذلك اقتصر هنا على تنزيه القرآن عن أن يكون شعراً والنبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً دون التعرض لتنزيهه عن أن يكون ساحراً ، أو أن يكون مجنوناً لأن الغَرض الرد على إعراضهم عن القرآن ، ألا ترى أنه لما قصد إبطال مقالات لهم في القرآن قال في الآية الأخرى : { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون } [ الحاقة : 41 ، 42 ] .
وضمير { عَلَّمْناهُ } عائد إلى معلوم من مقام الردّ وليس عائداً إلى مذكور إذ لم يتقدم له معاد .
وبني الرد عليهم على طريقة الكناية بنفي تعليم النبي صلى الله عليه وسلم الشعر لما في ذلك من إفادة أن القرآن معلَّم للنبيء صلى الله عليه وسلم من قِبَل الله تعالى وأنه ليس بشعر وأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر .
وانتصب { الشّعْرَ } على أن مفعول ثاننٍ لفعل { عَلَّمْناهُ } ، وهذا الفعل من أفعال العلم ، ومُجرَّدُه يتعدّى إلى مفعول واحد غالباً نحو عَلِم المسألةَ . ويتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر ، فإذا دخله التضعيف صار متعدياً إلى مفعولين فقط اعتداداً بأن مجرده متعدّ إلى واحد كقوله تعالى : { وإذ علمتك الكتاب والحكمة } [ المائدة : 110 ] في سورة العقود ، وقوله : { وما علَّمناهُ الشعر } في هذه السورة يس وهذه تفرقة في الاستعمال موكولة إلى اختيار أهل اللسان نبّه عليه الرضيّ في « شرح الكافية » في باب تعدية أفعال القلوب إلى مفعولين بأن أصله متعدّ إلى واحد . فتقدير المعنى : نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر ، فالقرآن موحىً إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر ، وإذن فالمعنى : أن القرآن ليس من الشعر في شيء ، فكانت هاته الجملة ردّاً على قولهم : هو شاعر على طريقة الكناية لأنها انتقال من اللازم إلى الملزوم .
ودل على أن هذا هو المقصود من قوله : { وما علمناهُ الشعر } قوله عقبه { إن هُوَ إلاَّ ذِكرٌ وقُرءانٌ مبين } ، أي ليس الذي علمناه إياه إلا ذكراً وقرآناً وما هو بشعر .
والتعليم هنا بمعنى الوحي ، أي وما أوحينا إليه الشعر فقد أطلق التعليم على الوحي في قوله تعالى : { إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى } [ النجم : 4 ، 5 ] وقال : { وعلمك ما لم تكن تعلم } [ النساء : 113 ] .
وكيف يكون القرآن شعراً والشعر كلام موزون مقفّى له معان مناسبة لأغراضه التي أكثرها هزل وفكاهة ، فأين الوزن في القرآن ، وأين التقفية ، وأين المعاني التي ينتجها الشعراء ، وأين نظم كلامهم من نظمه ، وأساليبهم من أساليبه . ومن العجيب في الوقاحة أن يصدر عن أهل اللسان والبلاغة قول مثل هذا ولا شبهة لهم فيه بحال ، فما قولهم ذلك إلا بهتان .
وما بني عليه أسلوب القرآن من تساوي الفواصل لا يجعلها موازية للقوافي كما يعلمه أهل الصناعة منهم وكل من زاول مبادىء القافية من المولدين ، ولا أحسبهم دَعوهُ شعراً إلا تعجلاً في الإِبطال ، أو تمويهاً على الإِغفال ، فأشاعوا في العرب أن محمداً صلى الله عليه وسلم شاعر ، وأن كلامه شعر . وينبَني عن هذا الظن خبر أنيس بن جُنَادة الغفاري أخي أبي ذرّ ، فقد روى البخاري عن ابن عباس ، ومسلم عن عبد الله بن الصامت ، يزيد أحدهما على الآخر قالا : « قال أبو ذر لأخيه : اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني ، فانطلقَ الأخ حتى قدم وسمع من قوله ، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له : رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر . قال أبو ذر : فما يقول الناس ؟ قال : يقولون شاعر كاهن ، ساحر . وكان أُنيس أحد الشعراء ، قال أنيس : لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون » ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر ، ويظهر أن ذلك كان في أول البعثة .
ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق « أنه جمع قريشاً عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم : إن وفود العَرب ترد عليكم فأجمعوا فيه رأياً لا يُكذب بعضكم بعضاً ، فقالوا : نقول كاهن ؟ فقال : والله ما هو بكاهن ، ما هو بزمزمته ولا بسجعه ، قالوا : نقول مجنون ؟ فقال : والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته ، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا : نقول شاعر ؟ قال : ما هو بشاعر ، قد عرفت الشعر كله رجزَه وهزجَه وقريضه ومبسوطَه ومقبوضه وما هو بشاعر . إلى آخر القصة
فمعنى ( وما علمناه الشعر ) : وما أوحينا إليه شعرا علمناه إياه
وليس المراد أن الله لم يجعل في طبع النبي القدرة على نظم الشعر لأن تلك المقدرة لا تسمى تعليما حتى تنفى وإنما يستفاد هذا المعنى من قوله بعده ( وما ينبغي له ) وسنتكلم عليه قريبا .
وقد اقتضت الآية نفي أن يكون القرآن شعرا وهذا الاقتضاء قد أثار مطاعن للملحدين ومشاكل للمخلصين وإذ وجدت فقرات قرآنية استكملت ميزان بحور من البحور الشعرية بعضها يلتئم منه بيت كامل وبعضها يتقوم منه مصراع واحد ولا تجد أكثر من ذلك فهذا يلزم منه وقوع الشعر . في آي القرآن .
وقد أثار الملاحدة هذا المطعن فلذلك تعرض أبو بكر الباقلاني إلى دحضه في كتابه إعجاز القرآن وتبعه السكاكي وأبو بكر بن العربي فأما الباقلاني فانفرد برد قال فيه : إن البيت المفرد لا يسمى شعرا بله المصراع الذي لا يكمل به بيت . وأرى هذا غير كاف هنا لأنه لا يستطاع نفي مسمى الشعر عن المصراع وأولى عن البيت .
وقال السكاكي في آخر مبحث رد المطاعن عن القرآن من كتاب مفتاح العلوم « إنهم يقولون أنتم في دعواكم أن القرآن كلام الله وقد علمه محمدا صلى الله عليه وسلم على أحد أمرين : إما أن الله تعالى جاهل لا يعلم ما الشعر وإما أن الدعوى باطلة وذلك أن في قرآنكم ( وما علمناه الشعر ) وأنه يستدعي أن لا يكون فيما علمه شعر »
ثم إن في القرآن من جميع البحور شعرا : فمن الطويل من صحيحه ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) .
ومن مخرومه ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ) .
ومن بحر المديد ( واصنع الفلك بأعيننا ) .
ومن بحر الوافر ( ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) .
ومن بحر الكامل : ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .
ومن بحر الهجز من مخرومه : ( تالله لقد آثرك الله علينا ) .
ومن بحر الرجز ( دانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا ) .
ومن بحر الرمل ( وجفان كالجواري وقدرو راسيات ) ونظيره ( ورفعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ) .
ومن بحر المنسرح ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة ) .
ومن بحر الخفيف ( أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم ) ومنه ( لا يكادون يفقهون حديثا ) ونحوه ( قال يا قوم هؤلاء بناتي ) .
ومن بحر المضارع من مخرومه ( يوم التناد يوم تولون مدبرين ) .
ومن بحر المقتضب ( في قلوبهم مرض ) .
ومن بحر المتقارب ( وأملي لهم إن كيدي متين ) .
فيقال لهم من قبل النظر فيها أوردوه : هل حرفوا بزيادة أو نقصان حركة أو حرفا أم لا . وقبل أن ننظر هل راعوا أحكام علم العروض في الأعاريض والضروب التي سبق ذكرها أم لا .
ومن قَبل أن ننظر هل عملوا بالمنصور من المذهبين في معنى الشعر على نحو ما سبق أم لا ( يعني المذهبين مذهب الذين قالوا لا يكون الشعر شعراً إلا إذا قصد قائله أن يكون موزوناً ، ومذهب الذين قالوا : إن تعمُّد الوزن ليس بواجب بل يكفي أن يلفى موزوناً ولو بدون قصد قائله للوزن وقد نصر المذهب الأول ) يا سبحان الله قدروا جميع ذلك أشعاراً ، أليس يصح بحكم التغليب أن لا يلتفت إلى ما أوردتموه لقلته ، ويُجرى ذلك القرآن مُجرى الخالي عن الشعر فيقال بناء على مقتضى البلاغة : { وما علمناه الشعر } اهـ . كلامه ، وقد نحا به نحو أمرين :
أحدهما : أن ما وقع في القرآن من الكلام المتّزن ليس بمقصود منه الوزن ، فلا يكون شعراً على رأي الأكثر من اشتراط القصد إلى الوزن لأن الله تعالى لم يعبأ باتزانه .
الثاني : إن سلمنا عدم اشتراط القصد فإن نفي كون القرآن شعراً جرى على الغالب . فلا يعدّ قائله كاذباً ولا جاهلاً فلا ينافي اليقين بأن القرآن من عند الله علمه محمداً صلى الله عليه وسلم
ومَال ابن العربي في « أحكام القرآن » إلى أن ما تكلفوه من استخراج فقرات من القرآن على موازين شعرية لا يستقيم إلا بأحد أمور مثل بتر الكلام أو زيادة ساكن أو نقص حرف أو حرفين ، وذكر أمثلة لذلك في بعضها ما لا يتم له فراجعْهُ .
ولا محيص من الاعتراف باشتمال القرآن على فقرات متزنة يلتئم منها بيت أو مصراع ، فأما ما يقلّ عن بيت فهو كالعدم إذ لا يكون الشعر أقل من بيت ، ولا فائدة في الاستكثار من جلب ما يلفى متزناً فإن وقوع ما يساوي بيتاً تاماً من بحر من بحور الشعر العربي ولو نادراً أو مُزَحَّفاً أو مُعَلاّ كاف في بقاء الإِشكال ، فلا حاجة إلى ما سلك ابن العربي في رده ولا كفاية لما سلكه السكاكي في كتابه ، لأن المردود عليهم في سعة من الأخذ بما يلائم نحلتهم من أضعف المذاهب في حقيقة الشعر وفي زحافِه وعلله . وبعد ذلك فإن الباقلاني والسكاكي لم يغوصَا على اقتلاع ما يثيره الجواب الثاني في كلامِهما بعدم القصد إلى الوزن ، من لزوم خفاء ذلك على علم الله تعالى فلماذا لا تُجعل في موضع تلك الفقرات المتزنة فقرات سليمة من الاتّزان .
ولم أر لأحد من المفسرين والخائضين في وجوه إعجاز القرآن التصدي لاقتلاع هذه الشبهة ، وقد مضت عليها من الزمان برهة ، وكنت غير مقتنع بتلك الردود ولا أرضاها ، وأراها غير بالغة من غاية خيل الحلبة منتهاها .
فالذي بدا لي أن نقول : إن القرآن نزل بأفصح لغات البشر التي تواضعوا واصطلحوا عليها ولو أن كلاماً كان أفصح من كلام العرب أو أمة كانت أسلم طباعاً من الأمة العربية لاختارها الله لظهور أفضل الشرائع وأشرف الرسل وأعز الكتب الشرعية .
ومعلوم أن القرآن جاء معجزاً لبلغاء العرب فكانت تراكيبه ومعانيها بالغَيْن حدًّا يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحةً وبلاغة فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حقّ الفصاحة والبلاغة ألفاظاً وتركيباً ونظماً فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جارياً على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذَلك الكلام معدوداً من الشعر لوْ وقَعَ مثلُه في كلامٍ عن غير قصد فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله ولو تفطن له لم يعسر تغييره لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال ، اللهم إلاّ أن يكون قصد به تفنناً في الإِتيان بكلام ظاهره نثر وتفكيكه نظم .
فأما وقوعه في كلام الله تعالى فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه :
أحدها : أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم .
الثاني : أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال وبلغ حد الإِعجاز .
الثالث : أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحَى به من عنده على محسِّن الجمع بين النثر والنظم لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر .
واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المتحدَّيْن به بلغاء العرب وجلُّهم شعراء وبلاغتهم مُودَعة في أشعارهم هي الجمع بين الإِعجاز وبين سدّ باب الشبهة التي تعرض لهم لو جاء القرآن على موازين الشعر ، وهي شبهة الغلط أو المغالطة بعدِّهم النبي صلى الله عليه وسلم في زمرة الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب ، وأن هذا الجائي به ليس بنبيء ولكنه شاعر ، فكان القرآن معجزاً لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحوداً لذلك ، ولكنه ليس من الصنف المسمّى بالشعر بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية وَليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألفوها بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر .
ولقد ظهرت حكمة علاّم الغيوب في ذلك فإن المشركين لمّا سمعوا القرآن ابتدروا إلى الطعن في كونه منزّلاً من عند الله بقولهم في الرسول : هو شاعر ، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة ، وأُنيس بن جُنادة الغفاري ، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية : { وما علمْناهُ الشعر وما ينبغي له إن هُوَ إلاَّ ذِكرٌ وقُرءَانٌ مبينٌ .
وبعد هذا فإن إقامة الشعر لا يَخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي ، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية ، فإذا جاء القرآن شعراً قصَّر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقّه .
وسنذكر عند تفسير قوله تعالى : { وما ينبغي له } وجوهاً ينطبق معظمها على ما أشار إليه قوله تعالى هنا : { وما علمناهُ الشِّعر } . وقد قال ابن عطية : إن الضمير المجرور باللام في قوله : { وما ينبغي له } يجوز أن يعود على القرآن كما سيأتي .
وقوله : { وما ينبغي له } جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحَى به للنبيء صلى الله عليه وسلم شعراً بنفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعراً فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه أي فطر الله النبي صلى الله عليه وسلم على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية ، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذّبين دابر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعراً وأن يكون قرآنه شعراً ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مسكة من تمييز للكلام وكثير ما هم بين العرب رجالهم وكثير من نسائهم غير زوج عبد الله بن رواحة ونظيراتها ، والواو اعتراضية .
وضمير { ينبغي } عائد إلى الشعر ، وضمير { لَهُ } يجوز أن يكون عائداً إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله : { علمناه } وهو الظاهر . وجوّز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل { عَلَّمْناهُ } فجعل جملة { وما ينبغي له } بمنزلة التعليل لِجملة { وما علمْناهُ الشِّعر } .
ومعنى { وما ينبغي له } ما يتأتّى له الشعر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً } [ مريم : 92 ] تفصيل ذلك في سورة مريم ، وتقدم قريباً عند قوله : { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } [ يس : 40 ] . فأصل معنى { ينبغي } يستجيب للبغي ، أي الطلب ، وهو يُشعر بالطلب الملحّ . ثم غلب في معنى يتأتّى ويستقيم فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار { ينبغي } بمعنى يتأتّى يقال : لا ينبغي كذا ، أي لا يتأتى . قال الطيبي : روي عن الزمخشري أنه قال في « كتاب سيبويه » « كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على الانفعال : كضرب وطلب وعَلِم ، وما ليس فيه علاج : كعَدِم وفقَد لا يأتي في مطاوعه الانفعال البتة » اهـ .
ومعنى كون الشعر لا ينبغي له : أن قول الشعر لا ينبغي له لأن الشعر صنف من القول له موازين وقوافٍ ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن قرض الشعر وتأليفه ، أي ليست مِن طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية ، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر لأن إنشاد الشعر غير تعلّمه ، وكم من راوية للأشعار ومن نَقَّادٍ للشعر لا يستطيع قول الشعر وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقد الشعر ، ونبه على بعض مزايا فيه ، وفضّل بعض الشعراء على بعض وهو مع ذلك لا يقرض شعراً .
وربما أنشد البيت فغفل عن ترتيب كلماته فربما اختلّ وزنه في إنشاده{[345]} وذلك من تمام المنافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء ، ألا ترى أنه لم يكن مطّرداً فربما أنشد البيت موزوناً .
هذا من جانب نظم الشعر وموازينه ، وكذلك أيضاً جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائق من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والمُلَح ، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حدّ الإِغراق وكادّعاء الشاعر أحوالاً لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خِلوٌ من حقائقها فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر . وذلك لا يليق بأرفع مقام لكمالات النفس ، وهو مقام أعظم الرسل صلوات الله عليه وعليهم فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرض الشعر ولم يأت في شعره بأفانين الشعراء لعدّ غضاضة في شعره وكانت تلك الغضاضة داعية للتناول من حُرمة كماله في أنفس قومه يستوي فيها العدوّ والصديق .
على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غير مرضية عند أهل المروءة والشرف لما فيهم من الخلاعة والإِقبال على السُكر والميسر والنساء ونحو ذلك . وحسبك ما هو معلوم من قضية خلع حُجر الكِندي ابنه امرأ القيس وقد قال تعالى : { والشعراء يتبعهم الغاوون } [ الشعراء : 224 ] الآية . فلو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل ، والمنظور إليه في هذا الشأن هو الغالب الشائع وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن من الشعر لحكمة » وقال : « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد » :
فتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن وحياطة مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة .
قال أبو بكر بن العربي : هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله تعالى : { وما كنت تتْلُو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك } [ العنكبوت : 48 ] من عيب الخط . فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر .
ومن أجل ما للشعر من الفائدة والتأثير في شيوع دعوة الإِسلام أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حساناً وعبد الله بن رواحة بقوله ، وأظهر استحسانه لكعب بن زهير حين أنشده القصيدة المشهورة : بانت سعادُ .
والقول في ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من كلام موزون مثل قوله يوم أحد :
أنا النبيُ لا كَذِبْ *** أنا ابنُ عبد المطلبْ
كالقول فيما وقع في القرآن من شبيه ذلك مما بيناه آنفاً .
وجملة { إن هو إلا ذِكرٌ وقُرءَانٌ مُبينٌ } استئناف بياني لأن نفي الشعر عن القرآن يثير سؤال متطلب يقول : فما هو هذا الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكان قوله : { إن هو إلا ذكر } جواباً لطلبته .
وضمير { هُوَ } للقرآن المفهوم من { عَلَّمْناهُ } ، أي ليس الذي عُلِّمه الرسول إلا ذكراً وقرآناً أو للشيء الذي علمناه ، أي للشيء المعلّم الذي تضمنه { علمناهُ } ، أو عائد إلى { ذِكْرٌ } في قوله : { إلاَّ ذِكْرٌ } الذي هو { مُبِينٌ } . وهذا من مواضع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة لأن البيان كالبدل . وتقدم نظيره في قوله تعالى : { إن هي إلا حياتنا الدنيا } في سورة [ المؤمنين : 37 ] .
وجيء بصيغة القصر المفيدة قصر الوحي على الاتصاف بالكون ذكراً وقرآناً قصر قلب ، أي ليس شعراً كما زعمتم . فحصل بذلك استقصاء الرد عليهم وتأكيدُ قوله : { ومَا عَلَّمْناهُ الشِّعر } من كون القرآن شعراً .
والذكر : مصدر وصف به الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وصفاً للمبالغة ، أي إن هو إلا مُذكّر للناس بما نسوه أو جهلوه . وقد تقدم الكلام على الذكر عند قوله تعالى : { وقالوا يأيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون } في سورة [ الحجر : 6 ] .
والقرآن : مصدر قرأ ، أطلق على اسم المفعول ، أي الكلام المقروء ، وتقدم بيانه عند قوله تعالى : { وما تتلو منه من قرآن } في سورة [ يونس 61 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَما عَلّمْناهُ الشّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ" يقول تعالى ذكره: وما علّمنا محمدا الشعر، وما ينبغي له أن يكون شاعرا...
وقوله: "إنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ "يقول تعالى ذكره: ما هو إلا ذكر، يعني بقوله: "إنْ هُوَ": أي محمد إلا ذكر لكم أيها الناس، ذكركم الله بإرساله إياه إليكم، وَنّبهكم به على حظكم "وَقُرآنٌ مُبِينٌ" يقول: وهذا الذي جاءكم به محمد قرآن مبين، يقول: يَبِين لمن تدبّره بعقل ولبّ، أنه تنزيل من الله أنزله إلى محمد، وأنه ليس بشعر ولا مع كاهن...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
نزل هذا، والله أعلم عند قولهم: إنه شاعر، وإنه كذاب. فأخبر عز وجل أنه لم يعلّمه الشعر تكذيبا لهم وردّا عليهم أنه شاعر وأن هذا القرآن شعر، جعل الله عجز رسوله عن القيام بإنشاد الشعر بعض آياته، من آيات رسالته كما جعل عجزه عن تلاوة الكتاب من قبل وكتابته وخطه بيمينه آية من آيات رسالته؛ ليُعلِم أولئك الذين قذفوه بالشعر والافتراء من نفسه، والكذب على الله وبالسحر؛ أنه إنما أخبر عن وحي من الله لا ما يقولون هم، وهم على يقين وعلم أنه ليس شاعرا، ولا ساحرا، ولا كذابا.
{إن هو إلا ذكر} {إلا ذكر} لما نسبوه من أمر الله ووعده ومما لهم ومما عليهم، يذكّرهم ما نسوه، وتركوه.
{وقرآن مبين} يبيّن لهم مالهم وما عليهم، أو يبيّن لهم ما يؤتى وما يتقى، أو يبين لهم أنه من الله جاء، ومن عنده نزل، لا من عند المخلوقين، أو ذكر لأهل الكتاب، يذكّرهم ما نسوه مما كان في كتبهم من بعثه وصفته، وما عليهم القيام به وكل كتب الله ذكر مبين ورحمة ونور وشفاء على ما أخبر، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كلامه صلى الله عليه وسلم كان خارجا عن أوزان الشعر، والذي أتاهم به من القرآن لم يكن من أنواع الشعر، ولا من طرق الخطباء، تحير القوم في بابه؛ ولم تكتحل بصائرهم بكحل التوحيد فعموا عن شهود الحقائق...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ولما نفى أن يكون القرآن من جنس الشعر قال: {إنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ} يعني: ما هو إلا ذكر من الله تعالى يوعظ به الإنس والجنّ، كما قال: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} [التكوير: 27] وما هو إلا قرآن كتاب سماوي، يقرأ في المحاريب، ويتلى في المتعبدات، وينال بتلاوته والعمل بما فيه فوز الدارين، فكم بينه وبين الشعر الذي هو من همزات الشياطين؟
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وهذه الآية تقتضي عندي غضاضة على الشعر ولا بد... وقد ذهب قوم إلى أن الشعر لا غض عليه، قالوا وإنما منعه الله من التحلي بهذه الحلية الرفيعة؛ ليجيء القرآن من قبله أغرب، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن إن هذا من تلك القوى.
وليس الأمر عندي كذلك، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم من الفصاحة والبيان في النثر في المرتبة العليا، ولكن كلام الله تعالى يبين بإعجازه ويبرز برصفه ويخرجه إحاطة علم الله من كل كلام، وإنما منعه الله تعالى من الشعر ترفيعاً له عما في قول الشعراء من التخييل، وتزويق القول، وأما القرآن فهو ذكر الحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعر، وهكذا كان أسلوب كلامه عليه السلام؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، والشعر نازل الرتبة عن هذا كله، والضمير في {علمناه} عائد على محمد صلى الله عليه وسلم قولاً واحداً، والضمير في {له} يحتمل أن يعود على محمد ويحتمل أن يعود على القرآن، وإن كان لم يذكر لدلالة المجاورة عليه، وبين ذلك قوله تعالى: {إن هو}.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: كَلَامُ الْعَرَبِ عَلَى أَوْضَاعٍ: مِنْهَا الْخُطَبُ، وَالسَّجْعُ، وَالْأَرَاجِيزُ، وَالْأَمْثَالُ، وَالْأَشْعَارُ «وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفْصَحَ بَنِي آدَمَ»، وَلَكِنَّهُ حُجِبَ عَنْهُ الشِّعْرُ؛ لَمَّا كَانَ اللَّهُ قَدْ ادَّخَرَ مَنْ جَعَلَ فَصَاحَةَ الْقُرْآنِ مُعْجِزَةً لَهُ، وَدَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ من أُسْلُوبِ الْبَلَاغَةِ وَعَجِيبِ الْفَصَاحَةِ الْخَارِجَةِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ اللُّسْنِ الْبُلَغَاءِ الْفُصْحِ الْمُتَشَدِّقِينَ اللُّدِّ، كَمَا سَلَبَ عَنْهُ الْكِتَابَةَ وَأَبْقَاهُ عَلَى حُكْمِ الْأُمِّيَّةِ، تَحْقِيقًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَتَأْكِيدًا؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}؛ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ الَّتِي بَيَّنَّا أَنَّ صِفَتَهَا من صِفَتِهِ، ثُمَّ هِيَ زِيَادَةٌ عُظْمَى عَلَى رُتْبَتِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ من أَوْضَاعِنَا فِي الْأُصُولِ وَجْهَ إعْجَازِ الْقُرْآنِ وَخُرُوجِهِ عَنْ أَنْوَاعِ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَخُصُوصًا عَنْ وَزْنِ الشِّعْرِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ أَخُو أَبِي ذَرٍّ لِأَبِي ذَرٍّ: لَقَدْ وَضَعْت قَوْلَهُ عَلَى أَقْوَالِ الشُّعَرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا، وَلَا دَخَلَ فِي بُحُورِ الْعَرُوضِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَلَا فِي زِيَادَاتِ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَيْهَا.
وَلَقَدْ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي أَنْ يُجْرُوا الْقُرْآنَ أَوْ شَيْئًا مِنْهُ عَلَى وَزْنٍ من هَذِهِ الْأَوْزَانِ فَلَمْ يَقْدِرُوا، فَظَهَرَ عِنْدَ الْوَلِيِّ وَالْعَدُوِّ أَنَّهُ لَيْسَ بِشِعْرٍ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ}. وَقَالَ: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ}.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} تَحْقِيقٌ فِي نَفْيِ ذَلِكَ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: وَقَدْ ادَّعَوْهُ فِي كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالُوا: إنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ فِي كَلَامِ الَّذِي نُفِيَتْ عَنْهُ مَعْرِفَةُ الشِّعْرِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ. أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ».
قُلْنَا: قَدْ قَالَ الْأَخْفَشُ: إنَّ هَذَا لَيْسَ بِشِعْرٍ، وَرَوَى ابْنُ الْمُظَفَّرِ عَنْ الْخَلِيلِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ: إنَّ مَا جَاءَ من السَّجْعِ عَلَى جُزْأَيْنِ لَا يَكُونُ شِعْرًا. وَرَوَى غَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ من مَنْهُوكِ الرَّجَزِ.
في الترتيب وجهان، قد ذكرنا أن الله في كل موضع ذكر أصلين من الأصول الثلاثة، وهي الوحدانية والرسالة والحشر، ذكر الأصل الثالث منها، وههنا ذكر الأصلين الوحدانية والحشر، أما الوحدانية ففي قوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يبنى آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [يس: 60] وفي قوله: {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} [يس: 61] وأما الحشر ففي قوله تعالى: {اصلوها اليوم} [يس: 64] وفي قوله: {اليوم نختم على أفواههم} [يس: 65] إلى غير ذلك، فلما ذكرهما وبينهما ذكر الأصل الثالث وهو الرسالة فقال: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرءان مبين} وقوله: {وما علمناه الشعر} إشارة إلى أنه معلم من عند الله فعلمه ما أراد ولم يعلمه ما لم يرد، وفي تفسير الآية مباحث:
البحث الأول: خص الشعر بنفي التعليم، مع أن الكفار كانوا ينسبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشياء من جملتها السحر، ولم يقل وما علمناه السحر وكذلك كانوا ينسبونه إلى الكهانة، ولم يقل وما علمناه الكهانة، فنقول: أما الكهانة فكانوا ينسبون النبي صلى الله عليه وسلم إليها عندما كان يخبر عن الغيوب ويكون كما يقول. وأما السحر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يفعل ما لا يقدر عليه الغير كشق القمر وتكلم الحصى والجذع وغير ذلك. وأما الشعر: فكانوا ينسبونه إليه عندما كان يتلوا القرآن عليهم لكنه صلى الله عليه وسلم ما كان يتحدى إلا بالقرآن، كما قال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23] إلى غير ذلك، ولم يقل إن كنتم في شك من رسالتي فأنطقوا الجذوع أو أشبعوا الخلق العظيم أو أخبروا بالغيوب، فلما كان تحديه صلى الله عليه وسلم بالكلام وكانوا ينسبونه إلى الشعر عند الكلام خص الشعر بنفي التعليم.
البحث الثاني: ما معنى قوله: {وما ينبغي له} قلنا: قال قوم ما كان يتأتى له، وآخرون ما يتسهل له حتى أنه إن تمثل بيت شعر سمع منه مزاحفا يروى أنه كان يقول صلى الله عليه وسلم: « ويأتيك من لم تزود بالأخبار». وفيه وجه أحسن من ذلك وهو أن يحمل ما ينبغي له على مفهومه الظاهر وهو أن الشعر ما كان يليق به ولا يصلح له، وذلك لأن الشعر يدعو إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ والوزن، فالشارع يكون اللفظ منه تبعا للمعنى، والشاعر: يكون المعنى منه تبعا للفظ، لأنه يقصد لفظا به يصح وزن الشعر أو قافيته فيحتاج إلى التحيل لمعنى يأتي به لأجل ذلك اللفظ، وعلى هذا نقول: الشعر هو الكلام الموزون الذي قصد إلى وزنه قصدا أوليا، وأما من يقصد المعنى فيصدر موزونا مقفى فلا يكون شاعرا، ألا ترى إلى قوله تعالى:
{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران: 92] ليس بشعر، والشاعر إذا صدر منه كلام فيه متحركات وساكنات بعدد ما في الآية تقطيعه بفاعلاتن فاعلاتن يكون شعرا لأنه قصد الإتيان بألفاظ حروفها متحركة وساكنة كذلك والمعنى تبعه، والحكيم قصد المعنى فجاء على تلك الألفاظ.
{إن هو إلا ذكر وقرءان مبين} يحقق ذلك المعنى أي هو ذكر وموعظة للقصد إلى المعنى، والشعر لفظ مزخرف بالقافية والوزن، وههنا لطيفة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الشعر لحكمة» يعني: قد يقصد الشاعر اللفظ، فيوافقه معنى حكمي، كما أن الحكيم قد يقصد معنى فيوافقه وزن شعري، لكن الحكيم بسبب ذلك الوزن لا يصير شاعرا، والشاعر بسبب ذلك الذكر يصير حكيما، حيث سمي النبي صلى الله عليه وسلم شعره حكمة، ونفى الله كون النبي شاعرا، وذلك لأن اللفظ قالب المعنى والمعنى: قلب اللفظ وروحه، فإذا وجد القلب لا نظر إلى القالب، فيكون الحكيم الموزون كلامه حكيما، ولا يخرجه عن الحكمة وزن كلامه، والشاعر الموعظ كلامه حكيما.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ينزه تعالى نبيه محمدا صلى اللّه عليه وسلم، عما رماه به المشركون، من أنه شاعر، وأن الذي جاء به شعر فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أن يكون شاعرا، أي: هذا من جنس المحال أن يكون شاعرا، لأنه رشيد مهتد، والشعراء غاوون، يتبعهم الغاوون {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي: ما هذا الذي جاء به إلا ذكر يتذكر به أولو الألباب، جميع المطالب الدينية، فهو مشتمل عليها أتم اشتمال، وهو يذكر العقول، ما ركز اللّه في فطرها من الأمر بكل حسن، والنهي عن كل قبيح.
{وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} أي: مبين لما يطلب بيانه. ولهذا حذف المعمول، ليدل على أنه مبين لجميع الحق، بأدلته التفصيلية والإجمالية، والباطل وأدلة بطلانه، أنزله اللّه كذلك على رسوله.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في هذا القطاع الأخير من السورة تستعرض كل القضايا التي تعالجها السورة.. قضية الوحي وطبيعته وقضية الألوهية والوحدانية. وقضية البعث والنشور.. تستعرض في مقاطع مفصلة. مصحوبة بمؤثرات قوية في إيقاعات عميقة. كلها تتجه إلى إبراز يد القدرة وهي تعمل كل شيء في هذا الكون وتمسك بمقاليد الأمور كلها. ويتمثل هذا المعنى مركزاً في النهاية في الآية التي تختم السورة: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).. فهذه اليد القوية المبتدعة خلقت الأنعام للبشر وذللتها لهم. وهي خلقت الإنسان من نطفة. وهي تحيي رميم العظام كما أنشأتها أول مرة. وهي جعلت من الشجر الأخضر ناراً. وهي أبدعت السماوات والأرض. وفي النهاية هي مالكة كل شيء في هذا الوجود.. وذلك قوام هذا المقطع الأخير..
(وما علمناه الشعر -وما ينبغي له- إن هو إلا ذكر وقرآن مبين. لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)..
وردت قضية الوحي في أول السورة: (يس والقرآن الحكيم. إنك لمن المرسلين. على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم. لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون...).. والآن تجيء في صورتها هذه للرد على ما كان يدعيه بعضهم من وصف النبي [صلى الله عليه وسلم] بأنه شاعر؛ ووصف القرآن الذي جاء به بأنه شعر. وما كان يخفى على كبراء قريش أن الأمر ليس كذلك. وأن ما جاءهم به محمد [صلى الله عليه وسلم] قول غير معهود في لغتهم. وما كانوا من الغفلة بحيث لا يفرقون بين القرآن والشعر. إنما كان هذا طرفاً من حرب الدعاية التي شنوها على الدين الجديد وصاحبه [صلى الله عليه وسلم] في أوساط الجماهير. معتمدين فيها على جمال النسق القرآني المؤثر، الذي قد يجعل الجماهير تخلط بينه وبين الشعر إذا وجهت هذا التوجيه.
وهنا ينفي الله -سبحانه- أنه علم الرسول الشعر. وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم. فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله..
ثم ينفي لياقة الشعر بالرسول [صلى الله عليه وسلم]: وما ينبغي له فللشعر منهج غير منهج النبوة. الشعر انفعال. وتعبير عن هذا الانفعال. والانفعال يتقلب من حال إلى حال. والنبوة وحي. على منهج ثابت. على صراط مستقيم. يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله. ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة، تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال.
والنبوة اتصال دائم بالله، وتلق مباشر عن وحي الله، ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله. بينما الشعر -في أعلى صوره- أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته. فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد، وفورة لحم ودم! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس. هذه -في أعلى صورها- أشواق تصعد من الأرض. وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء..
ذكر وقرآن.. وهما صفتان لشيء واحد. ذكر بحسب وظيفته. وقرآن بحسب تلاوته. فهو ذكر لله يشتغل به القلب، وهو قرآن يتلى ويشتغل به اللسان. وهو منزل ليؤدي وظيفة محددة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الآية ترجع إلى ما تضمنه قوله تعالى: {وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} [يس: 46] فقد بيّنا أن المراد بالآيات آيات القرآن، فإعراضهم عن القرآن له أحوالٌ شتى: بعضها بعدم الامتثال لما يأمرهم به من الخير مع الاستهزاء بالمسلمين وهو قوله تعالى: {وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} [يس: 47] الآية، وبعضها بالتكذيب لما يُنذِرهم به من الجزاء، وهو قوله: {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [يس: 48]. ومن إعراضهم عنه طعنُهم في آيات القرآن بأقوال شتّى منها قولهم: هو قول شاعر، فلما تصدّى القرآن لإِبطال تكذيبهم بوعيد بالجزاء يوم الحشر بما تعاقب من الكلام على ذلك عاد هنا إلى طعنهم في ألفاظ القرآن من قولهم: {بل افتراه بل هو شاعر} [الأنبياء: 5]، فقولهم {بل هو شاعر} يقتضي لا محالة أنهم يقولون: القرآن شعر.
فالجملة معطوفة على جملة {ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين} [الأنبياء: 38]، عطف القصة على القصة والغرضِ على الغرضِ. ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ويكون الواو للاستئناف، ولذلك اقتصر هنا على تنزيه القرآن عن أن يكون شعراً والنبي صلى الله عليه وسلم عن أن يكون شاعراً دون التعرض لتنزيهه عن أن يكون ساحراً، أو أن يكون مجنوناً لأن الغَرض الرد على إعراضهم عن القرآن، ألا ترى أنه لما قصد إبطال مقالات لهم في القرآن قال في الآية الأخرى: {وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون} [الحاقة: 41، 42].
وضمير {عَلَّمْناهُ} عائد إلى معلوم من مقام الردّ وليس عائداً إلى مذكور إذ لم يتقدم له معاد.
وانتصب {الشّعْرَ} على أن مفعول ثانٍ لفعل {عَلَّمْناهُ}، وهذا الفعل من أفعال العلم، ومُجرَّدُه يتعدّى إلى مفعول واحد غالباً نحو عَلِم المسألةَ. ويتعدّى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، فإذا دخله التضعيف صار متعدياً إلى مفعولين فقط اعتداداً بأن مجرده متعدّ إلى واحد كقوله تعالى: {وإذ علمتك الكتاب والحكمة} [المائدة: 110] في سورة العقود، وقوله: {وما علَّمناهُ الشعر} في هذه السورة يس وهذه تفرقة في الاستعمال موكولة إلى اختيار أهل اللسان نبّه عليه الرضيّ في « شرح الكافية» في باب تعدية أفعال القلوب إلى مفعولين بأن أصله متعدّ إلى واحد. فتقدير المعنى: نحن علمناه القرآن وما علمناه الشعر، فالقرآن موحىً إليه بتعليم من الله والذي أوحى به إليه ليس بشعر، وإذن فالمعنى: أن القرآن ليس من الشعر في شيء، فكانت هاته الجملة ردّاً على قولهم: هو شاعر على طريقة الكناية لأنها انتقال من اللازم إلى الملزوم.
ودل على أن هذا هو المقصود من قوله: {وما علمناهُ الشعر} قوله عقبه {إن هُوَ إلاَّ ذِكرٌ وقُرءانٌ مبين}، أي ليس الذي علمناه إياه إلا ذكراً وقرآناً وما هو بشعر.
والتعليم هنا بمعنى الوحي، أي وما أوحينا إليه الشعر فقد أطلق التعليم على الوحي في قوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى} [النجم: 4، 5] وقال: {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113].
وينبَني عن هذا الظن خبر أنيس بن جُنَادة الغفاري أخي أبي ذرّ، فقد روى البخاري عن ابن عباس، ومسلم عن عبد الله بن الصامت، يزيد أحدهما على الآخر قالا: « قال أبو ذر لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء واستمع من قوله ثم ائتني، فانطلقَ الأخ حتى قدم وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق وكلاماً ما هو بالشعر. قال أبو ذر: فما يقول الناس؟ قال: يقولون شاعر كاهن، ساحر. وكان أُنيس أحد الشعراء، قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون» ثم اقتص الخبر عن إسلام أبي ذر، ويظهر أن ذلك كان في أول البعثة.
ومثله خبر الوليد بن المغيرة الذي رواه البيهقي وابن إسحاق « أنه جمع قريشاً عند حضور الموسم ليتشاوروا في أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إن وفود العَرب ترد عليكم فأجمعوا فيه رأياً لا يُكذب بعضكم بعضاً، فقالوا: نقول كاهن؟ فقال: والله ما هو بكاهن، ما هو بزمزمته ولا بسجعه، قالوا: نقول مجنون؟ فقال: والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا وسوسته، فذكر ترددهم في وصفه إلى أن قالوا: نقول شاعر؟ قال: ما هو بشاعر، قد عرفت الشعر كله رجزَه وهزجَه وقريضه ومبسوطَه ومقبوضه وما هو بشاعر. إلى آخر القصة
فمعنى (وما علمناه الشعر): وما أوحينا إليه شعرا علمناه إياه
وليس المراد أن الله لم يجعل في طبع النبي القدرة على نظم الشعر؛ لأن تلك المقدرة لا تسمى تعليما حتى تنفى، وإنما يستفاد هذا المعنى من قوله بعده (وما ينبغي له) وسنتكلم عليه قريبا.
وقد اقتضت الآية نفي أن يكون القرآن شعرا وهذا الاقتضاء قد أثار مطاعن للملحدين ومشاكل للمخلصين وإذ وجدت فقرات قرآنية استكملت ميزان بحور من البحور الشعرية بعضها يلتئم منه بيت كامل وبعضها يتقوم منه مصراع واحد ولا تجد أكثر من ذلك فهذا يلزم منه وقوع الشعر. في آي القرآن.
وقد أثار الملاحدة هذا المطعن فلذلك تعرض أبو بكر الباقلاني إلى دحضه في كتابه إعجاز القرآن وتبعه السكاكي وأبو بكر بن العربي فأما الباقلاني فانفرد برد قال فيه: إن البيت المفرد لا يسمى شعرا بله المصراع الذي لا يكمل به بيت. وأرى هذا غير كاف هنا؛ لأنه لا يستطاع نفي مسمى الشعر عن المصراع وأولى عن البيت.
وقال السكاكي في آخر مبحث رد المطاعن عن القرآن من كتاب مفتاح العلوم « إنهم يقولون أنتم في دعواكم أن القرآن كلام الله وقد علمه محمدا صلى الله عليه وسلم على أحد أمرين: إما أن الله تعالى جاهل لا يعلم ما الشعر، وإما أن الدعوى باطلة وذلك أن في قرآنكم (وما علمناه الشعر) وأنه يستدعي أن لا يكون فيما علمه شعر»
ثم إن في القرآن من جميع البحور شعرا: فمن الطويل من صحيحه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
ومن مخرومه (منها خلقناكم وفيها نعيدكم).
ومن بحر المديد (واصنع الفلك بأعيننا).
ومن بحر الوافر (ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين).
ومن بحر الكامل: (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)...
فيقال لهم من قبل النظر فيما أوردوه: هل حرفوا بزيادة أو نقصان حركة أو حرفا أم لا. وقبل أن ننظر هل راعوا أحكام علم العروض في الأعاريض والضروب التي سبق ذكرها أم لا.
ومن قَبل أن ننظر هل عملوا بالمنصور من المذهبين في معنى الشعر على نحو ما سبق أم لا (يعني المذهبين مذهب الذين قالوا لا يكون الشعر شعراً إلا إذا قصد قائله أن يكون موزوناً، ومذهب الذين قالوا: إن تعمُّد الوزن ليس بواجب بل يكفي أن يلفى موزوناً ولو بدون قصد قائله للوزن وقد نصر المذهب الأول)
يا سبحان الله قدروا جميع ذلك أشعاراً، أليس يصح بحكم التغليب أن لا يلتفت إلى ما أوردتموه لقلته، ويُجرى ذلك القرآن مُجرى الخالي عن الشعر فيقال بناء على مقتضى البلاغة: {وما علمناه الشعر} اهـ. كلامه، وقد نحا به نحو أمرين:
أحدهما: أن ما وقع في القرآن من الكلام المتّزن ليس بمقصود منه الوزن، فلا يكون شعراً على رأي الأكثر من اشتراط القصد إلى الوزن لأن الله تعالى لم يعبأ باتزانه.
الثاني: إن سلمنا عدم اشتراط القصد فإن نفي كون القرآن شعراً جرى على الغالب. فلا يعدّ قائله كاذباً ولا جاهلاً فلا ينافي اليقين بأن القرآن من عند الله علمه محمداً صلى الله عليه وسلم
وبعد ذلك فإن الباقلاني والسكاكي لم يغوصَا على اقتلاع ما يثيره الجواب الثاني في كلامِهما بعدم القصد إلى الوزن، من لزوم خفاء ذلك على علم الله تعالى فلماذا لا تُجعل في موضع تلك الفقرات المتزنة فقرات سليمة من الاتّزان.
ولم أر لأحد من المفسرين والخائضين في وجوه إعجاز القرآن التصدي لاقتلاع هذه الشبهة، وقد مضت عليها من الزمان برهة، وكنت غير مقتنع بتلك الردود ولا أرضاها، وأراها غير بالغة من غاية خيل الحلبة منتهاها.
فالذي بدا لي أن نقول: إن القرآن نزل بأفصح لغات البشر التي تواضعوا واصطلحوا عليها ولو أن كلاماً كان أفصح من كلام العرب أو أمة كانت أسلم طباعاً من الأمة العربية لاختارها الله لظهور أفضل الشرائع وأشرف الرسل وأعز الكتب الشرعية.
ومعلوم أن القرآن جاء معجزاً لبلغاء العرب فكانت تراكيبه ومعانيها بالغَيْن حدًّا يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحةً وبلاغة؛ فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حقّ الفصاحة والبلاغة ألفاظاً وتركيباً ونظماً فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جارياً على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذَلك الكلام معدوداً من الشعر لوْ وقَعَ مثلُه في كلامٍ عن غير قصد فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله ولو تفطن له لم يعسر تغييره؛ لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال، اللهم إلاّ أن يكون قصد به تفنناً في الإِتيان بكلام ظاهره نثر وتفكيكه نظم.
فأما وقوعه في كلام الله تعالى فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه:
أحدها: أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره؛ لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال وبلغ حد الإِعجاز.
الثالث: أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحَى به من عنده على محسِّن الجمع بين النثر والنظم؛ لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر.
واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المتحدَّيْن به بلغاء العرب وجلُّهم شعراء وبلاغتهم مُودَعة في أشعارهم هي الجمع بين الإِعجاز وبين سدّ باب الشبهة التي تعرض لهم لو جاء القرآن على موازين الشعر، وهي شبهة الغلط أو المغالطة بعدِّهم النبي صلى الله عليه وسلم في زمرة الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب، وأن هذا الجائي به ليس بنبيء ولكنه شاعر، فكان القرآن معجزاً لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحوداً لذلك، ولكنه ليس من الصنف المسمّى بالشعر، بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية وَليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألفوها بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر.
ولقد ظهرت حكمة علاّم الغيوب في ذلك فإن المشركين لمّا سمعوا القرآن ابتدروا إلى الطعن في كونه منزّلاً من عند الله بقولهم في الرسول: هو شاعر، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة، وأُنيس بن جُنادة الغفاري وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية: {وما علمْناهُ الشعر وما ينبغي له إن هُوَ إلاَّ ذِكرٌ وقُرءَانٌ مبينٌ.
وبعد هذا فإن إقامة الشعر لا يَخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية، فإذا جاء القرآن شعراً قصَّر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقّه.
وسنذكر عند تفسير قوله تعالى: {وما ينبغي له} وجوهاً ينطبق معظمها على ما أشار إليه قوله تعالى هنا: {وما علمناهُ الشِّعر}. وقد قال ابن عطية: إن الضمير المجرور باللام في قوله: {وما ينبغي له} يجوز أن يعود على القرآن كما سيأتي.
وقوله: {وما ينبغي له} جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحَى به للنبيء صلى الله عليه وسلم شعراً بنفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعراً فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه أي فطر الله النبي صلى الله عليه وسلم على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر؛ لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذّبين دابر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاعراً وأن يكون قرآنه شعراً ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مسكة من تمييز للكلام، وكثير ما هم بين العرب رجالهم وكثير من نسائهم غير زوج عبد الله بن رواحة ونظيراتها، والواو اعتراضية.
وضمير {ينبغي} عائد إلى الشعر، وضمير {لَهُ} يجوز أن يكون عائداً إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {علمناه} وهو الظاهر.
وجوّز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل {عَلَّمْناهُ} فجعل جملة {وما ينبغي له} بمنزلة التعليل لِجملة {وما علمْناهُ الشِّعر}.
ومعنى {وما ينبغي له} ما يتأتّى له الشعر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولداً} [مريم: 92] تفصيل ذلك في سورة مريم. فأصل معنى {ينبغي} يستجيب للبغي، أي الطلب، وهو يُشعر بالطلب الملحّ. ثم غلب في معنى يتأتّى ويستقيم فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار {ينبغي} بمعنى يتأتّى يقال: لا ينبغي كذا، أي لا يتأتى. قال الطيبي: روي عن الزمخشري أنه قال في « كتاب سيبويه» « كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على الانفعال: كضرب وطلب وعَلِم، وما ليس فيه علاج: كعَدِم وفقَد لا يأتي في مطاوعه الانفعال البتة» اهـ.
ومعنى كون الشعر لا ينبغي له: أن قول الشعر لا ينبغي له لأن الشعر صنف من القول له موازين وقوافٍ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن قرض الشعر وتأليفه، أي ليست مِن طباع ملكته إقامة الموازين الشعرية، وليس المراد أنه لا ينشد الشعر لأن إنشاد الشعر غير تعلّمه، وكم من راوية للأشعار ومن نَقَّادٍ للشعر لا يستطيع قول الشعر وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم قد انتقد الشعر، ونبه على بعض مزايا فيه، وفضّل بعض الشعراء على بعض وهو مع ذلك لا يقرض شعراً.
وربما أنشد البيت فغفل عن ترتيب كلماته فربما اختلّ وزنه في إنشاده وذلك من تمام المنافرة بين ملكة بلاغته وملكة الشعراء، ألا ترى أنه لم يكن مطّرداً فربما أنشد البيت موزوناً.
هذا من جانب نظم الشعر وموازينه، وكذلك أيضاً جانب قوام الشعر ومعانيه فإن للشعر طرائق من الأغراض كالغزل والنسيب والهجاء والمديح والمُلَح، وطرائق من المعاني كالمبالغة البالغة حدّ الإِغراق وكادّعاء الشاعر أحوالاً لنفسه في غرام أو سير أو شجاعة هو خِلوٌ من حقائقها فهو كذب مغتفر في صناعة الشعر. وذلك لا يليق بأرفع مقام لكمالات النفس، وهو مقام أعظم الرسل صلوات الله عليه وعليهم فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرض الشعر ولم يأت في شعره بأفانين الشعراء لعدّ غضاضة في شعره وكانت تلك الغضاضة داعية للتناول من حُرمة كماله في أنفس قومه يستوي فيها العدوّ والصديق.
على أن الشعراء في ذلك الزمان كانت أحوالهم غير مرضية عند أهل المروءة والشرف لما فيهم من الخلاعة والإِقبال على السُكر والميسر والنساء ونحو ذلك. وحسبك ما هو معلوم من قضية خلع حُجر الكِندي ابنه امرأ القيس وقد قال تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون} [الشعراء: 224] الآية. فلو جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعر أو قاله لرمقه الناس بالعين التي لا يرمق بها قدره الجليل وشرفه النبيل، والمنظور إليه في هذا الشأن هو الغالب الشائع وإلا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم « إن من الشعر لحكمة» وقال: « أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد»:
فتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الشعر من قبيل حياطة معجزة القرآن وحياطة مقام الرسالة مثل تنزيهه عن معرفة الكتابة.
قال أبو بكر بن العربي: هذه الآية ليست من عيب الشعر كما لم يكن قوله تعالى: {وما كنت تتْلُو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} [العنكبوت: 48] من عيب الخط. فلما لم تكن الأمية من عيب الخط كذلك لا يكون نفي النظم عن النبي صلى الله عليه وسلم من عيب الشعر.
ومن أجل ما للشعر من الفائدة والتأثير في شيوع دعوة الإِسلام أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حساناً وعبد الله بن رواحة بقوله، وأظهر استحسانه لكعب بن زهير حين أنشده القصيدة المشهورة: بانت سعادُ.
والقول في ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من كلام موزون مثل قوله يوم أحد:
أنا النبيُ لا كَذِبْ *** أنا ابنُ عبد المطلبْ
كالقول فيما وقع في القرآن من شبيه ذلك مما بيناه آنفاً.
وجملة {إن هو إلا ذِكرٌ وقُرءَانٌ مُبينٌ} استئناف بياني لأن نفي الشعر عن القرآن يثير سؤال متطلب يقول: فما هو هذا الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم فكان قوله: {إن هو إلا ذكر} جواباً لطلبته.
وضمير {هُوَ} للقرآن المفهوم من {عَلَّمْناهُ}، أي ليس الذي عُلِّمه الرسول إلا ذكراً وقرآناً أو للشيء الذي علمناه، أي للشيء المعلّم الذي تضمنه {علمناهُ}، أو عائد إلى {ذِكْرٌ} في قوله: {إلاَّ ذِكْرٌ} الذي هو {مُبِينٌ}. وهذا من مواضع عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة لأن البيان كالبدل. وتقدم نظيره في قوله تعالى: {إن هي إلا حياتنا الدنيا} في سورة [المؤمنين: 37].
وجيء بصيغة القصر المفيدة قصر الوحي على الاتصاف بالكون ذكراً وقرآناً قصر قلب، أي ليس شعراً كما زعمتم. فحصل بذلك استقصاء الرد عليهم وتأكيدُ قوله: {ومَا عَلَّمْناهُ الشِّعر} من كون القرآن شعراً.
والذكر: مصدر وصف به الكتاب المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وصفاً للمبالغة، أي إن هو إلا مُذكّر للناس بما نسوه أو جهلوه. وقد تقدم الكلام على الذكر عند قوله تعالى: {وقالوا يأيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون} في سورة [الحجر: 6].
والقرآن: مصدر قرأ، أطلق على اسم المفعول، أي الكلام المقروء، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {وما تتلو منه من قرآن} في سورة [يونس 61].
والمبين: هو الذي أبان المراد بفصاحة وبلاغة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لماذا اتّهم الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الاتهام مع أنّه لم يقل الشعر أبداً؟
كان ذلك بسبب الجاذبية الخاصّة للقرآن الكريم ونفوذه في القلوب، الأمر الذي كان محسوساً للجميع، بالإضافة إلى عدم إمكانية إنكار جمال ألفاظه ومعانيه وفصاحته وبلاغته، وقد كانت جاذبية القرآن الكريم الخاصّة قد أثّرت حتّى في نفوس الكفّار الذين كانوا أحياناً يأتون إلى جوار منزل النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشكل خفي ليلا لكي يستمعوا إلى تلاوته للقرآن في عمق الليل.
وكم من الأشخاص الذين تولّعوا وعشقوا الإسلام لمجرّد سماعهم القرآن الكريم وأعلنوا إسلامهم في نفس المجلس الذي استمعوا فيه إلى بعض آياته.
وهنا حاول الكفّار من أجل تفسير هذه الظاهرة العظيمة، ولغرض استغفال الناس وصرف أنظارهم من كون ذلك الكلام وحياً إلهيّاً، فأشاعوا تهمة الشعر في كلّ مكان، والتي كانت بحدّ ذاتها تمثّل اعترافا ضمنياً بتميّز كلام القرآن الكريم.