قوله تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم } ، وهو نمرود بن كنعان ، بني الصرح ببابل ليصعد إلى السماء . قال ابن عباس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع . وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين ، فهبت ريح وألقت رأسه في البحر ، وخر عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصرح تبلبلت السن الناس من الفزع يومئذ فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، فذلك قولة تعالى :{ فأتى الله بنيانهم من القواعد } أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها ، { فخر عليهم السقف } يعني أعلى البيوت { من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } ، من مأمنهم .
{ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ْ } برسلهم واحتالوا بأنواع الحيل على رد ما جاءوهم به وبنوا من مكرهم قصورا هائلة ، { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ ْ } أي : جاءها الأمر من أساسها وقاعدتها ، { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ ْ } فصار ما بنوه عذابا عذبوا به ، { وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ْ } وذلك أنهم ظنوا أن هذا البنيان سينفعهم ويقيهم العذاب فصار عذابهم فيما بنوه وأصَّلوه .
وهذا من أحسن الأمثال في إبطال الله مكر أعدائه . فإنهم فكروا وقدروا فيما جاءت به الرسل لما كذبوهم وجعلوا لهم أصولا وقواعد من الباطل يرجعون إليها ، ويردون بها ما جاءت [ به ] الرسل ، واحتالوا أيضا على إيقاع المكروه والضرر بالرسل ومن تبعهم ، فصار مكرهم وبالا عليهم ، فصار تدبيرهم فيه تدميرهم ، وذلك لأن مكرهم سيئ { ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ْ } هذا في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى ، ولهذا قال : { ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ْ }
ثم سلى الله - تعالى - نبيه والمؤمنين ، فبين لهم أن هؤلاء المستكبرين الذين قالوا فى القرآن : إنه أساطير الأولين ، سيحيق بهم مكرهم السيئ ، كما حاق بالذين من قبهلم ، فقال - تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
وقوله - سبحانه - { مكر } من المكر ، وهو التدبير المحكم ، أو صرف الغير عما يريده بحيلته ، وهو مذموم إن تحرى به الماكر الشر والباطل ، ومحمود إن تحرى به الخير والحق .
والمراد بالذين من قبلهم : الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة ، كقوم نوح وهود وصالح .
وقوله : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ . . } أى : أهلكهم ، كما فى قوله - تعالى -
{ . . . فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ . . } ويقال : أتى فلان من مأمنه أى : نزل به الهلاك من جهة أمنه . وأتى عليه الدهر . أى : أهلكه وأفناه . ومنه الأتوّ . وهو الموت والبلاء .
يقال : أتى على فلان أُتوّ ، أى موت أو بلاء يصيبه .
والقواعد : جمع قاعدة . وهى أساس البناء ، وبها يكون ثباته واستقراره .
والمعنى : لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بما يقوله المستكبرون من قومك فى شأن القرآن الكريم لكى يصرفوا الناس عن الدخول فى الإِسلام ، فقد مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم ، فكانت عاقبة مكرهم أن أتى الله بنيانهم من القواعد ، بأن اجتث هذا البنيان من أصله ؛ واقتلعه من أساسه { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } أى : فسقط عليهم سقف بنيانهم فأهلكهم { وأتاهم العذاب } المبير المدمر { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } ولا يحتسبون بأنه سيأتيهم من هذه الجهة ، بل كانوا يتوقعون أن ما شيدوه سيحميهم من المهالك .
فالآية الكريمة تصور بأسلوب بديع معجز ، كيف أن هؤلاء الماكرين ، قد حصنوا أنفسهم بالبناء المحكم المتين ، ليتقوا ما يؤذيهم ، إلا أن جميع هذه التحصينات قد هوت وتساقطت على رءوسهم ، أمام قوة الله - تعالى - التى لا ترد ، فإذا بالبناء الذى بنوه ليحتموا به ، قد صار مقبرة لهم .
وصدق الله إذ يقول : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وقال - سبحانه - : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } مع أن السقف لا يكون إلا من فوق ، لتأكيد الكلام وتقويته .
وقال القرطبى : قال ابن الأعرابى : وكد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته ، والعرب تقول خر علينا سقف ، ووقع علينا حائط ، إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه . فجاء بقوله : { من فوقهم } ليخرج هذا الشك الذى فى كلام العرب ، فقال : { من فوقهم } أى : عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا . . .
هذا ومن المفسرين الذين رجحوا أن الآية مسوقة على سبيل التمثيل ، الفخر الرازى فقد قال : وفى قوله - سبحانه - { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } قولان :
والمعنى أنهم رتبوا حيلا ليمكروا بها على أنبياء الله ، فجعل الله - تعالى - حالهم فى تلك الحيل ، مثل حال قوم بنوا بنيانا وعموده بالأساطين ، فانهدم ذلك البناء ، وضعفت تلك الأساطين ، فسقط السقف عليهم ، ونظيره قولهم : من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه .
- ووجه الشبه أن ما عدوه سبب بقائهم ، صار سبب استئصالهم وفنائهم .
الثانى : أن المراد منه مادل عليه الظاهر ، وهو أن الله - تعالى - أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته .
ومن المفسرين الذين رجحوا أن الكلام على حقيقته ، الإِمام ابن جرير فقد قال - بعد أن سرد بعض الأقوال - : وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك ، تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى على أصولها وقواعدها أمر الله ، فانكفأت بهم منازلهم ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف .
وتوجيه معانى كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وجد إليه سبيل .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله - أولى بالقبول ، لأنه مادام اللفظ صالحا للحمل على الحقيقة ، فلا داعى لصرفه عن ذلك .
وقد حكى لنا القرآن الكريم صنوفا من العذاب الذى أنزله الله - تعالى - بالظالمين ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُمْ مّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله من أراد اتباع دين الله ، فراموا مغالبة الله ببناءٍ بَنَوه ، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها . وكان الذي رام ذلك فيما ذُكر لنا جبار من جبابرة النّبَط فقال بعضهم : هو نمرو بن كنعان ، وقال بعضهم : هو بختنصر ، وقد ذكرت بعض أخبارهما في سورة إبراهيم . وقيل : إن الذي ذُكر في هذا الموضع هو الذي ذكره الله في سورة إبراهيم . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : أمر الذين حاجّ إبراهيم في ربه بإبراهيم فأُخُرِجَ ، يعني من مدينته ، قال : فلقي لوطا على باب المدينة وهو ابن أخيه ، فدعاه فآمن به ، وقال : إني مهاجر إلى ربي . وحلف نمرود أن يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أربعة أفراخ من فِراخ النسور ، فرباهنّ باللحم والخبز حتى كبرن وغلظن واستعجلن ، فربطهنّ في تابوت ، وقعد في ذلك التابوت ثم رفع لهنّ رِجلاً من لحم ، فطرن ، حتى إذا ذهبن في السماء أشرف ينظر إلى الأرض ، فرأى الجبال تدبّ كدبيب النمل . ثم رفع لهنّ اللحم ، ثم نظر فرأى الأرض محيطا بها بحر كأنها فلكة في ماء . ثم رفع طويلاً فوقع في ظلمة ، فلم ير ما فوقه وما تحته ، ففزع ، فألقى اللحم ، فاتّبعته منقضّات . فلما نظرت الجبال إليهنّ ، وقد أقبلن منقضات وسمعت حفيفهنّ ، فزعت الجبال ، وكادت أن تزول من أمكنتها ولم يفعلن وذلك قول الله تعالى : وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجِبالُ ، وهي في قراءة ابن مسعود : «وَإنْ كادَ مَكْرُهُمْ » . فكان طَيْرُورتهن به من بيت المقدس ووقوعهن به في جبل الدخان . فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح ، فبنى حتى إذا شيده إلى السماء ارتقى فوقه ينظر ، يزعم إلى إله إبراهيم ، فأحدث ، ولم يكن يُحدث وأخذ الله بنيانه من القواعد فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وأتاهُمْ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقول : من مأمنهم ، وأخذهم من أساس الصرح ، فتنقّض بهم فسقط . فتبلبلت ألسن الناس يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، فلذلك سميت بابل . وإنما كان لسان الناس من قبل ذلك بالسريانية .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَقَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأتَى اللّهُ بُنيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ قال : هو نمرود حين بنى الصرح .
حدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا قال : عبد الرزاق ، عن معمر ، عن زيد بن أسلم : إن أوّل جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربع مئة سنة يُضرب رأسُه بالمطارق ، أرحم الناس به من جمع يديه ، فضرب رأسه بهما ، وكان جبارا أربع مئة سنة ، فعذّبه الله أربع مئة سنة كمُلكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صَرْحا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : فَأَتى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ .
وأما قوله : فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ فإن معناه : هدم الله بنيانهم من أصله . والقواعد : جمع قاعدة ، وهي الأساس . وكان بعضهم يقول : هذا مثل للاستئصال وإنما معناه : إن الله استأصلهم . وقال : العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء .
وقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : فخرّ عليهم السقف من فوقهم أعالي بيوتهم من فوقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ مَكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ إي والله ، لأتاها أمر الله من أصلها فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ والسقف : أعالي البيوت ، فائتفكت بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمرهم ، وأتاهُمُ العَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ قال : أتى الله بنيانهم من أصوله ، فخرّ عليهم السقف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا أبو حُذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ قال : مكر نمرود بن كنعان الذي حاجّ إبراهيم في ربه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : عنى بقوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ أن العذاب أتاهم من السماء . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ يقول : عذاب من السماء لَما رأوه استسلموا وذلوا .
وأولى القولين بتأويل الاَية ، قول من قال : معنى ذلك : تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله ، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف ، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل . وأتاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ يقول تعالى ذكره : وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش ، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه .
{ قد مكر الذين من قبلهم } أي سووا منصوبات ليمكروا بها رسل الله عليهم الصلاة والسلام . { فأتى الله بنيانهم من القواعد } فأتاها أمره من جهة العمد التي بنوا عليها بأن ضعضعت . { فخرّ عليهم السقف من فوقهم } وصار سبب هلاكهم . { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل . وقيل المراد به نمرود بن كنعان بنى الصرح ببابل سمكه خمسة آلاف ذراع ليترصد أمر السماء ، فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا .
لمّا ذكر عاقبة إضلالهم وصدّهم السائلين عن القرآن والإسلام في الآخرة أتبع بالتهديد بأن يقع لهم ما وقع فيه أمثالهم في الدّنيا من الخزي والعذاب مع التأييس من أن يبلغوا بصنعهم ذلك مبلغ مرادهم ، وأنهم خائبون في صنعهم كما خاب من قبلهم الذين مكَروا برسلهم .
ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو { أساطير الأولين } [ سورة النحل : 24 ] مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم ، سمّي ذلك مكراً بالمؤمنين ، إذ المكر إلحاق الضرّ بالغير في صورة تمويهه بالنّصح والنّفع ، فنُظّر فعلهم بمكر من قبلهم ، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم مثل قوم هود ، وقوم صالح ، وقوم لوط ، وقوم فرعون ، قال تعالى في قوم صالح : { ومكروا مكراً ومكرنا مكراً } [ سورة النحل : 50 ] الآية ، وقال : { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون } [ سورة الأنعام : 123 ] .
فالتعريف بالموصول في قوله تعالى : { الذين من قبلهم } مساوٍ للتعريف بلام الجنس .
ومعنى « أتى الله بنيانهم » استعارة بتشبيه القاصد للانتقام بالجائي نحو المنتقم منه ، ومنه قوله تعالى : { فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا } [ سورة الحشر : 2 ] .
وقوله تعالى : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } تمثيل لحالات استئصال الأمم ، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول . أي المبنى ، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر .
وإطلاق البناء على مثل هذا وارد في فصيح الكلام . قال عبدة بن الطبيب :
فما كان قيس هُلْكُه هُلْكَ واحد *** ولكنّه بنيان قوم تهدّما
وقالت سعدة أمّ الكميت بن معروف :
بنى لك معروفٌ بناءً هدمته *** وللشرف العاديّ بانٍ وهادم
و { من القواعد } متعلق ب « أتى » . { ومِن } ابتدائيّة ، ومجرورها هو مبْدأ الإتيان الذي هو بمعنى الاستئصال ، فهو في معنى هدمه .
و { القواعد } : الأسس والأساطين التي تجعل عَمداً للبناء يقام عليها السقف . وهو تخييل أو ترشيح ، إذ ليس في الكلام شيء يشبّه بالقواعد .
والخرور : السقوط والهويّ ، ففعل خرّ مستعار لِزوال ما به المنعة نظير قوله تعالى : { يخرّبون بيوتهم بأيديهم } [ سورة الحشر : 2 ] .
{ والسّقْف } : حقيقته غطاء الفراغ الذي بين جدران البيت ، يجعل على الجدران ويكون من حَجر ومن أعواد ، وهو هنا مستعار لما استعير له البناء .
و { من فوقهم } تأكيد لجملة { فسخرّ عليهم السّقف } .
ومن مجموع هذه الاستعارات تتركّب الاستعارة التمثيليّة . وهي تشبيه هيئة القوم الّذين مكروا في المنعة فأخذهم الله بسرعة وأزال تلك العزّة بهيئة قوم أقاموا بنياناً عظيماً ذا دعائم وآووا إليه فاستأصله الله من قواعده فخرّ سقف البناء دفعة على أصحابه فهلكوا جميعاً . فهذا من أبدع التمثيليّة لأنها تنحلّ إلى عدّة استعارات .
وجملة { وأتاهم العذاب } عطف على جملة { فأتى الله بنيانهم من القواعد } . وأل في { العذاب } للعهد فهي مفيدة مضمون قوله { من فوقهم } مع زيادة قوله تعالى : { من حيث لا يشعرون } . فباعتبار هذه الزيادة وردت معطوفة لحصول المغايرة وإلا فإن شأن الموكدة أن لا تعطف . والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فَجْأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجاً فإنّ النّفس تتلقّاه بصبر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قد مكر الذين من قبل هؤلاء المشركين الذين يصدّون عن سبيل الله من أراد اتباع دين الله، فراموا مغالبة الله ببناءٍ بَنَوه، يريدون بزعمهم الارتفاع إلى السماء لحرب من فيها...
"فأَتَى اللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ" فإن معناه: هدم الله بنيانهم من أصله. والقواعد: جمع قاعدة، وهي الأساس. وكان بعضهم يقول: هذا مثل للاستئصال وإنما معناه: إن الله استأصلهم. وقال: العرب تقول ذلك إذا استؤصل الشيء.
"فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" اختلف أهل التأويل في معنى ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: "فخرّ عليهم السقف من فوقهم": أعالي بيوتهم من فوقهم...
وقال آخرون: عنى بقوله: "فَخَرّ عَلَيْهِمُ السّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ" أن العذاب أتاهم من السماء...
وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: تساقطت عليهم سقوف بيوتهم، إذ أتى أصولها وقواعدها أمر الله، فائتفكت بهم منازلهم لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف، وتوجيه معاني كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وُجِد إليه سبيل.
"وأتاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ" يقول تعالى ذكره: وأتى هؤلاء الذين مكروا من قَبْل مشركي قريش، عذاب الله من حيث لا يدرون أنه أتاهم منه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{قد مكر الذين من قبلهم} (كانت ولم تزل) عادة الكفر بالمكر برسل الله والكيد لهم، وكذلك مكر كفار مكة برسول الله. يذكر هذا، والله أعلم لرسوله ليصبر على أذاهم كما صبر أولئك على مكر قومهم وترك مكافأتهم إياهم كقوله: {فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل} (الأحقاف: 35) ثم مكرهم الذي كان يخرج على وجهين: أحدهما: في ما جاءت به الرسل كانوا يتكلفون تلبيس ما جاءت به الرسل على قومهم. والثاني: يرجع مكرهم إلى أنفس الرسل من الهم بقتلهم وإخراجهم من بين أظهرهم ونحوه. فخوف بذلك أهل مكة بصنيعهم لرسول الله أن ينزل بهم كما نزل بأولئك الذين مكروا برسلهم لئلا يعاملوه بمثل معاملة أولئك رسلهم، والله أعلم. وقوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} قال الحسن: هذا على التمثيل بالبناء الذي بني على غير أساس؛ ينهدم، ولا يعلم من أي سبب انهدم. فعلى ذلك مكرهم يبطل، ويتلاشى كالبناء الذي بني على غير أساس؛ ويشبه أن يكون على التمثيل من غير هذا الوجه؛ هو أنهم قد مكروا، وأحكموا مكرهم بهم، فيتحصنون بذلك البناء الذي يتحصن به، فأبطل الله مكرهم، كقوله: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا} الآية (النمل: 50) وقوله: {ومكروا ومكر الله} الآية.
وقوله تعالى: {فخر عليهم السقف من فوقهم} هو ما ذكرنا من إبطال مكرهم الذي به كانوا يتحصنون كوقوع السقف الذي به يتحصن من أنواع الأذى والشرور. ويحتمل على التحقيق، وهو ما نزل بقوم لوط من الخسف وتقليب البنيان وإمطار الحجر عليهم. وأما ما ذكر بعض أهل التأويل من الصرح الذي بنى نمرود وبنيانه ووقوعه عليهم فإنا لا نعلم ذلك.
وقوله تعالى: {وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون} كذلك يأتي العذاب الظلمة الكَذبة من حيث لا علم لهم بذلك كقوله: {فأخذتهم بغتة} الآية (الأعراف: 95 {فأتى الله بنيانهم من القواعد} هو من الإتيان. ومعلوم أنه لا يفهم من إتيانه الانتقال من مكان إلى مكان، ولكن إتيان عذابه؛ أضيف إليه الإتيان لما بأمره يأتيهم ومنه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
اتصفوا بالمكر فحاق بهم مَكْرُهم، ووقعوا فيم حفروه لغيرهم، واغتروا بطول الإمهال، فأخذهم العذابُ من مأْمَنِهم، واشتغلوا بِلهوهِم فَنَغَّصَ عليهم أطيب عَيْشهم: قوله جلّ ذكره: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِنَ القَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}. الذي وصف نفسه به في كتابه من الإتيان فمنعاه العقوبة، وذلك على عادة العرب في التوسع في الخطاب. وهو سبحانه يكشف الليلَ ببَدْره ثم يأخذ الماكر بما يليق بمَكْره...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
القواعد: أساطين البناء التي تعمده. وقيل: الأساس وهذا تمثيل، يعني: أنهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فأتى البنيان من الأساطين بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف وهلكوا. ونحوه: من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{الذين من قبلهم} جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"فأتى الله بنيانهم من القواعد "المعنى: أحبط الله أعمالهم فكانوا بمنزلة من سقط بنيانه."
"وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون "أي: من حيث ظنوا أنهم في أمان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان المراد من هذا الاستكبار محو الحق وإخفاء أمره من غير تصريح بالعناد -بل مع إقامة شبه ربما راجت- وإن اشتد ضعفها -على عقول هي أضعف منها، وكأن هذا حقيقة المكر التي هي التغطية والستر كما بين في الرعد عند قوله تعالى: (بل زين للذين كفروا مكرهم} [الرعد: 23] شرع يهدد الماكرين ويحذرهم وقوع ما وقع بمن كانوا أكثر منهم عدداً وأقوى يداً، ويرجي المؤمنين في نصرهم عليهم، بما له من عظيم القوة وشديد السطوة، فقال تعالى: {قد مكر الذين} ولما كان المقصود بالإخبار ناساً مخصوصين لم يستغرقوا زمان القبل، أدخل الجار فقال تعالى: {من قبلهم} ممن رأوا آثارهم ودخلوا ديارهم {فأتى الله} أي بما له من مجامع العظمة {بنيانهم} أي إتيان بأس وانتقام {من القواعد} التي بنوا عليها مكرهم {فخر} أي سقط مع صوت عظيم لهدته {عليهم السقف}.
ولما كان المكر هو الضر في خفية، لأنه القتل بالحيلة إلى جهة منكرة، بين أن ما حصل لهم من العذاب هو من باب ما فعلوا بقوله: {وأتاهم العذاب} أي الذي اتفقت كلمة الرسل على الوعيد به لمن أبى {من حيث لا يشعرون} لأن السبب الذي أعدوه لنصرهم كان بعينه سبب قهرهم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} أي سقط عليهم سقفُ بنيانهم إذ لا يتصور له القيامُ بعد تهدّم القواعدِ...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ومعنى المكر هنا الكيد والتدبير الذي لا يطابق الحق..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة، ويديرها أمثال قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان، لأن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان. فهؤلاء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر، وليسوا أول من يمكر. والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم، ومصيرهم يوم القيامة، بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم. يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة...
(قد مكر الذين من قبلهم) والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف إشارة إلى دقته وإحكامه ومتانته وضخامته. ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله وتدبيره: (فأتى الله بنيانهم من القواعد، فخر عليهم السقف من فوقهم) وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل، يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم.
(وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) فإذا البناء الذي بنوه وأحكموا واعتمدوا على الاحتماء فيه. إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم. وهو الذي اتخذوه للحماية ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته! إنه مشهد كامل للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين، الذين يقفون لدعوة الله، ويحسبون مكرهم لا يرد، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط! وهو مشهد مكرر في الزمان قبل قريش وبعدها. ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون، ومهما يدبر المدبرون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كان جوابهم السائلين عن القرآن بقولهم هو {أساطير الأولين} [سورة النحل: 24] مظهرينه بمظهر النصيحة والإرشاد وهم يريدون الاستبقاء على كفرهم، سمّي ذلك مكراً بالمؤمنين، إذ المكر إلحاق الضرّ بالغير في صورة تمويهه بالنّصح والنّفع، فنُظّر فعلهم بمكر من قبلهم، أي من الأمم السابقة الذين مكروا بغيرهم... {وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} [سورة الأنعام: 123]. فالتعريف بالموصول في قوله تعالى: {الذين من قبلهم} مساوٍ للتعريف بلام الجنس. وقوله تعالى: {فأتى الله بنيانهم من القواعد} تمثيل لحالات استئصال الأمم، فالبنيان مصدر بمعنى المفعول. أي المبنى، وهو هنا مستعار للقوّة والعزّة والمنعة وعلوّ القدر.
والمعنى أن العذاب المذكور حلّ بهم بغتة وهم لا يشعرون فإن الأخذ فَجْأ أشدّ نكاية لما يصحبه من الرّعب الشديد بخلاف الشيء الوارد تدريجاً فإنّ النّفس تتلقّاه بصبر.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فحاولوا أن يدبّروا المكائد، ويخطّطوا لتهديم أسس العقيدة التوحيدية، في فكر الإنسان وحياته. ولكن الله عطل كل مؤامراتهم من حيث لا يشعرون {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ} فهدّم كل ركائزهم الفكرية، من الكفر والشرك والضلال، في الفكرة والمنهج والأسلوب، وذلك من خلال قوّة الركائز التي انطلق منها الإيمان والتوحيد والرشاد. {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ} لأنّ أيّ سقف، مهما كانت قوّته، لا يمكن أن يحمي صاحبه، إذا ارتكز على قاعدةٍ منهارةٍ، لأنه لا يحمي نفسه. ويريد الله بذلك أن ينبه أية جماعة تتطلع إلى الامتداد الواسع عبر فكرة معينة أو محور معين، أن كل ما تحققه سوف ينهار ويسقط إذا سقطت القاعدة التي يرتكز عليها. {وَأَتاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} فهو العذاب الذي يتنوّع في طبيعته وفي شكله، حسب مقتضيات الحكمة الإلهية في ما ينزله على الكافرين من صنوف البلاء الذي يتحوّل إلى حالةٍ من العذاب، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تُذكر الآية الأُخرى أن تهمة وصف الوحي الإِلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد: (قد مكر الذين من قبلهم فأتى اللّه بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون). مع أنّ بعض المفسّرين قد ذهب بالآية إلى قصة «النمرود» وصرحه الذي أراد من خلاله محاربة رب السماء! والبعض الآخر فسرها بقصة «بخت نصر».. إِلاّ أن الظاهر من مفهوم الآية شمول جميع مؤامرات ودسائس المستكبرين وأئمّة الضلال.
وقدم لنا التاريخ قديمه وحديثه بوضوح صوراً شتى للعقاب الإِلهي، فإِحكام الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع، إِضافة لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال، وما قاموا به من تهيئة وإِعداد كل مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم.. كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إِلاّ عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والاقتدار والدوام، حيث تحكي لنا قصص التاريخ أنّ هؤلاء يأتيهم العذاب الإِلهي وهم بذروة ما يتمتعون به، وإِذا بالقلاع والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.