ثم أمر بالمسابقة إلى مغفرة الله ورضوانه وجنته ، وذلك يكون بالسعي بأسباب المغفرة ، من التوبة النصوح ، والاستغفار النافع ، والبعد عن الذنوب ومظانها ، والمسابقة إلى رضوان الله بالعمل الصالح ، والحرص على ما يرضي الله على الدوام ، من الإحسان في عبادة الخالق ، والإحسان إلى الخلق بجميع وجوه النفع ، ولهذا ذكر الله الأعمال الموجبة لذلك ، فقال : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } والإيمان بالله ورسله{[993]} يدخل فيه أصول الدين وفروعها ، { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : هذا الذي بيناه لكم ، وذكرنا لكم فيه الطرق الموصلة إلى الجنة ، والطرق الموصلة إلى النار ، وأن فضل الله بالثواب الجزيل والأجر العظيم{[994]} من أعظم منته على عباده وفضله . { وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } الذي لا يحصي ثناء عليه ، بل هو كما أثنى على نفسه ، وفوق ما يثني عليه عباده{[995]} .
ثم أمرهم - سبحانه - بالمسارعة إلى ما يسعدهم ، بعد أن بين لهم حال الحياة الدنيا فقال : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض
وقوله - تعالى - { سابقوا } ابتدائية ، والجار والمجرور صفة المغفرة .
أى : سارعوا - أيها المؤمنون - مسارعة السابقين لغيرهم ، إلى مغفرة عظيمة كائنة من ربكم .
فالتعبير بقوله : { سابقوا } لإلهاب الحماس وحض النفوس إلى الاستجابة لما أمروا به ، حتى لكأنهم فى حالة مسابقة يحرص كل قرين فيها إلى أن يسبق قرينه .
وقوله : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض . . . } معطوف على المغفرة . أى : سابقوا غيركم - أيها المؤمنون - إلى مغفرة عظيمة من ربكم ، وإلى جنة كريمة ؛ هذه الجنة عرضها وسعتها ورحابتها .
وهذه الجنة قد { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } إيمانا حقا ، جعلهم لا يقصلرون فى أداء واجب من الواجبات التى كلفهم - سبحانه - بها .
قال الإمام الفخر الرازى ما ملخصه : فى كون الجنة عرضها كعرض السماء والأرض وجوه : منها : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا . . . . لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية فى السعة لا يعلمها إلا الله - تعالى - .
ومنها : أن المقصود المبالغة فى الوصف بالسعة للجنة ، وذلك لأنه لا شىء عندنا أعرض منهما .
وخص - سبحانه - العرض بالذكر ، ليكون أبلغ فى الدلالة على عظمها ، واتساع طولها ، لأنه إذا كان عرضها كهذا ، فإن العقل يذهب كل مذهب فى تصور طولها ، فقد جرت العادة أن يكون الطول أكبر من العرض .
قال الإمام ابن كثير : وقد روينا فى مسند الإمام أحمد " أن هرقل - ملك الروم - كتب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنك دعوتنى إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار " " .
وإسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } يعود إلى الذى وعد الله - تعالى - به عباده المؤمنين من المغفرة والجنة .
أى : ذلك العطاء الجزيل فضل الله - تعالى - وحده وهو صاحب الفضل العظيم لا يعلم مقداره إلا هو - عز وجل - .
فأنت ترى أن الله - تعالى - بعد أن بين حال الحياة الدنيا . دعا المؤمنين إلى المسابقة إلى العمل الصالح ، الذى يوصلهم إلى ما هو أكرم وأبقى . . . وهو الجنة .
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم . . } ثم
القول في تأويل قوله تعالى : { سَابِقُوَاْ إِلَىَ مَغْفِرَةٍ مّن رّبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّمَآءِ وَالأرْضِ أُعِدّتْ لِلّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
يقول تعالى ذكره : سابِقُوا أيها الناس إلى عمل يوجب لكم مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السّماءِ والأرْضِ أُعِدّتْ هذه الجنة لِلّذِينَ آمَنُوا باللّهِ وَرُسُلِهِ يعني الذين وحّدوا الله ، وصدّقوا رسله .
وقوله : ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يقول جلّ ثناؤه : هذه الجنة التي عرضها كعرض السماء والأرض التي أعدّها الله للذين آمنوا بالله ورسله ، فضل الله تفضل به على المؤمنين ، والله يؤتي فضله من يشاء من خلقه ، وهو ذو الفضل العظيم عليهم ، بما بسط لهم من الرزق في الدنيا ، ووهب لهم من النّعم ، وعرّفهم موضع الشكر ، ثم جزاهم في الاَخرة على الطاعة ما وصف أنه أعدّه لهم .
سابقوا سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار إلى مغفرة من ربكم إلى موجباتها وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أي عرضها كعرضهما وإن كان العرض كذلك فما ظنك بالطول وقيل المراد به البسطة كقوله فذو دعاء عريض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب والله ذو الفضل العظيم منه التفضل بذلك وإن عظم قدره .
فذلكة لما تقدم من قوله تعالى : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم } [ الحديد : 12 ] إلى هنا فذلك مسوق مساق الترغيب فيما به تحصيل نعيم الآخرة والتحذير من فواته وما يصرف عنه من إيثار زينة الدنيا ، ولذلك فُصلت الجملة ولم تُعطف ، واقتُصر في الفذلكة على الجانب المقصود ترغيبه دون التعرض إلى المحذر منه لأنه المقصود .
وعبر عن العناية والاهتمام بفعل السابقة لإِلهاب النفوس بصرف العناية بأقصى ما يمكن من الفضائل كفعل من يسابق غيره إلى غاية فهو يحرص على أن يكون المجلِّي ، ولأن المسابقة كناية عن المنافسة ، أي واتركوا المقتصرين على متاع الحياة الدنيا في الآخريات والخوالف .
وتنكير { مغفرة } لقصد تعظيمها ولتكون الجملة مستقلة بنفسها ، وإلا فإن المغفرة سبق ذكرها في قوله : { ومغفرة من الله } ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : سابقوا إلى المغفرة ، أي أكثروا من أسبابها ووسائلها : فالمسابقة إلى المغفرة هي المسابقة في تحصيل أسبابها .
والعَرْض : مستعمل في السعة وليس مقابل الطُور لظهور أنه لا طائل في معنى ما يقابل الطول ، وهذا كقوله تعالى : { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } [ فصلت : 51 ] ، وقول العُديل لما فَرَّ من وعيد الحجاج :
ودون يد الحجاج من أن تنالني *** بساط بأيدي الناعجات عَريض
وتشبيه عَرْض الجنة بعَرْض السماء والأرض ، أي مجموع عرضيهما لقصد تقريب المشبه بأقصى ما يتصوره الناس في الاتساع ، وليس المراد تحديد ذلك العرض ولا أن الجنة في السماء حتى يقال : فماذا بقي لمكان جهنم .
وهذا الأمر شامل لجميع المسابقات إلى أفعال البر الموجبة للمغفرة ونعيم الجنة ، وشامل للمسابقة الحقيقية مع المجازية على طريقة استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهي طريقة شائعة في القرآن إكثاراً للمعاني ، ومنه الحديث : « لو يعلم الناس ما في الصف الأول لاستبقوا إليه أو استهموا إليه »
وليس في الآية دليل على أن الجنة غير مخلوقة الآن إذ وجه الشبه في قوله : { كعرض السماء والأرض } هو السعة لا المقدار ولا على أن الجنة في السماء الموجودة اليوم ولا عدمه ، وتقدم من معنى هذه الآية قوله : { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } الآية في سورة [ آل عمران : 133 ] .
وظاهر قوله : أعدت } أن الله خلقها وأعدّها لأن ظاهر استعماله الفعل في الزمان الماضي إن حصل مصدره فيه ، فقد تمسك بهذا الظاهر الذين قالوا : إن الجنة مخلوقة الآن ، وأما الذين نفوا ذلك فاستندوا إلى ظواهر أخرى وتقدم ذلك في سورة آل عمران .
وعُلم من قوله : { أعدت للذين آمنوا بالله ورسله } أن غيرهم لاحظَ لهم في الجنة لأن معنى اعداد شيء لشيء قصره عليه .
وجَمْع الرسل هنا يشمل كل أمة آمنوا بالله وبرسولهم الذي أرسله الله إليهم ، وليس يلزمها أن تؤمن برسول أرسل إلى أمة أخرى ولم يَدْع غيرها إلى الإِيمان به .
والإِشارة في { ذلك فضل الله } إلى المذكور من المغفرة والجنة .