{ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ } أي : خافه على وجه المعرفة بربه ، والرجاء لرحمته ولازم على خشية الله في حال غيبه أي : مغيبه عن أعين الناس ، وهذه هي الخشية الحقيقية ، وأما خشيته في حال نظر الناس وحضورهم ، فقد تكون رياء وسمعة ، فلا تدل على الخشية ، وإنما الخشية النافعة ، خشية الله في الغيب والشهادة ويحتمل أن المراد بخشية الله بالغيب كالمراد بالإيمان بالغيب وأن هذا مقابل للشهادة حيث يكون الإيمان والخشية ضروريًا لا اختياريًا حيث يعاين العذاب وتأتي آيات الله وهذا هو الظاهر{[836]}
{ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } أي : وصفه الإنابة إلى مولاه ، وانجذاب دواعيه إلى مراضيه .
{ مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب . . } أى : من خاف مقام ربه دون أن يراه أو يطلع عليه ، والجملة بدل أو عطف بيان من قوله : { لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } وقوله : { بالغيب } متعلق بمحذوف حال من الرحمن ، أى : خَشِيَه وهو غائب عنه لا يراه ولا يشاهده .
{ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أى : وجاء ربه يوم القيامة بقلب راجع إليه ، مخلص فى طاعته ، مقبل على عبادته . .
وقوله : مَنْ خَشِيَ الرّحْمَنَ بالغَيْبِ يقول : من خاف الله في الدنيا من قبل أن يلقاه ، فأطاعه ، واتبع أمره .
وفي مَن في قوله : مَنْ خَشِيَ وجهان من الإعراب : الخفض على إتباعه كلّ في قوله : لِكُلّ أوّابٍ والرفع على الاستئناف ، وهو مراد به الجزاء من خشي الرحمن بالغيب ، قيل له ادخل الجنة فيكون حينئذ قوله : ادْخُلُوها بِسَلامٍ جوابا للجزاء أضمر قبله القول ، وجعل فعلاً للجميع ، لأن مَن قد تكون في مذهب الجميع .
وقوله : وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ يقول : وجاء الله بقلب تائب من ذنوبه ، راجع مما يكرهه الله إلى ما يرضيه . كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ : أي منيب إلى ربه مُقْبل .
وقوله تعالى : { من خشي } يحتمل أن يكون { من } نعت الأواب أو بدلاًمن [ كل ]{[10557]} . ويحتمل أن يكون رفعاً بالابتداء والخبر يقال لهم { ادخلوها } ، ويحتمل أن تكون شرطية فيكون الجواب يقال لهم ادخلوها . وقوله : { بالغيب } أي غير مشاهد له إنما يصدق رسوله ويسمع كلامه وجاء معناه يوم القيامة . والمنيب الراجع إلى الخير المائل إليه .
و{ من خشي الرحمن بالغيب } بدل من { كل أوّاب } . والخشية : الخوف . وأطلقت الخشية على أثرها وهو الطاعة .
والباء في { بالغيب } بمعنى ( في ) الظرفية لتنزيل الحال منزلة المكان ، أي الحالة الغائبة وهي حالة عدم اطِّلاع أحد عليه ، فإن الخشية في تلك الحالة تدل على صدق الطاعة لله بحيث لا يرجو ثناء أحد ولا عقاب أحد فيتعلق المجرور بالتاء بفعل { خشي } .
ولك أن تبقي الباء على بعض معانيها الغالبة وهي الملابسة ونحوها ويكون { الغيب } مصدراً والمجرور حالاً من ضمير { خشي } .
ومعنى { وجاء بقلب منيب } أنه حضر يوم الحشر مصاحباً قلبَه المنيب إلى الله ، أي مات موصوفاً بالإنابة ولم يُبطل عمله الصالح في آخر عمره ، وهذا كقوله حكاية عن إبراهيم { يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } [ الشعراء : 88 ، 89 ] .
وإيثار اسمه { الرحمن } في قوله : { من خشي الرحمن } دون اسم الجلالة للإشارة إلى أن هذا المتقي يخشى الله وهو يعلم أنه رحمان ، ولقصد التعريض بالمشركين الذين أنكروا اسمه الرحمان { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان } [ الفرقان : 60 ] .
والمعنى على الذين خَشُوا : خشي صاحب هذا الاسم ، فأنتم لا حَظَّ لكم في الجنة لأنكم تنكرون أن الله رحمان بَلْهَ أن تخْشَوْه .
ووصفُ قلب ب { مُّنِيب } على طريقة المجاز العقلي لأن القلب سبب الإنابة لأنه الباعث عليها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{من خشي الرحمن بالغيب} فأطاعه ولم يره {وجاء} في الآخرة {بقلب منيب} يعني بقلب مخلص...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"مَنْ خَشِيَ الرّحْمَنَ بالغَيْبِ "يقول: من خاف الله في الدنيا من قبل أن يلقاه، فأطاعه واتبع أمره...
وقوله: "وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ" يقول: وجاء الله بقلب تائب من ذنوبه، راجع مما يكرهه الله إلى ما يرضيه... عن قتادة، قوله: "وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ": أي منيب إلى ربه مُقْبل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{من خشي الرحمن بالغيب} أي خافه، وحذِره مما أوعد، ثم يخرّج على وجهين: أحدهما: {من خشي الرحمن بالغيب} أي قبل أن يرد على ظاهر ما ذكر. والثاني: أي من خشِي الرحمن في الدنيا التي هي حال غيب الدلائل بالمواعيد التي أُوعدَها، وحذر منها قبل أن يعاينها، إذ هو لم ير ذلك العذاب، فيُصدّقه في ما أوعد، وخافه...
{وجاء بقلبٍ منيبٍ} والمنيب، هو المُقبل على الله تعالى بجميع أوامره ونواهيه المطيع له في ذلك كله.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(من خشى الرحمن بالغيب) فالخشية: انزعاج القلب عند ذكر السيئة وداعي الشهوة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
كيف قرن بالخشية اسمه الدال على سعة الرحمة؟ قلت: للثناء البليغ على الخاشي وهو خشيته، مع علمه أنه الواسع الرحمة. كما أثنى عليه بأنه خاش، مع أنّ المخشى منه غائب...
وصف القلب بالإنابة وهي الرجوع إلى الله تعالى؛ لأنّ الاعتبار بما ثبت منها في القلب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{بالغيب} أي غير مشاهد له، إنما يصدق رسوله ويسمع كلامه وجاء معناه يوم القيامة. والمنيب: الراجع إلى الخير المائل إليه...
{خشي الرحمن} مع أن وصف الرحمة غالبا يقابل الخشية إشارة إلى مدح المتقي حيث لم تمنعه الرحمة من الخوف بسبب العظمة...
وقال تعالى: {بالغيب} أي كانت خشيتهم قبل ظهور الأمور حيث ترى رأى العين. وقوله تعالى: {وجاء بقلب منيب} إشارة إلى صفة مدح أخرى، وذلك لأن الخاشي قد يهرب ويترك القرب من المخشي ولا ينتفع، وإذا علم الخاشي أنه تحت حكمه تعالى، علم أنه لا ينفعه الهرب، فيأتي المخشي وهو غير خاش، فقال: {وجاء} ولم يذهب كما يذهب الآبق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أبدل من "كل " تتميماً- لبيان المتقين قوله: {من خشي} ولم يعد الجارّ لأنه لا اعتراض قبله كالأول، ونبه على كثرة خشيته- بقوله: {الرحمن} لأنه إذا خاف مع استحضار الرحمة العامة للمطيع والعاصي كان خوفه مع استحضار غيرها أولى...
{بالغيب} أي مصاحباً له من غير أن يطلب آية أو أمراً يصير به إلى حد المكاشفة، بل استغنى بالبراهين القاطعة التي منها أنه- مربوب، فلا بد له من رب...
. {وجاء} أي بعد الموت {بقلب منيب} أي راجع إلى الله تعالى بوازع العلم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {من خشي الرحمن بالغيب} بدل من {كل أوّاب}. والخشية: الخوف. وأطلقت الخشية على أثرها وهو الطاعة.
والباء في {بالغيب} بمعنى (في) الظرفية لتنزيل الحال منزلة المكان، أي الحالة الغائبة وهي حالة عدم اطِّلاع أحد عليه، فإن الخشية في تلك الحالة تدل على صدق الطاعة لله بحيث لا يرجو ثناء أحد ولا عقاب أحد فيتعلق المجرور بالتاء بفعل {خشي}.
ولك أن تبقي الباء على بعض معانيها الغالبة وهي الملابسة ونحوها ويكون {الغيب} مصدراً والمجرور حالاً من ضمير {خشي}.
ومعنى {وجاء بقلب منيب} أنه حضر يوم الحشر مصاحباً قلبَه المنيب إلى الله، أي مات موصوفاً بالإنابة ولم يُبطل عمله الصالح في آخر عمره، وهذا كقوله حكاية عن إبراهيم {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} [الشعراء: 88، 89].
وإيثار اسمه {الرحمن} في قوله: {من خشي الرحمن} دون اسم الجلالة للإشارة إلى أن هذا المتقي يخشى الله وهو يعلم أنه رحمان، ولقصد التعريض بالمشركين الذين أنكروا اسمه الرحمان {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمان} [الفرقان: 60].
والمعنى على الذين خَشُوا: خشي صاحب هذا الاسم، فأنتم لا حَظَّ لكم في الجنة لأنكم تنكرون أن الله رحمان بَلْهَ أن تخْشَوْه.
ووصفُ قلب ب {مُّنِيب} على طريقة المجاز العقلي لأن القلب سبب الإنابة لأنه الباعث عليها.