اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَّنۡ خَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ وَجَآءَ بِقَلۡبٖ مُّنِيبٍ} (33)

قوله : «مَنْ خَشِيَ » يجوز أن يكون مجرور المَحَلّ بدلاً ، أو بياناً ل «كُلّ » . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بدلاً بعد بدل تابعاً لكل . انتهى . يعني أنه بدل من كل بعد أن أبدلت «لكلّ » من «لِلْمُتَّقِينَ »{[52487]} . ولم يجعلْه بدلاً آخر من نفس «لِلْمُتَّقِينَ » لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد{[52488]} . ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف «أَوَّابٍ وحَفِيظٍ » قاله الزمخشري{[52489]} . يعني أن الأصل لكلّ شخص أوابٍ ، فيكون «مَنْ خَشِيَ » بدلاً من «شَخْص » المقدر . قال : ولا يجوز أن يكون في حكم «أواب وحفيظ » ؛ لأن «مَنْ » لا يوصف بها{[52490]} ، لا يقال : الرجلُ مَنْ جاءني جالسٌ ، كما يقال : الرجل الذي جَاءَني جالسٌ . والفرق بينهما يأتي في الفصل بعده . ولا يوصف من بين الموصولات إلاَّ بالَّذي{[52491]} يعني بقوله : «في حكم أواب » أن يجعل من صفة . وهذا كما قال لا يجوز ، إلا أنَّ أبا حَيَّانَ استدرك عليه الحَصْرَ وقال : بل يوصف بغير الذي من الموصولات كوصفهم بما فيه أل الموصوفة ، نحو : الضَّارِبُ والمَضْرُوب{[52492]} ، وكوصفهم بذُو وذاتِ الطَّائِيَّتَين نحو قولهم : «بالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُم اللَّهُ بِهِ ، والْكَرَامَةِ{[52493]} ذات أَكْرَمَكُمْ بِهِ »{[52494]} .

وقد جوز ابن عطية في : «مَنْ خَشِيَ » أن يكون نعتاً لما تقدم{[52495]} . وهو مردود بما تقدم{[52496]} . ويجوز أن يرتفع : مَنْ خَشِيَ على أنه خبر ابتداءٍ مضمر{[52497]} أو ينصب بفعل مضمر{[52498]} ، وكلاهما على القطعِ المُشْعِر بالمَدْحِ{[52499]} ، وأن يكون مبتدأ خبره قولٌ مضمر ناصبٌ لقوله : ادْخُلُوها{[52500]} وحُمِلَ أولاً على اللفظ وفي الثَّاني على المَعْنَى{[52501]} .

وقيل : مَنْ خَشِيَ منادى حذف منه حرف النداء أي يَا مَنْ خَشِيَ{[52502]} ادْخُلُوهَا باعتبار الجملتين المتقدمتين وحَذْفُ حرف النداء سائغٌ{[52503]} . وأن تكون شرطية وجوابها محذوف هو ذلك القول ، ولكن ردّ معه فاء أي فيقال لهم{[52504]} . و«بالْغَيْبِ » حال أي غائباً عنه ، فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول{[52505]} أو منهما ، وقيل : الباء المسببة أي خشيةً بسبب الغَيْب الذي أوعد به من عذابه{[52506]} . ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشي أي خَشِيهُ خشْيَةً مُلتَبِسَةً بالْغَيْبِ{[52507]} .

فصل

قال ابن الخطيب : إذا كان «مَنْ والَّذي » يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما ؟

فنقول : «ما » اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء ، لكن الشيء هو أعم الأشْياء فإن الجَوْهَرَ شيء ، والعَرَضَ شيء ، والواجب شيء ، والممكن شيء ، والأعَمُّ قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت شيئاً{[52508]} من البعد تقول أولاً : إنَّه شيء ، ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول : إنسان ، فإذا بان لك أنه ذكر قلت : إنه رجل ، فإذا وجدته ذا قوة تقول : شجاعٌ إلى غير ذلك فالأعَمّ أعرف ، وهو قبل الأخَص في الفهم ، فلا يجوز أن يكون صفة ، لأنَّ الصفة بعد الموصوف . هذا من حيث المعقول ، وأما من حيث النَّحْو ، فلأن الحقائق لا يوصف بها ، فلا يقال : جِسْمُ رَجُلٍ جَاءَنِي ، كما يقال : جِسْمُ نَاطِقٍ جَاءَنِي ؛ لأنَّ الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها{[52509]} . فقولنا : عالم أي شيء له علم{[52510]} .

فصل

والخَشْيَةُ والخَوْفُ معناهما واحد عند أهل اللغة ، لكن بينهما فَرْقٌ ، وهو أن الخشيةَ خوفٌ من عَظَمَةِ المَخْشِيِّ ، لأن تركيب حروف «شَ يَ خَ » في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة ، يقال : شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ وللرجل الكبير السِّنِّ ، وهما جميعاً مَهِيبَان والخوف خشيةٌ من ضعف الخاشي ، لأنَّ تركيب «خَ وَ ف » في تقاليبها يدل على الضعف ، ويدل على ذلك أنه حيث كان الخوف من عظمة المخشيّ قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] ، وقال : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعاً من خشية الله } [ الحشر : 21 ] وقال : { هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] مع أن الملائكة والجبل أقوياء وحيث كان الخوفُ من ضعف الخاشِي سماه خوفاً قال تعالى :

{ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [ فصلت : 30 ] أي بسبب مكروه يلحقكم في الآخرة . وقال تعالى : { خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] وقال : «إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ »{[52511]} لوحدته وضعفه هذا في أكثر الاستعمال وربما يتخلف ( المُدَّعَى عنه لكن الكثرة كافية ) {[52512]} .

فصل

معنى الآية من خاف الرحمان فأطاعه بالغيب ، ولم يره . وقال الضّحاك والسّدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب .

{ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } هذه صفة مدح ، لأن شأن الخائف أن يَهْرب ، فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفِرار منه{[52513]} .

وقوله : «مُنِيبٍ » أي مخلص مقبل على طاعة الله تعالى . والباء في «بِقَلْبٍ » إما للتعدية{[52514]} ، وإما للمُصَاحَبة{[52515]} ، وإما للسببية{[52516]} .

والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى : { إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] أي سليم من الشرك .


[52487]:نقله في الكشاف 4/10 وانظر التبيان 1176 والبحر 8/127.
[52488]:قاله أبو حيان في المرجع السابق.
[52489]:الكشاف المرجع السابق.
[52490]:الكشاف المرجع السابق.
[52491]:السابق.
[52492]:فأل هنا في الفاعلية والمفعولية صفة لما قبلها و"ضارب ومضروب" صلتان أي الذي هو ضارب والذي هو مضروبٌ.
[52493]:فذو ذات صفتان لما قبلهما أي الفضل الذي أكرمكم والكرامة التي أكرمكم.
[52494]:انظر بحر أبي حيان المحيط 8/127.
[52495]:وهو أواب حفيظ.
[52496]:من أن "من" لا ينعت بها.
[52497]:التبيان 1176.
[52498]:أي هم من خشي وأعني من خشي.
[52499]:بتوضيح وتبيين من المؤلف لكتاب التبيان للعكبري 1176.
[52500]:ذكر هذا الوجه الزمخشري في الكشاف 4/10 ثم أبو حيان في البحر 8/127.
[52501]:معنى الجمع وانظر الكشاف والبحر السابقين.
[52502]:السابقين وذكره أيضا الرازي 28/177 قال: وهو أغربُها".
[52503]:وقد حذف حرف النداء للتقريب كما قالوا: من لا يزال محسنا أحسن إلي. وانظر المرجعين السابقين.
[52504]:لم أعثر على ذلك القول لمعين وهو في الحقيقة رأي وجبه.
[52505]:وهو اختيار الزمخشري وأبي حيان في مرجعهما السابقين الكشاف 4/10 والبحر 8/128.
[52506]:المرجعين السابقين أيضا. وقد تناثرت أقوال من هذه الأقوال في معاني الفراء 3/79 والبيان 2/387 ومشكل الإعراب 2/321.
[52507]:المرجعين السابقين أيضا. وقد تناثرت أقوال من هذه الأقوال في معاني الفراء 3/79 والبيان 2/387 ومشكل الإعراب 2/321.
[52508]:في الرازي: شبحاً.
[52509]:وكل ما يقع للغير يكون معناه شيء له كذا.
[52510]:وتلك من المقولات الفلسفية التي اشتهر بها الإمام الفخر الرازي وتوضيح الكلام أن من خشي عند الرازي وقصده حقيقة لا تقوم بغيرها فهي غير تامة. وانظر تفسيره 28/177.
[52511]:الأصحّ قرآنيا: فأخاف وهي 14 من الشعراء و33 من القصص.
[52512]:زيادة من الرازي لتحقيق المراد وتوضيحه وانظر الرازي المرجع السابق.
[52513]:البغوي 6/238 والقرطبي 17/21.
[52514]:أي أحضر قلبا سليما.
[52515]:أي مع قلب.
[52516]:وهي الأعرف. وانظر الرازي المرجع السابق. والسببية معناها جاء بسبب قلبه المنيب.