قوله : «مَنْ خَشِيَ » يجوز أن يكون مجرور المَحَلّ بدلاً ، أو بياناً ل «كُلّ » . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون بدلاً بعد بدل تابعاً لكل . انتهى . يعني أنه بدل من كل بعد أن أبدلت «لكلّ » من «لِلْمُتَّقِينَ »{[52487]} . ولم يجعلْه بدلاً آخر من نفس «لِلْمُتَّقِينَ » لأنه لا يتكرر البدل والمبدل منه واحد{[52488]} . ويجوز أن يكون بدلاً من موصوف «أَوَّابٍ وحَفِيظٍ » قاله الزمخشري{[52489]} . يعني أن الأصل لكلّ شخص أوابٍ ، فيكون «مَنْ خَشِيَ » بدلاً من «شَخْص » المقدر . قال : ولا يجوز أن يكون في حكم «أواب وحفيظ » ؛ لأن «مَنْ » لا يوصف بها{[52490]} ، لا يقال : الرجلُ مَنْ جاءني جالسٌ ، كما يقال : الرجل الذي جَاءَني جالسٌ . والفرق بينهما يأتي في الفصل بعده . ولا يوصف من بين الموصولات إلاَّ بالَّذي{[52491]} يعني بقوله : «في حكم أواب » أن يجعل من صفة . وهذا كما قال لا يجوز ، إلا أنَّ أبا حَيَّانَ استدرك عليه الحَصْرَ وقال : بل يوصف بغير الذي من الموصولات كوصفهم بما فيه أل الموصوفة ، نحو : الضَّارِبُ والمَضْرُوب{[52492]} ، وكوصفهم بذُو وذاتِ الطَّائِيَّتَين نحو قولهم : «بالْفَضْلِ ذُو فَضَّلَكُم اللَّهُ بِهِ ، والْكَرَامَةِ{[52493]} ذات أَكْرَمَكُمْ بِهِ »{[52494]} .
وقد جوز ابن عطية في : «مَنْ خَشِيَ » أن يكون نعتاً لما تقدم{[52495]} . وهو مردود بما تقدم{[52496]} . ويجوز أن يرتفع : مَنْ خَشِيَ على أنه خبر ابتداءٍ مضمر{[52497]} أو ينصب بفعل مضمر{[52498]} ، وكلاهما على القطعِ المُشْعِر بالمَدْحِ{[52499]} ، وأن يكون مبتدأ خبره قولٌ مضمر ناصبٌ لقوله : ادْخُلُوها{[52500]} وحُمِلَ أولاً على اللفظ وفي الثَّاني على المَعْنَى{[52501]} .
وقيل : مَنْ خَشِيَ منادى حذف منه حرف النداء أي يَا مَنْ خَشِيَ{[52502]} ادْخُلُوهَا باعتبار الجملتين المتقدمتين وحَذْفُ حرف النداء سائغٌ{[52503]} . وأن تكون شرطية وجوابها محذوف هو ذلك القول ، ولكن ردّ معه فاء أي فيقال لهم{[52504]} . و«بالْغَيْبِ » حال أي غائباً عنه ، فيحتمل أن يكون حالاً من الفاعل أو المفعول{[52505]} أو منهما ، وقيل : الباء المسببة أي خشيةً بسبب الغَيْب الذي أوعد به من عذابه{[52506]} . ويجوز أن يكون صفة لمصدر خشي أي خَشِيهُ خشْيَةً مُلتَبِسَةً بالْغَيْبِ{[52507]} .
قال ابن الخطيب : إذا كان «مَنْ والَّذي » يشتركان في كونهما من الموصولات فلماذا لا يشتركان في جواز الوصف بهما ؟
فنقول : «ما » اسم مبهم يقع على كل شيء فمفهومه هو شيء ، لكن الشيء هو أعم الأشْياء فإن الجَوْهَرَ شيء ، والعَرَضَ شيء ، والواجب شيء ، والممكن شيء ، والأعَمُّ قبل الأخص في الفهم لأنك إذا رأيت شيئاً{[52508]} من البعد تقول أولاً : إنَّه شيء ، ثم إذا ظهر لك منه ما يختص بالناس تقول : إنسان ، فإذا بان لك أنه ذكر قلت : إنه رجل ، فإذا وجدته ذا قوة تقول : شجاعٌ إلى غير ذلك فالأعَمّ أعرف ، وهو قبل الأخَص في الفهم ، فلا يجوز أن يكون صفة ، لأنَّ الصفة بعد الموصوف . هذا من حيث المعقول ، وأما من حيث النَّحْو ، فلأن الحقائق لا يوصف بها ، فلا يقال : جِسْمُ رَجُلٍ جَاءَنِي ، كما يقال : جِسْمُ نَاطِقٍ جَاءَنِي ؛ لأنَّ الوصف يقوم بالموصوف والحقيقة تقوم بنفسها لا بغيرها{[52509]} . فقولنا : عالم أي شيء له علم{[52510]} .
والخَشْيَةُ والخَوْفُ معناهما واحد عند أهل اللغة ، لكن بينهما فَرْقٌ ، وهو أن الخشيةَ خوفٌ من عَظَمَةِ المَخْشِيِّ ، لأن تركيب حروف «شَ يَ خَ » في تقاليبها يلزمه معنى الهيبة ، يقال : شَيْخٌ لِلسَّيِّدِ وللرجل الكبير السِّنِّ ، وهما جميعاً مَهِيبَان والخوف خشيةٌ من ضعف الخاشي ، لأنَّ تركيب «خَ وَ ف » في تقاليبها يدل على الضعف ، ويدل على ذلك أنه حيث كان الخوف من عظمة المخشيّ قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] ، وقال : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعاً من خشية الله } [ الحشر : 21 ] وقال : { هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] مع أن الملائكة والجبل أقوياء وحيث كان الخوفُ من ضعف الخاشِي سماه خوفاً قال تعالى :
{ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ } [ فصلت : 30 ] أي بسبب مكروه يلحقكم في الآخرة . وقال تعالى : { خَائِفاً يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] وقال : «إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ »{[52511]} لوحدته وضعفه هذا في أكثر الاستعمال وربما يتخلف ( المُدَّعَى عنه لكن الكثرة كافية ) {[52512]} .
معنى الآية من خاف الرحمان فأطاعه بالغيب ، ولم يره . وقال الضّحاك والسّدي : يعني في الخلوة حيث لا يراه أحد . قال الحسن : إذا أرخى الستر وأغلق الباب .
{ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } هذه صفة مدح ، لأن شأن الخائف أن يَهْرب ، فأما المتقي فجاء ربه لعلمه أنه لا ينجي الفِرار منه{[52513]} .
وقوله : «مُنِيبٍ » أي مخلص مقبل على طاعة الله تعالى . والباء في «بِقَلْبٍ » إما للتعدية{[52514]} ، وإما للمُصَاحَبة{[52515]} ، وإما للسببية{[52516]} .
والقلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى : { إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [ الصافات : 84 ] أي سليم من الشرك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.