قوله تعالى : { لعلي أعمل صالحاً فيما تركت } أي : لعلي أن أقول لا إله إلا الله . وقيل : أعمل بطاعة الله . قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فرحم الله امرأ عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب ، { كلا } كلمة ردع وزجر ، أي : لا يرجع إليها ، { إنها } يعني : سؤاله الرجعة ، { كلمة هو قائلها } ولا ينالها { ومن ورائهم برزخ } أي أمامهم وبين أيديهم حاجز ، { إلى يوم يبعثون } والبرزخ الحاجز بين الشيئين ، واختلفوا في معناه هاهنا ، فقال مجاهد : حجاب بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا . وقال قتادة : بقية الدنيا . وقال الضحاك : البرزخ ما بين الموت إلى البعث . وقيل : هو القبر ، وهم فيه إلى يوم يبعثون .
و " لعل " فى قوله تعالى : { لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً } للتعليل . أى : ارجعون لكى أعمل عملا صالحا .
وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { . . وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } ثم بين - سبحانه - الجواب عليهم فقال : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .
و " كلا " حرف زجر وردع . والبرزخ : الحاجز والحاجب بين الشيئين لكى لا يصل أحدهما إلى الآخر . والمراد بالكلمة : ما قاله هذا الكافر . أى : رب ارجعون .
أى : يقال لهذا الكافر النادم : كلا ، لا رجوع إلى الدنيا { إِنَّهَا } أى قوله رب ارجعون ، { كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } ولن تجديه شيئا ، لأنه قالها بعد فوات الأوان لنفعها ، { وَمِن وَرَآئِهِمْ } أى : ومن أمام هذا الكافر وأمثاله ، حاجز يحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ، وهذا الحاجز مستمر إلى يوم البعث والنشور .
فالمراد بالبرزخ : تلك المدة التى يقضيها هؤلاء الكافرون منذ موتهم إلى يوم يبعثون .
وفى هذه الجملة الكريمة . زجر شديد لهم عن طلب العودة إلى الدنيا . وتيئيس وإقناط لهم من التفكير فى المطالبة بالرجعة ، وتهديد لهم بعذاب القبر إلى يوم القيام .
الترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة . وما صدق { ما تركت } عالم الدنيا . ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض ، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله ، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر ، فالمعنى : لعلي أسلم وأعمل صالحاً في حالة إسلامي الذي كنت رفضته ، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف . ورُكب بهذا النظم الموجز قضاءً لحق البلاغة .
و { كلاّ } ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر .
وقوله : { إنها كلمة هو قائلها } تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن . وحاصل معناه : أن قول المشرك { رب ارجعون } إلخ لا يتجاوز أن يكون كلاماً صدر من لسانه لا جدوى له فيه ، أي لا يستجاب طلبه به .
فجملة { هو قائلها } وصف ل { كلمة } ، أي هي كلمة هذا وصفها . وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف { كلمة } به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملاً في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها .
وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف ( إن ) لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف .
والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم " أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : { ألا كل شيء ما خلا الله باطل »
وكما في قولهم : كلمة الشهادة وكلمة الإسلام . وتقدم قوله تعالى { ولقد قالوا كلمة الكفر } في سورة براءة ( 74 ) .
والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه . شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه ، وهذا كقوله تعالى { والله من ورائهم محيط } [ البروج : 20 ] وقوله { ومن ورائهم جهنم } [ الجاثية : 10 ] وقوله { من ورائهم عذاب غليظ } [ إبراهيم : 17 ] . وتقدم قوله : { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 79 ] .
أليس ورائي أن تراخت منيتي *** لزوم العصا تُحنى عليها الأصابع
والبرزخ : الحاجز بين مكانين . قيل : المراد به في هذه الآية القبر ، وقيل : هو بقاء مدة الدنيا ، وقيل : هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل ، وإلى هذا مال الصوفية . وقال السيد في « التعريفات » : البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية ، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال اه ، أي عند الفلاسفة القدماء .
ومعنى { إلى يوم يبعثون } أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث . فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون أن يوم البعث الذي وُعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم { إلى يوم يبعثون } هو الذي أعلمهم بما هو البعث .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.