فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحٗا فِيمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّآۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ} (100)

{ حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } حتى هي الابتدائية دخلت على الشرطية ، وهي مع ذلك غاية لما قبلها متعلقة بقوله لكاذبون . وقيل بيصفون والمراد بمجيء الموت علاماته ، أي رأس مقعده من النار ومقعده من الجنة لو آمن { قَالَ } أي ذلك الأحد الذي حضره الموت تحسرا وتحزنا على ما فرط منه .

{ رَبِّ ارْجِعُونِ } أي ردوني إلى الدنيا ، وإنما قال بضمير الجماعة لتعظيم المخاطب ، وقيل هو على معنى تكرير الفعل ، أي ارجعني ارجعني ارجعني ، قاله أبو البقاء ، ومثله قوله تعالى : { ألقيا في جهنم } قال المازني : معناه ألق ألق ، وهكذا قيل في قول امرئ القيس :

قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل

ومثله قول الحجاج : يا حرسي اضربا عنقه . وقول الآخر :

ألا فارحمون يا إله محمد

وقيل إنهم لما استغاثوا بالله قال قائلهم : رب ؛ ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : ارجعون { لَعَلِّي أَعْمَلُ } عملا { صَالِحًا } في الدنيا إذا رجعت إليها من الإيمان وما يتبعه من أعمال الخير .

أخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : إذا أدخل الكافر في قبره فيرى مقعده من النار ، قال : { رَبِّ ارْجِعُونِ } أتوب وأعمل صالحا ، فيقال له قد عمّرت ما كنت معمرا ، فيضيق عليه قبره ، فهو فالمنهوش ينازع ويفزع ، تهوي إليه حيات الأرض وعقاربها .

وعن ابن جريج قال : زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : " إن المؤمن إذا عاين الملائكة ، قالوا : نرجعك إلى الدنيا ؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ؟ بل قدما إلى الله ، وأما الكافر فيقولون له : نرجعك ؟ فيقول رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ، وهو مرسل .

وعن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا حضر الإنسان الوفاة يجمع له كل شيء يمنعه عن الحق فيجعل بين عينيه ، فعند ذلك يقول رب ارجعون ) الآية .

وعن ابن عباس في قوله : { أَعْمَلُ صَالِحًا } قال : أقول لا إله إلا الله { فِيمَا تَرَكْتُ } أي في الموضع الذي ضيعت أو منعت ، وقيل خلفت من التركة وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى . قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهله وعشيرته ولا ليجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فرحم الله امرءا عمل فيما تمناه الكافر إذا رأى العذاب . ولما تمنى أن يرجع ليعمل ، رد الله عليه ذلك بقوله :

{ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } فجاء بكلمة الردع والزجر ، والضمير في { إنها } يرجع إلى قوله : { رب ارجعون } أي أن هذه الكلمة هو قائلها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والندم عليه ، وليس الأمر كما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا ؛ أو المعنى أنه لو أجيب إلى ذلك لما حصل منه الوفاء كما في قوله : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } وقيل إن الضمير في { هو } يرجع إلى الله ، أي لا خلف في خبره ، وقد أخبرنا بأنه لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها .

{ وَمِن وَرَائِهِم } أي من أمامهم وبين أيديهم ، والضمير للأحد والجمع باعتبار المعنى لأنه في حكم كلهم ، كما أن الأفراد في الضمائر الأول باعتبار اللفظ { بَرْزَخٌ } هو الحاجز بين الشيئين . قاله الجوهري ، واختلف في معنى الآية فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد : حاجز بين الموت والبعث . وقال الكلبي : هو الأجل بين النفختين وبينهما أربعون سنة . وقال السدي : هو الأجل ، وقيل : بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا .

{ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي يوم القيامة ، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا ، وإنما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة . عن عائشة قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور ، تدخل عليهم في قبورهم حيات سود ، حية عند رأسه وحية عند رجليه ، تقرضانه حتى تلتقيا في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله { وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } .