المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

3- وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة الموعودة للبعث والنشور . قل لهم - أيها الرسول - : ستأتيكم ، وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يغيب عن علمه قدر ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إلا مسطور في كتاب تام البيان{[180]} .


[180]:الذرة في اللغة العربية: شيء صغير جدا كصغار النمل أو دقيقة الغبار، ومثقال الذرة معناه: وزن الذرة، وتفيد الآية وجود ما هو أصغر من الذرة، وجدير بالذكر أن العلم الحديث أثبت انقسام الذرة إلى أصغر منها وهي مكوناتها المعروفة بالنواة والكهارب. وهذا لم يتحقق علميا إلا في القرن العشرين الميلادي.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

قوله تعالى : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم }الساعة { عالم الغيب } قرأ أهل المدينة والشام : عالم بالرفع على الاستئناف ، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب ، أي : وربي عالم الغيب ، وقرأ حمزة والكسائي : علام على وزن فعال ، وجر الميم . { لا يعزب } لا يغيب ، { عنه مثقال ذرة } وزن ذرة { في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك } أي : من الذرة . { ولا أكبر إلا في كتاب مبين* }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

ثم حكى - سبحانه - ما قاله الكافرون فى شأن يوم القيامة ، فقال - تعالى - { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة } .

أى : وقال الذين كفروا بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر ، لا تأتينا الساعة بحال من الأحوال ، وإنما نحن ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، وإذا متنا فإن الأرض تأكل أجسادنا ، ولا نعود إلى الحياة مرة أخرى .

وعبروا عن إنكارهم لها بقولهم : { لاَ تَأْتِينَا الساعة } مبالغة فى نفيها نفيا كليها ، فكأنهم يقولون : لا تأتينا الساعة فى حال من الأحوال ، لأننا ننكر وجودها أصلا ، فضلا عن إتيانها .

وقد أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يؤكد وجودها وإتيانها تأكيدا قاطعا فقال : { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } .

و " بلى " حرف جواب لرد النفى ، فتفيد إثبات المنفى قبلها ، ثم أكد - سبحانه - ذلك بجملة القسم .

أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين لإِتيان الساعة : ليس الأمر كما زعمتم ، بل هى ستأتيكم بغتة ، وحق ربى الذى أوجدنى وأوجدكم .

فالجملة الكريمة قد اشتملت على جملة من المؤكدات التى تثبت أن الساعة آتية لا ريب فيها ، ومن ذلك التعبير ب { بلى } بالجملة القسمية .

قال ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : هذه إحدى الآيات الثلاث التى لا رابع لهن ، مما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على ووقع المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد : فإحداهن فى سورة يونس ، وهى قوله - تعالى - : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } والثانية : هذه الآية التى معنا . والثالثة : فى سورة التغابن وهى قوله - تعالى - : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ . . } وقوله - تعالى - : { عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } تقوية لتأكيد إتيان الساعة .

قالوا لأن تأكيد القسم بجلائل نعوت المقسم به يؤذن بخامة شأن المقسم عله ، وقوة إثباته ، وصحته ، لما أن ذلك فى حكم الاستشهاد على الأمر .

وقوله { يَعْزُبُ } بمعنى يغيب ويخفى ، وفعله من باب " قلت وضرب " . يقال : عزب الشئ يعزب - بضم الزاى وكسرها - إذا غاب وبعد .

والمعنى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين لإِتيان الساعة : كذبتم فى إنكاركم وحق الله - تعالى - لتأتينكم ، والذى أخبرنى بذلك هو الله - تعالى - { عَالِمِ الغيب } أى : عالم ما غاب وخفى عن حسكم ، وهو - سبحانه - لا يغيب عن علمه مقدار أو وزن مثقال ذرة فى السماوات ولا فى الأرض ، ولا أصغر من ذلك المثقال ، ولا أكبر منه ، إلا وهو مثبت وكائن فى علمه - تعالى - الذى لا يغيب عنه شئ ، أو فى اللوح المحفوظ الذى فيه تسجل أحوال الخلائق وأقوالهم وأفعالهم .

وقوله - سبحانه - : { عَالِمِ الغيب } قرأ بعضهم بكسر الميم على أنه نعت لقوله { رَبِّي } .

أى : قبل بلى وربى عالم الغيب لتأتينكم الساعة .

وقرأه آخرون بضم الميم على أنه مبتدأ ، وخبر جملة : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } ، أو هو خبر لمبتدأ محذوف . أى : هو عالم الغيب .

وقوله : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } تمثيل لقلة الشئ ، ودقته ، والمراد انه لا يغيب عن علمه شئ ما ، مهما دق أو صغر ، إذ المثقال : مفعال من الثقل ، ويطلق على الشئ البالغ النهاية فى الصغر ، والذرة تطلق على النملة ، وعلى الغبار الذى يتطاير من التراب عند النفخ .

وفى قوله - سبحانه - : { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } إعجاز علمى بليغ للقرآن الكريم ، إذ كان من المعروف إلى عهد قريب ، أن الذرة أصغر الأجسام ، فأشار القرآن إلى أن هناك ما هو أصغر منها ، وهذا ما اكتشفه العلم الحديث بعد تحطيم الذرة ، وتقسيمها إلى جزئيات .

قال الجمل : وقوله : { وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ } العامة على رفع أصغر وأكبر ، وفيه وجهان :

أحدهما : الابتداء ، والخبر إلا فى كتاب ، والثانى : العطف على { مِثْقَالُ } ، وعلى هذا فيكون قوله : { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } تأكيد للنفى فى { لاَ يَعْزُبُ } كأنه قال : لكنه فى كتاب مبين .

فإن قيل : فأى حاجة إلى ذكر الأكبر ، فإن من علم ما هو أصغر من الذرة لا بد وأن يعلم الأكبر ؟ فالجواب : لما كان الله - تعالى - أراد بيان إثبات الأمور فى الكتاب ، فلو اقتصر على الأصغر لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر لكونها محل النسيان ، وأما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، فقال : الإِثبات فى الكتاب ليس كذلك فإن الأكبر مكتوب أيضا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب ، وقال اللات والعزى ما ثم ساعة تأتي ولا قيامة ولا حشر فأمر الله تعالى نبيه أن يقسم بربه مقابلة لقسم أبي سفيان قبل رداً وتكذيباً وإيجاباً لما نفاه وأجاز نافع الوقف على { بلى } وقرأ الجمهور «لتأتينكم » بالتاء من فوق ، وحكى أبو حاتم قراءة «ليأتينكم » بالياء على المعنى في البعث .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بخلاف «عالمِ » بالخفض على البدل من { ربي } ، وقرأ نافع وابن عامر «عالمُ » بالرفع على القطع ، أي هو عالم ، ويصح أن يكون «عالم » رفع بالابتداء وخبره { لا يعزب } وما بعده ، ويكون الإخبار بأن العالم لا يعزب عنه شيء إشارة إلى أنه قد قدر وقتها وعلمه والوجه الأول أقرب ، وقرأ حمزة والكسائي «علامِ » على المبالغة وبالخفض على البدل{[9598]} و { يعزب } معناه يغيب ويبعد ، وبه فسر مجاهد وقتادة ، وقرأ جمهور القراء «لا يعزُب » بضم الزاي ، وقرأ الكسائي وابن وثاب «لا يعزب » بكسرها وهما لغتان ، و { مثقال ذرة } معناه مقدار الذرة ، وهذا في الأجرام بين وفي المعاني بالمقايسة وقرأ الجمهور «ولا أصغرُ ولا أكبر » عطفاً على قوله { مثقال } وقرأ نافع والأعمش وقتادة «أصغرَ وأكبرَ » بالنصب عطفاً على { ذرة } ورويت عن أبي عمرو{[9599]} ، وفي قوله تعالى : { إلا في كتاب مبين } ضمير تقديره إلا هو في كتاب مبين ، والكتاب المبين هو اللوح المحفوظ .


[9598]:وأجاز أبو البقاء أن تكون[عالم] صفة، قال أبو حيان:"ويعني أن{عالم الغيب} يجوز ان يتعرف، وكذا كل ما أضيف إلى معرفة مما كان لا يتعرف بذلك، يجوز أن يتعرف بالإضافة إلا الصفة المشبهة فلا تتعرف بإضافة، ذكر ذلك سيبويه في كتابه، وقل من يعرفه".
[9599]:علق أبو حيان على ذلك بقوله:"ولا يتعين ما قال، بل تكون(لا) لنفي الجنس.وهو مبتدأ، أعني مجموع(لا) وما بني معها على مذهب سيبويه، والخبر{إلا في كتاب مبين}، وهو من عطف الجمل لا من عطف المفردات كما قال ابن عطية.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَأۡتِينَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأۡتِيَنَّكُمۡ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِۖ لَا يَعۡزُبُ عَنۡهُ مِثۡقَالُ ذَرَّةٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَآ أَصۡغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَآ أَكۡبَرُ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مُّبِينٖ} (3)

{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ } .

كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعراً بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى : { ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياء وأمواتاً } [ المرسلات : 25 ، 26 ] وقال : { يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً ذلك حشر علينا يسير } [ ق : 44 ] ، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها مومياً إلى عروج الأرواح عند مفارقة الأجساد ونزول الأرواح لتُرَدّ إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة ، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله : { وله الحمد في الآخرة } [ سبأ : 1 ] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة ، فكان التخلص بقوله : { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة } ، فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام . ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطراداً واعتراضاً ، وتقدم آنفاً ما قيل : إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة .

وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعَلَم بالغلبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعارف المسلمين .

و { الساعة } : عَلَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر .

وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت ، لأن وقوعها هو إتيانها .

وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس .

ولقد لقن الله نبيئه صلى الله عليه وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإِبطال المؤكد على عادة إرشاد القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد .

و { بلى } حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير ( بل ) أو مركب من ( بل ) وألف زائدة ، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثُمّة ورُبّة ، لكن { بلى } حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفاً و ( بل ) يجاب به الإِثبات والنفي وهو عاطف ، وتقدم الكلام على { بلى } عند قوله تعالى : { بلى من كسب سيئة } في سورة البقرة ( 81 ) .

وأكد ما اقتضاه { بلى } من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإِقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين .

وعُدّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون : لَتأتينَّا ، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول ، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال : أتاكم العدوّ ، وأتاك أتاك اللاّحقون ، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب .

وفعل ( أتى ) يرد كثيراً في معنى حلول المكروه مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] و { فأتاهم العذاب } [ الزمر : 25 ] و { يوم يأتي بعض آيات ربك } [ الأنعام : 158 ] ، وقول النابغة :

فلتأتينك قصائد وليدفعَن *** جيشاً إليك قوادم الأكوار

وقوله

أتاني أبيْتَ اللعن أنك لُمتني

ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل ( أتى ) بحرف ( على ) فيقولون : أتى على كذا ، إذا استأصله . ويكثر في غير ذلك استعمال فعل ( جاء ) ، وقد يكون للمكروه نحو { وجاءهم الموج من كل مكان } [ يونس : 22 ] .

{ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السماوات وَلاَ فِى الارض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كتاب مبين } .

{ عالمُ الغيب } خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله : { وهو الحكيم الخبير } [ سبأ : 1 ] في قراءة من قرأه بالرفع ، وصفة ل { ربي } المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكرَه مناسبةُ تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس .

وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذُكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيّها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون .

والغيب تقدم في قوله : { الذين يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] على معان ذكرت هنالك .

وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب { عالمُ الغيب } بصيغة اسم الفاعل ، وبرفع { عالمُ } على القطع . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضاً ومجروراً على الصفة لاسم الجلالة في قوله : { ربّي } .

وقرأ حمزة والكسائي { علاّم } بصيغة المبالغة وبالجر على النعت . وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلاً سفسطائياً على أنها ليست بواقعة ، ولذلك سماها القرآن الواقِعة في قوله : { إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة } [ الواقعة : 1 ، 2 ] .

والعزوب : الخفاء . ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها . قرأ الجمهور بضم الزاي ، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى { لا يعزب عنه } : لا يعزب عن علمه . وقد تقدم في سورة يونس { وما يعزب عن ربك مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء } 61 ) .

وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء { وإن كان مثقال حبة من خردل } ( 47 ) .

وأشار بقوله : { مثقال ذرة } إلى تقريب إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رُفاتاً وتراباً فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها .

ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلاً يستلزم القدرة على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة . فإن عَدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزّق كان الله عالماً بمصير كل جزء ، فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتُنفخ فيها أرواحها .

فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو بتسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها ، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة ، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها ، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى : { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه } [ الروم : 27 ] ثم تنمو تلك الأجسام سريعاً فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا .

وانظر قوله تعالى : { يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر } في سورة القمر ( 6 ، 7 ) ، وقوله : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } في سورة القارعة ( 4 ) فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البَيْض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلاً حتى تصير جراداً وتطير . ولهذا سمى الله ذلك البعث نَشْأة لأن فيه إنشاء جديداً وخلقاً معاداً وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع رُوح كل جسد إليه بعد تصويره بما سُمي بالنفخ فقال : { وإن عليه النشأة الأخرى } [ النجم : 47 ] وقال : { أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد ولقد خلقنا الإنسان } [ ق : 15 ، 16 ] الآية . أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبوا أنفسهم للتأمل .

وأشار بقوله : { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها ، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها .