قوله تعالى : { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم } قرأ أبو عمر : { أخذ } بضم الهمزة وكسر الخاء { ميثاقكم } برفع القاف على ما لم يسم فاعله . وقرأ الآخرون بفتح الهمزة والخاء ونصب القاف ، أي : أخذ الله ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم عليه السلام ، بأن الله ربكم لا إله لكم سواه ، قاله مجاهد . وقيل : أخذ ميثاقكم بإقامة الحجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم . { إن كنتم مؤمنين } يوماً ، فالآن أحرى الأوقات أن تؤمنوا لقيام الحجج والإعلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن .
ثم رغبهم - سبحانه - فى الثبات على الإيمان بالله ورسوله فقال : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
أى : وأى مانع يمنعكم من الثبات على الإيمان . ومن القيام بتكاليفه ، ومن إخلاص العبادة له - تعالى - وحده ، والحال أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينكم صباح مساء ، يدعوكم إلى الإيمان بربكم ، وقد أخذ - سبحانه - عليكم العهود والمواثيق على هذا الإيمان ، عن طريق ما ركب فيكم من عقول تعقل ، وعن طريق ما نصب لكم من أدلة متنوعة كلها تدل على وجوب إخلاص العبادة لله الواحد القهار .
قال : الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : أى : وأى شىء يمنعكم من الإيمان ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به .
وقد روينا فى الحديث من طرق ، فى أوائل شرح كتاب الإيمان من صحيح البخارى ، " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يوما لأصحابه : " أى المؤمنين أعجب إليكم إيمانا ؟ " قالوا : الملائكة .
قال : " وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ " قالوا : فالأنبياء قال : " ومالهم لا يؤمنون والوحى ينزل عليهم " قالوا : فنحن ، قال : " فما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ ولكن أعجب المؤمنين إيمانا قوم يجيئون بعدكم ، يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " " .
وقوله - تعالى - : { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } كما قال - تعالى - : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا . . } ويعنى بذلك بيعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وزعم ابن جرير : أن المراد بذلك : الميثاق الذى أخذ عليهم فى صلب آدم .
وجواب الشرط فى قوله - تعالى - : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } محذوف لدلالة ما قبله عليه .
أى : إن كنتم مؤمنين لسبب من الأسباب ، فعلى رأس هذه الأسباب وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينكم يدعوكم إلى هذا الإيمان ويقنعكم بوجوب الاعتصام به .
وقوله تعالى : { وما لكم لا تؤمنون بالله } الآية توطئة لدعائهم وإيجاب لأنهم أهل هذه الرتب الرفيعة فإذا تقرر ذلك فلا مانع من الإيمان ، وهذا كما تريد أن تندب رجلاً إلى عطاء فتقول له : أنت يا فلان من قوم أجواد فينبغي أن تكرم ، وهذا مطرد في جميع الأمور إذا أردت من أحد فعلاً خلقته بخلق أهل ذلك الفعل وجعلت له رتبتهم ، فإذا تقرر في هؤلاء أن الرسول يدعو وأنهم ممن أخذ الله ميثاقهم فكيف يمتنعون من الإيمان .
وقرأ جمهور القراء : «وقد أَخذ » على بناء الفعل للفاعل . وقرأ أبو عمرو : «قد أُخذ » على بناء الفعل للمفعول والآخذ على كل قول هو الله تعالى ، وهو الآخذ حين الإخراج من ظهر آدم على ما مضى في غير هذه السورة{[10953]} ، والمخاطبة ببناء الفعل للمفعول أشد غلظة على المخاطب ، ونحوه قوله تعالى : { فاستقم كما أمرت }{[10954]} [ هود : 112 ] وكما تقول لامرئ : افعل كما قيل لك ، فهو أبلغ من قولك : افعل ما قلت لك .
وقوله : { إن كنتم مؤمنين } قال الطبري المعنى : إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن .
قال القاضي أبو محمد : وهذا معنى ليس في ألفاظ الآية وفيه إضمار كثير ، وإنما المعنى عندي أن قوله : وإن الرسول { يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } ، يقتضي أن يقدر بأثره : فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة إن كنتم مؤمنين ، أي إن دمتم على ما بدأتم به .
ظاهر استعمال أمثال قوله : { وما لكم لا تؤمنون } أن يكون استفهاماً مستعملاً في التوبيخ والتعجيب ، وهو الذي يناسب كون الأمر في قوله : { آمنوا بالله ورسوله } مستعملاً في الطلب لا في الدوام .
وتكون جملة { لا تؤمنون } حالاً من الضمير المستتر في الكون المتعلق به الجار والمجرور كما تقول : ما لك قائماً ؟ بمعنى ما تصنع في حال القيام . والتقدير : وما لكم كافرين بالله ، أي ما حصل لكم في حالة عدم الإيمان .
وجملة { والرسول يدعوكم } حال ثانية ، والواو واو الحال لا العطف ، فهما حالان متداختان . والمعنى : ماذا يمنَعكم من الإيمان وقد بين لكم الرسولُ من آيات القرآن ما فيه بلاغ وحجة على أن الإِيمان بالله حق فلا عذر لكم في عدم الإِيمان بالله فقد جاءتكم بينات حقّيّته فتعين أن إصراركم على عدم الإِيمان مكابرة وعناد .
وعلى هذا الوجه فالميثاق المأخوذ عليهم هو ميثاق من الله ، أي ما يماثل الميثاق من إيداع الإيمان بوجود الله وبوحدانيته في الفطرة البشرية فكأنه ميثاق قد أخذ على كل واحد من الناس في الأزل وشرط التكوين فهو ناموس فطري . وهذا إشارة إلى قوله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } وقد تقدم في سورة الأعراف ( 172 ) .
فضمير { أخذ } عائد إلى اسم الجلالة في قوله : { وما لكم لا تؤمنون بالله } والمعنى : أن النفوس لو خلت من العناد وعن التمويه والتضليل كانت منساقة إلى إدراك وجود الصانع ووحدانيته وقد جاءهم من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ما يكشف عنهم ما غشى على إدراكهم من دعاء أيمة الكفر والضلال .
وجملة { إن كنتم مؤمنين } مستأنفة ، وجواب الشرط محذوف دل عليه قوله : { والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم } .
واسم فاعل في قوله { إن كنتم مؤمنين } مستعمل في المستقبل بقرينة وقوعه في سياق الشرط ، أي فقد حصل ما يقتضي أن تؤمنوا من السبب الظاهر والسبب الخفي المرتكز في الجبلة .
ويرجح هذا المعنى أن ظاهر الأمر في قوله : { آمنوا بالله ورسوله } [ الحديد : 7 ] أنه لطلب إيجاد الإِيمان كما تقدم في تفسيرها وأن الآية مكية .
وقرأ الجمهور { أخذ } بالبناء للفاعل ونصب { ميثاقكم } على أن الضمير عائد إلى اسم الجلالة ، وقرأه أبو عمرو { أُخِذ } بالبناء للنائب ورفع { ميثاقُكم } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.