قوله تعالى : { بل بدا لهم } قوله : { بل } تحته رد لقولهم ، أي : ليس الأمر على ما قالوا إنهم لو ردوا لآمنوا ، بل بدا لهم : ظهر لهم .
قوله تعالى : { ما كانوا يخفون } ، يسرون .
قوله تعالى : { من قبل } ، في الدنيا من كفرهم ومعاصيهم ، وقيل : ما كانوا يخفون ، وهو قولهم { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام :23 ] ، فأخفوا شركهم ، وكتموا حتى شهدت عليهم جوارحهم بما كتموا وستروا ، لأنهم كانوا لا يخفون كفرهم في الدنيا ، إلا أن تجعل الآية في المنافقين ، وقال المبرد : بل بدا لهم جزاء ما كانوا يخفون ، وقال النضر بن شميل : بل بدا لهم بدا عنهم .
قوله تعالى : { ولو ردوا } إلى الدنيا .
قوله تعالى : { لعادوا لما } ، يعني إلى ما .
قوله تعالى : { نهوا عنه } ، من الكفر .
قوله تعالى : { وإنهم لكاذبون } ، في قولهم ، لو ردوا إلى الدنيا لم نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين .
ثم يعقب - سبحانه - على قولتهم هذه فيما لو أجيبوا إلى طلبهم على سبيل الفرض والتقدير فيقول : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
بل هنا للإضراب عما يدل عليه تمنيهم من إدراكهم لقبح الكفر وسوء مغبته ، ولحقيقة الإيمان وحسن عاقبته .
والمعنى : ليس الأمر كما يوهمه كلامهم فى التمنى من أنهم يريدون العودة للهداية ، بل الحق أنهم تمنوا العودة إلى الدنيا بعد أن استقبلتهم النار بلهبها ، وبعد أن ظهر لهم ما كانوا يخفونه فى الدنيا من أعمال قبيحة ، ومن أفعل سيئة ، وبعد أن بدا لهم ما كانوا يذكبون به ، وينكرون تحققه ، ولو أنهم ردوا إلى الدنيا بمتعها وشهواتها وأهوائها لعادوا لما نهوا عنه من التكذيب بالآيات ، والسخرية من المؤمنين ، وإنهم لكاذبون فى كل ما يدعون .
فالآية الكريمة تصور ما طبع عليه هؤلاء الجاحدون من فجور وعناد وافتراء ، لأنهم حتى لو أجيبوا إلى طلبهم - على سبيل الفرض والتقدير - لما تخلوا عن كفرهم ومحاربتهم للأنبياء وللمصلحين .
قال تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } أي : بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة ، وإن أنكروها ، في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال قبل هذا بيسير { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }
ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت{[10628]} به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كما قال تعالى مخبرًا عن موسى أنه قال لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ } الآية [ الإسراء : 102 ] . قال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [ النمل : 14 ] .
ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون للناس الإيمان ويبطنون الكفر ، ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ، ولا ينافي هذا كون هذه [ السورة ]{[10629]} مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت ، فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] ؛ وعلى هذا فيكون إخبارًا عن حال المنافقين في الدار الآخرة ، حين يعاينون العذاب يظهر{[10630]} لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والشقاق والنفاق ، والله أعلم .
وأما معنى الإضراب في قوله : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } فَهُم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة{[10631]} في الإيمان ، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا{[10632]} من النار ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان .
ثم قال مخبرًا عنهم : إنهم لو ردّوا إلى الدار الدنيا ، لعادوا لما نهوا عنه [ من الكفر والمخالفة ]{[10633]} { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في قولهم : { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } إضراب عن قولهم { ولا نكذّب بآيات ربّنا ونكون من المؤمنين } . والمعنى بل لأنّهم لم يبق لهم مطمع في الخلاص .
وبدا الشيء ظهر . ويقال : بدا له الشيء إذا ظهر له عياناً . وهو هنا مجاز في زوال الشكّ في الشيء ، كقول زهير :
بدا ليَ أنّي لستُ مدرك ما مضى *** ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائياً
ولمّا قوبل { بدا لهم } في هذه الآية بقوله : { ما كانوا يخفون } علمنا أنّ البَداء هو ظهور أمر في أنفسهم كانوا يخفونه في الدنيا ، أي خطر لهم حينئذٍ ذلك الخاطر الذي كانوا يخفونه ، أي الذي كان يبدو لهم ، أي يخطر ببالهم وقوعه فلا يُعلنون به فبدا لهم الآن فأعلنوا به وصرّحوا مُعترفين به . ففي الكلام احتباك ، وتقديره : بل بدا لهم ما كان يبدو لهم في الدنيا فأظهروه الآن وكانوا يخفونه . وذلك أنّهم كانوا يخطر لهم الإيمان لما يرون من دلائله أو من نصر المؤمنين فيصدّهم عنه العناد والحرص على استبقاء السيادة والأنفة من الاعتراف بفضل الرسول وبسبق المؤمنين إلى الخيرات قبلهم ، وفيهم ضعفاء القوم وعبيدهم ، كما ذكرناه عند قوله تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي } في هذه السورة [ 52 ] ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : { ربما يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين } في سورة [ الحجر : 2 ] . وهذا التفسير يغني عن الاحتمالات التي تحيّر فيها المفسّرون وهي لا تلائم نظم الآية ، فبعضها يساعده صدرُها وبعضها يساعدُه عجزها وليس فيها ما يساعده جميعها .
وقوله : { ولو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه } ارتقاء في إبطال قولهم حتى يكون بمنزلة التسليم الجدلي في المناظرة ، أي لو أجيبت أمنيتهم وردّوا إلى الدنيا لعادوا للأمر الذي كان النبي ينهاهم عنه ، وهو التكذيب وإنكار البعث ، وذلك لأنّ نفوسهم التي كذّبت فيما مضى تكذيب مكابرة بعد إتيان الآيات البيّنات ، هي النفوس التي أرجعت إليهم يوم البعث فالعقل العقل والتفكير التفكير ، وإنّما تمنّوا ما تمنّوا من شدّة الهول فتوهّموا التخلّص منه بهذا التمنِّي فلو تحقّق تمنّيهم وردّوا واستراحوا من ذلك الهول لغلبت أهواؤهم رشدَهم فنسوا ما حلّ بهم ورجعوا إلى ما ألفوا من التكذيب والمكابرة .
وفي هذا دليل على أنّ الخواطر الناشئة عن عوامل الحسّ دون النظر والدليل لا قرار لها في النفس ولا تسير على مقتضاها إلاّ ريثما يدوم ذلك الإحساس فإذا زال زال أثره ، فالانفعال به يشبه انفعال العجماوات من الزّجر والسّوط ونحوهما . ويزول بزواله حتّى يعاوده مثلُه .
وقوله : { وإنّهم لكاذبون } تذييل لما قبله . جيء بالجملة الاسمية الدالّة على الدوام والثبات ، أي أنّ الكذب سجيّة لهم قد تطبّعوا عليها من الدنيا فلا عجب أن يتمنّوا الرجوع ليؤمنوا فلو رجعوا لعادوا لما كانوا عليه فإنّ الكذب سجيّتهم . وقد تضمّن تمنِّيهم وعدا ، فلذلك صحّ إدخاله في حكم كذبهم دخول الخاصّ في العامّ ، لأنّ التذييل يؤذن بشمول ما ذيّل به وزيادة . فليس وصفهم بالكذب بعائد إلى التمنّي بل إلى ما تضمّنه من الوعد بالإيمان وعدم التكذيب بآيات الله .