محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (28)

[ 28 ] { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ( 28 ) } .

{ بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } إضراب عما يدل عليه تمنيهم الباطل من الوعد ، بالتصديق والإيمان ، أي : ليس ذلك عن عزم صحيح ، وخلوص اعتقاد ، بل هو بسبب آخر ، وهو أنه ظهر لهم ما كانوا يكتمون في أنفسهم من الكفر والشرك ، بقولهم : { والله ربنا ما كنا مشركين } ، وعرفوا أنهم هالكون بشركهم ، فتمنوا لذلك ، / أو بشهادة جوارحهم عليهم ، أو ما كانوا يكتمون في أنفسهم في الدنيا من صدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كقوله تعالى مخبرا عن موسى أنه قال لفرعون : { قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر . . . } {[3399]} – وقوله تعالى{[3400]} مخبرا عن فرعون وقومه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا } . أو هذه الآية إخبار عن حال المنافقين ، وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه . ولا ينافي هذا كون السورة مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ، ومن حولها من الأعراب بعد الهجرة . لأن الله تعالى ذكر وقوع النفاق في سورة مكية وهي ( العنكبوت ) فقال : { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين }{[3401]} . هذا ما ذكروه مما يمكن تنزيل اللفظ الكريم عليه لعمومه . وقد ناقش في ذلك كله العلامة أبو السعود ، واعتمد أن المراد ب ( ما كانوا يخفونه في الدنيا ) النار التي وقفوا عليها ، إذ هي التي سيق الكلام لتهويل أمرها ، والتعجيب من فظاعة حال الموقوفين عليها ، و ( بإخفائها ) تكذيبهم بها ، فإن التكذيب بالشيء كفر به ، وإخفاء له محالة . وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون }{[3402]} وقوله تعالى : { هذه النار التي كنتم بها تكذبون }{[3403]} . مع كونه أنسب بما قبله من قولهم : / { ولا نكذب بآيات ربنا }{[3404]} لمراعاة ما في مقابلته من البدو . هذا هو الذي تستدعيه جزالة النظم الكريم .

ثم قال في الوجوه المتقدمة : إنه بعد الإغضاء عما في كل منها من الاعتساف والاختلال ، لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلا ، لما عرفت من أن سوق النظم الشريف لتهويل أمر النار ، وتفظيع حال أهلها ، وقد ذكر وقوفهم عليها ، وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف . ورتب عليه تمنيهم المذكور ب ( الفاء ) القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها ، فإسقاط النار بعد ذلك من تلك السببية ، وهي نفسها أدهى الدواهي ، وأزجر الزواجر ، وإسنادها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر ، مع عدم جريان ذكرها ، ثمت- أمر يجب تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله . وأما ما قيل من أن المراد جزاء ما كانوا يخفون ، فمن قبيل دخول البيوت من ظهورها ، وأبوابها مفتوحة . فتأمل .

أقول : لا ريب في بلاغة ما قرره ونفاسته ، لولا تكلفه حمل الإخفاء على ما ذكره ، مما هو غير ظاهر فيه ، وليس له نظائر في التنزيل الكريم . فمجازيته حينئذ من قبيل المعمى . وفي الوجوه الأول إبقاؤه على حقيقته بلا تكلف ، وشموله لها- غير بعيد . لأن في كل منها ما يؤيده ، كما بيناه . غاية الأمر أن ما قرره وجه منها بديع . وأما كونه المراد لا غير ، فدونه خرط القتاد – والله أعلم بأسرار كتابه- .

{ ولو ردوا } أي عن موقفهم ذلك إلى الدنيا كما تمنوه ، وغاب عنهم ما شهدوه من الأهوال { لعادوا لما نهوا عنه } من الكفر والشرك { وإنهم لكاذبون } في وعدهم بالإيمان ، أو ديدنهم الكذب في أحوالهم .


[3399]:- [17/ الإسراء/ 102] {... وإني لأظنك يا فرعون مثبورا(102)}.
[3400]:- [27/ النمل/ 14] {... فانظر كيف كان عاقبة المفسدين (14)}.
[3401]:- [29/ العنكبوت/ 11].
[3402]:- [55/ الرحمن/ 43].
[3403]:- [52/ الطور/ 14].
[3404]:- [6/ الأنعام/ 27] ونصها: {ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين (27)}.