إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (28)

{ بَلْ بَدَا لَهُمْ ما كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } إضرابٌ عما يُنْبئ عنه التمني من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزيمة صادقةٍ ناشئة عن رغبةٍ في الإيمان وسَوْقٍ إلى تحصيله والاتصافِ به بل لأنه ظهرَ لهم في موقفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من الداهيةِ الدهياء وظنوا أنهم مُواقِعوها فلِخَوْفها وهول مطلعها قالوا ما قالوا والمراد بها النارُ التي وُقفوا عليها إذ هي التي سيق الكلامُ لتهويل أمرها والتعجبِ من فظاعة حالِ الموقوفين عليها وبإخفائها تكذيبُهم بها ، فإن التكذيبَ بالشيء كفر به وإخفاءٌ له لا محالة وإيثاره على صريح التكذيب الوارد في قوله عز وجل : { هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذّبُ بِهَا المجرمون } [ الرحمان ، الآية 43 ] وقوله تعالى : { هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ } [ الطور ، الآية 14 ] مع كونه أنسبَ بما قبله من قولهم : { وَلاَ نُكَذّبَ بآيات رَبّنَا } [ الأنعام ، الآية 27 ] لمراعاة ما في مقابلته من البُدُوّ ، هذا هو الذي تستدعيه جزالةُ النظم الكريم ، وأما ما قيل من أن المراد بما يُخفون كفرُهم ومعاصيهم أو قبائحُهم وفضائحُهم التي كانوا يكتُمونها من الناس فتظهرُ في صُحُفهم وبشهادة جوارحِهم عليهم أو شركِهم الذي يجحدون به في بعض مواقف القيامة بقولهم : { والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام ، الآية 23 ] ثم يظهر بما ذُكر من شهادة الجوارحِ عليهم أو ما أخفاه رؤساءُ الكفرة عن أتباعهم من أمر البعث والنشور أو ما كتمه علماءُ أهل الكتابين من صحة نبوةِ النبي عليه الصلاة والسلام ونُعوته الشريفة عن عوامِّهم ، على أن الضميرَ المجرورَ للعوام والمرفوعَ للخواص ، أو كفرُهم الذي أخفَوْه عن المؤمنين والضميرُ المجرور للمؤمنين والمرفوعُ للمنافقين ، فبعدَ الإغضاءِ عما في كلٍّ منها من الاعتساف والاختلال لا سبيل إلى شيء من ذلك أصلاً لما عرفت من أن سَوْق النظم الشريف لتهويل أمر النار وتفظيعِ حال أهلها وقد ذُكر وقوفُهم عليها وأُشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحَيْرة والدهشة ما لا يُحيط به الوصفُ ، ورُتّب عليه تمنِّيهم المذكورُ بالفاء القاضيةِ بسببية ما قبلها لما بعدها ، فإسقاطُ النار بعد ذلك من تلك السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجرُ الزواجر ، وإسنادُها إلى شيء من الأمور المذكورة التي دونها في الهول والزجر مع عدم جَرَيانِ ذكرها ثَمةَ أمرٌ يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله ، وأما ما قيل من أن المراد جزاءُ ما كانوا يُخفون فمن قبيل دخولِ البيوت من ظهورِها وأبوابُها مفتوحة فتأمل . { وَلَوْ رُدُّوا } أي من موقفهم ذلك إلى الدنيا حسبما تمنَّوْه وغاب عنهم ما شاهدوه من الأهوال { لعادوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } من فنون القبائح التي من جملتها التكذيبُ المذكورُ ونسُوا ما عاينوه بالكلية لاقتصار أنظارِهم على الشاهدِ دون الغائب { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } أي لقومٌ ديدَنُهم الكذِبُ في كل ما يأتون وما يذرون { وَقَالُوا } عطفٌ على ( عادوا ) داخلٌ في حيز الجواب ، وتوسيطُ قولِه تعالى : { وَإِنَّهُمْ لكاذبون } بينهما لأنه اعتراضٌ مَسوقٌ لتقرير ما أفاده الشرطيةُ من كذبهم المخصوصِ ، ولو أُخِّر لأَوْهم أن المراد تكذيبُهم في إنكارهم البعثَ . والمعنى لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نُهوا عنه .