تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (28)

الآية 28 وقوله تعالى : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } قيل فيه بوجوه : قال بعضهم : قوله تعالى : { ومنهم من يستمع إليك } [ الأنعام : 25 ] إنها نزلت في المنافقين . يدل على ذلك قوله تعالى : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون/146-أن قبل } وهو سمة{[6990]} أهل النفاق : أنهم يظهرون الموافقة للمؤمنين ، ويضمرون الخلاف ، ويخفون العداوة لهم .

ويحتمل قوله تعالى : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وذلك أنهم حين قالوا : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] وقوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] أي حبسوا ؛ إذ الوقوف حبس ، ولو وقف : حبس ، والنار لا يوقف عليها ، بل يكون فيها كما قال عز وجل : { ولهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [ الزمر : 16 ] وقال : { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } [ الأعراف : 41 ] .

ويحتمل الوقف عندها قبل الدخول في حال الحساب{[6991]} للمساءلة كقوله تعالى : { احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } الآية [ الصافات : 22 ] ، وكقوله تعالى : { ولو ترى } أي لو ترى ذلهم وخضوعهم ، وكقوله تعالى : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم } [ السجدة : 12 ] .

ولم يبين جواب لو . وقد يترك جواب لو لما يعلم : ربما يعلم بالتأمل أو بالذكر كقوله تعالى : { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } [ النور : 12 ] بمعنى ظننتم أو على ما ذكر في موضع آخر نحو قوله تعالى { قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا } [ النور : 16 ] وكذلك قوله تعالى : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم } [ النور : 10 ] إنما يجيب ل : لو وغير ذلك . فلعل معناه : لو ترى ذلهم بعد استكبارهم لرحمتهم على ما هو عليه ، ولهان عليك التصبر لأذاهم ، ولأشفقت عليهم .

ويحتمل قوله تعالى : { ولو ترى } ما ينزل بهم من نقمة الله ، ويحل بهم من عذابه لعلمت أن القوة لله جميعا وأنه بحلمه{[6992]} ورحمته يملي لهم ، وتسترجعه كقوله تعالى : { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا } [ البقرة : 165 ] ويحتمل أن يكون جوابه في ما ذكر من تمنيهم العود وندامتهم على ما سلف منهم وشدة تلهفهم على صنيعهم لرأيت ذلك كافيا وجزءا بالغا [ لما يكون ما ] ينزل بهم أعظم عندك مما تلقى منهم .

وقد يخرج الخطاب لرسول الله على تضمن تنبيه كل مميز وتذكير كل متأمل ، والله أعلم .

[ قوله تعالى ]{[6993]} : { يا ليتنا نرد } قيل : إلى الدنيا ، وقيل : إلى المحنة من حيث لا يحتمل كون الدنيا بعد كون الآخرة . لكن هذا تكلف تحقيق مراد قوم ظهر سفههم . ولعله ليس عندهم هذا التمييز ، أو يقولون سفها كما قالوا كذبا بقوله : { وإنهم لكاذبون } .

[ وقوله ]{[6994]} عز وجل { بآيات ربنا } [ قال الحسن : بدين ربنا ]{[6995]} . وقال قوم : بحجج ربنا ، فيكون في الآية اعتراف أنهم على التعنت كذبوا في الأول لا على الجهل . وإن كان ثم آيات عاندوها ، وهم قوم قد سبق من الله الخبر عنهم مما فيه العناد منهم كقوله تعالى : { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] وذلك يدل على تعنتهم في القول ليتخلصوا{[6996]} مما بلوا بجميع ما يحتمل وسعهم ، لا أن ذلك كذلك في قلوبهم . لذلك ، والله أعلم ، قال الله تعالى : { وإنهم لكاذبون } .

ثم دل قوله تعالى : { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } [ على أمرين :

الأول : ]{[6997]} أنهم قد عرفوا أن الإيمان هو التصديق .

والثاني : أنهم ذكروا الآيات ، والآيات يكذب بها ، ويصدق ، لا أن يعمل .

وبعد فإن الذي في حد إمكان لإتيان مما فات هو التصديق ؛ إذ الغير لو توهم الأمر لوجد{[6998]} ما سبق من الترك . والتصديق لو أمر فهو لما سبق من التكذيب على أنه أجمع ألا يؤمر من آمن بقضاء مما فات ، فثبت أنهم أرادوا به التصديق . وفيه أنه اسم لذلك حتى عرفه أهله وغير أهله معرفة واحدة ، والله أعلم .

[ وقوله تعالى ]{[6999]} { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } يخرج على وجوه :

أحدها : على أن الآية في أهل النفاق تظهر{[7000]} ما قد أضمروا من الكفر .

والثاني : أن تكون الآية في رؤساء الكفرة العلماء بالبعث وبأن الرسل يكونون{[7001]} من البشر .

[ والثالث ]{[7002]} : أن لا شريك لله ؛ فبدا للأتباع{[7003]} ما كان الرؤساء يخفون في الدنيا ، ويحتمل : وبدا لهم من صنيعهم ما قد أسروه ، وأضمروه في أنفسهم ؛ ظنوا ألا يطلع على ذلك أحد ، وذلك في قوله تعالى : { يوم تبلى السرائر } [ الطارق : 9 ] وقوله تعالى : { وحصل ما في الصدور } [ العاديات : 10 ] وغير ذلك ، ويحتمل : ما كانوا يخفون من الخلق أو بدا لهم ذلك بالجزاء .

[ وقوله تعالى ]{[7004]} : { ولو ردوا } أي إلى ما تمنوا أن يردوا إليه { لعادوا لما نهوا عنه } أخبر الله عن علمه بما قد أسروه في ذلك الوقت أن ما كان في علمه أن يكون ، وإن كان من حكمه ، ألا يردوا في ذلك [ أن ]{[7005]} الآية لا تضطر صاحبها ، ولا قولة إلا بالله .

وقال قوم : إن الخلود يلزم في النار بما هم في علم الله أنهم يلزمون ما هم عليه لو مكثوا للأبد . وقال قوم : إذا لم يجز لزوم العذاب بما لم يعلم الله من العناد من أحد لو امتحن بلا محنة ولا خلاف . فعلى ذاك أمر الخلاف لكن الآية في خاص منهم ، وهم الذين اعتدوا ، وعاندوا{[7006]} الحق بعد الوضوح على ما ذكر في كثير من الكفرة أنهم لا يؤمنون أبدا . ثم أمهلهم على ذلك . وهذا يبين أن ليس تمنع الإعادة لما يعودون له لو كان تحتل في الحكمة الإعادة ؛ إذ قد أمهل ، وأبقى على العلم بذلك . فعلى ذلك الإعادة . لكنه أخبر عن تعنتهم .

ثم ظنت المعتزلة أن الله لو علم أنهم لا يؤمنون لردهم إلى ذلك ، إذ بين أنهم لا يؤمنون ، فيستدلون بهذا أن ليس لله قبض روح يعلم أنه لو لم يقبضه يؤمن يوما من الدهر . وقد بينا نحن أن ذلك لا يوجب ، إن كان أولئك في علم ، أن يعودوا إلى ذلك بما قد يترك في الدنيا من يعلم انه يلزم الكفر ، وينجي من المهالك من يعلم أنه يعود . ثم قد يترك من يعود إلى الكفر على وجود ما به النجاة عنه ، والله أعلم .

وبعد فإن الله تعالى قال : { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } [ الشورى : 27 ] فبين أنه لا{[7007]} يبسط لئلا يبغوا ، وقال : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن } الآية [ الزخرف : 33 ] .

ثم قد جعل [ البسط ]{[7008]} لكثير ممن ضل بهم قوم نحو الفراعنة ولكثير منهم ، وقد بغوا في الأرض إذ [ لو ]{[7009]} لم يكن البسط لفرعون لم يكن ليدعي الإلهية . لكن الأول طريق الفضل يفضل به ، والثاني طريق العدل وما يجوز في الحكمة . فعلى ذلك الإمهال ؛ يبين ذلك ما كان الله يأمر بقتل من لعله يؤمن لو أمهل بما ندب إلى القتال . ولا يحتمل أن يأمر في قتل من ليس له قبض روحه ، وقد يبقي من به يهلك ، ويضل ، وإن قبض كثيرا منهم بما يضل به ، لو بقي ، كما قال : { فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا } [ الكهف : 80 ] والله أعلم .

وظنت الخوارج بهذه الآية أن كل من يرتكب كبيرة يظهر منه كذبه في ما وعد أنه لا يفعل ؛ إذ الله سماهم كذبة بما في علمه أنهم يعودون إلى ذلك .

فإذا تقرر عندنا من أحد نكوث{[7010]} ما كان في عهده وإيمانه أنه يرتكب [ ما ]{[7011]} يظهر به كذبه ، فذلك خطأ لما لو كان كذلك لكان الصغائر والكبائر واحدة{[7012]} . ومن كذب في أمر الكبائر في العهد ، أو [ رده ، يكفر ]{[7013]} ، ومن ارتكب الصغيرة لم يصر كذلك{[7014]} .

لكن الآية تخرج على وجوه :

أحدها : أنها في قوم أرادوا بذلك دفع العذاب لا أن عزموا على ما ذكروا . دليله فتنتهم بقوله تعالى : { والله ربنا ما كنا مشركين } .

والثاني : أنه ذكر كذبهم ؛ انطلق الله جوارحهم ، فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك ، فتمنوا عند ذلك العود والرد .

والثالث{[7015]} : { بدا لهم } ظهر لهم { ما كانوا يخفون } من بعث{[7016]} محمد وصفته صلى الله عليه وسلم في الدنيا ، وكتموه ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون } تعلق بظاهر هذه الآية الخوارج والمعتزلة .

أما المعتزلة فإنهم قالوا : إنهم لما طلبوا الرد لم يردهم لما علم أنهم لو { ردوا لعادوا } إلى التكذيب ثانيا . ولو علم منهم أنهم لا يعودون لكان لا يردهم . فدل أنه إنما لم يردهم لما علم منهم أنهم يعودون إلى ما كانوا من قبل . فيستدلون بظاهر هذه الآية على أن الله لا يفعل بالعبيد{[7017]} إلا الأصلح / 146-ب/ لهم في الدين . وقالوا : لو علم منهم الإيمان لكان لا يجوز له ألا يردهم . ومن قولهم : إنه إذا علم من كافر أنه يؤمن في آخر عمره لم يجز له أن يميته ، وغير ذلك من المخاييل والأباطيل .

وقالت الخوارج : أخبر أنه لو ردهم { لعادوا لما نهوا عنه } وسماهم بالقول كاذبين لما في علمه أنم لا يفعلون بما يقولون . فعلى ذلك كل صاحب كبيرة إذا كان في اعتقاده الذي أظهره أنه لا يأتي بها ، فإذا أتى بها يصير في ما اعتقده كاذبا . ولذلك يجعلون أصحاب الكبائر كذبة في القول الأول : إنهم لا يأتون بها . وعلى ذلك المبايعة بقوله : { يبايعنك على أن لا يشركن بالله } الآية [ الممتحنة : 12 ] فإذا سرقن صرن كاذبات في البيعة كما جعل من ذكر كاذبا في الوعد إذا أخلف . وعلى ذلك يجعلونه كافرا .

وقوله تعالى : { وإنهم لكاذبون } يحتمل { لكاذبون } أي ليكذبون لو ردوا ، أو { وإنهم لكاذبون } يحتمل { لكاذبون } في قولهم ، ويكونون من المؤمنين ؛ أي يضمرون أنهم لا يؤمنون كقوله تعالى : { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله } إلى قوله : { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [ المنافقون : 1 ] يقولون { إنك لرسول الله } لكنهم لما أضمروا خلاف ذلك في قلوبهم سماهم كاذبين . فعلى ذلك هؤلاء لما أضمروا في أنفسهم التكذيب ، وإن ردوا ، فهم كاذبون في ذلك .

وقوله تعالى : { ولو ردوا } [ فيه وجوه :

أحدها : ]{[7018]} قيل : إلى الدنيا ، ولكن ردوا إلى المحنة ثانيا { لعادوا لما نهوا عنه } .

والثاني : أنه ذكر كذبهم بما اعتادوا العناد ، وظهر منهم الجحود في القديم . فبذلك سماهم كذبة كما سمى أهل النار كفرة بما كان من كفرهم قبل أن يصيروا إليها . فعلى ذلك هذا .

والثالث : أن يكون على الخبر عن عاقبتهم أنهم يصيرون كاذبين لو ردوا ، وعرض عليهم ذلك ، وبعث إليهم{[7019]} الرسل بالآيات لا أن يكذبوا في ذلك الوعد .


[6990]:-من م، في الأصل: سمته.
[6991]:- من م، في الأصل: الحسنات.
[6992]:- في الأصل وم: بحمله.
[6993]:-من ساقطة من الأصل.
[6994]:- ساقطة من الأصل وم.
[6995]:- من م، ساقطة من الأصل.
[6996]:- من م، في الأصل: ليستخلصوا.
[6997]:- ساقطة من الأصل و م.
[6998]:- في الأصل و م: ليوجد.
[6999]:- من م ، ساقطة من الأصل
[7000]:- في الأصل وم: ظهر.
[7001]:- في الأصل وم: تكون.
[7002]:- في الأصل وم: و.
[7003]:- من م، في الأصل: لأتباع.
[7004]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7005]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7006]:- في الأصل: وعندوا.
[7007]:- في الأصل وم: لو.
[7008]:-ساقطة من الأصل وم.
[7009]:- من م، ساقطة من الأصل.
[7010]:-في الأصل وم: ركوب.
[7011]:- ساقطة من الأصل وم.
[7012]:- في الأصل وم: واحدا.
[7013]:- في الأصل: رد، ويكفر، في م: رد، يكفر.
[7014]:- أدرج بعدها في الأصل وم العبارة التالية: فعلى ذلك الكبائر.
[7015]:-في الأصل وم: يحتمل.
[7016]:- في الأصل وم: نعت.
[7017]:- في الأصل وم: العبد.
[7018]:- ساقطة من الأصل وم.
[7019]:- في الأصل وم: عليهم.