مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{بَلۡ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخۡفُونَ مِن قَبۡلُۖ وَلَوۡ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنۡهُ وَإِنَّهُمۡ لَكَٰذِبُونَ} (28)

ثم قال تعالى : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : معنى { بل } هاهنا رد كلامهم ، والتقدير : أنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا ، وترك التكذيب ، وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان ، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه وعاينوه . وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه ، لكونه إيمانا وطاعة ، فأما الرغبة فيه لطلب الثواب ، والخوف من العقاب فغير مفيد .

المسألة الثانية : المراد من الآية : أنه ظهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا . وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه : الأول : قال أبو روق : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون { والله ربنا ما كنا مشركين } فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر ، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل . قال الواحدي : وعلى هذا القول أهل التفسير . الثاني : قال المبرد : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها ، وذلك لأن كفرهم ما كان باديا ظاهرا لهم ، لأن مضار كفرهم كانت خفية ، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال الله تعالى : { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } الثالث : قال الزجاج : بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور . قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } وهذا قول الحسن . الرابع : قال بعضهم : هذه الآية في المنافقين ، وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام ، وبدا لهم يوم القيامة ، وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين . الخامس : قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به ، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك .

واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة . والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانتهكت أستارهم . وهو معنى قوله تعالى : { يوم تبلى السرائر } .

ثم قال تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان ، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر التكذيب .

فإن قيل : إن أهل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة ، وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم الله تعالى إلى الدنيا فمع هذه الأحوال كيف يمكن أن يقال : إنهم يعودون إلى الكفر بالله وإلى معصية الله .

قلنا : قال القاضي : تقرير الآية { ولو ردوا } إلى حالة التكليف ، وإنما يحصل الرد إلى هذه الحالة لو لم يحصل في القيامة معرفة الله بالضرورة ، ولم يحصل هناك مشاهدة الأهوال وعذاب جهنم ، فهذا الشرط يكون مضمرا لا محالة في الآية ، إلا أنا نقول هذا الجواب ضعيف ، لأن المقصود من الآية بيان غلوهم في الإصرار على الكفر وعدم الرغبة في الإيمان ، ولو قدرنا عدم معرفة الله تعالى في القيامة ، وعدم مشاهدة أهوال القيامة لم يكن في إصرار القوم على كفرهم الأول مزيد تعجب ، لأن إصرارهم على الكفر يجري مجرى إصرار سائر الكفار على الكفر في الدنيا ، فعلمنا أن الشرط الذي ذكره القاضي لا يمكن اعتباره البتة .

إذا عرفت هذا فنقول : قال الواحدي : هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فساد قول المعتزلة ، وذلك لأن الله تعالى أخبر عن قوم جرى عليهم قضاؤه في الأزل بالشرك . ثم إنه تعالى بين أنهم لو شاهدوا النار والعذاب ، ثم سألوا الرجعة وردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ، وذلك القضاء السابق فيهم ، وإلا فالعاقل لا يرتاب فيما شاهد ، ثم قال تعالى : { وإنهم لكاذبون } وفيه سؤال وهو أن يقال : إنه لم يتقدم ذكر خبر حتى يصرف هذا التكذيب إليه .

والجواب : أنا بينا أن منهم من قال الداخل في التمني هو مجرد قوله { يا ليتنا نرد } أما الباقي فهو إخبار ، ومنهم من قال بل الكل داخل في التمني ، لأن إدخال التكذيب في التمني أيضا جائز ، لأن التمني يدل على الاخبار على سبيل الضمن والصيرورة ، كقول القائل ليت زيدا جاءنا فكنا نأكل ونشرب ونتحدث فكذا هاهنا . والله أعلم .