قوله تعالى : { لا جرم } حقاً ، { أن ما تدعونني إليه } أي : إلى الوثن ، { ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة } قال السدي : لا يستجيب لأحد في الدنيا ، ولا في الآخرة ، يعني ليست له استجابة دعوة . وقيل : ليست له دعوة إلى عبادته في الدنيا لأن الأوثان لا تدعي الربوبية ، ولا تدعو إلى عبادتها ، وفي الآخرة تتبرأ من عابديها . { وأن مردنا إلى الله } مرجعنا إلى الله فيجازي كلاً بما يستحقه ، { وأن المسرفين } المشركين { هم أصحاب النار * }
ثم يؤكد لهم بصورة لا تقبل الشك أو التردد أنما يطلبونه منه هو الباطل وأن ما يطلبه منهم هو الحق فيقول : { لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة . . }
وجرم : فعل ماض بمعنى حق وثبت ووجب . وقد وردت هذه الكلمة فى القرآن فى خمسة مواضع ، وفى كل موضع جاءت متلوة بأنّ واسمها .
وجمهورالنحاة على أنها مركبة من " لا " و " جرم " تركيب خمسة عشر . ومعناها بعد هذا التركيب معنى الفعل حق وثبت ، والجملة بعدها هى الفاعل لهذا الفعل . .
ومن النحاة من يرى أن " لا " نافية للجنس ، و " جرم " اسمها ، وما بعدها خبرها .
أى : حق وثبت لدى بما لا يقبل الشك ، أن آلهتكم التى تدعوننى لعبادتها آلهة باطلة ، لا وزن لها ولا قيمة لا فى الدنيا ولا فى الآخرة . .
{ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ } جميعا { إِلَى الله } - تعالى - وحده { وَأَنَّ المسرفين } أى : المستكثرين من المعاصى فى الدنيا { هُمْ أَصْحَابُ النار } فى الآخرة .
{ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } يقول : حقا .
قال السدي وابن جرير : معنى قوله : { لا جَرَمَ } حقا .
وقال الضحاك : { لا جَرَمَ } لا كذب .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { لا جَرَمَ } يقول : بلى ، إن الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ }
وقال قتادة : يعني الوثن لا ينفع ولا يضر .
وقال السدي : لا يجيب داعيه ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وهذا كقوله تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ . وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5 ، 6 ] ، { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] .
وقوله : { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ } أي : في الدار الآخرة ، فيجازي كلا بعمله ؛ ولهذا قال : { وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ } أي : خالدين فيها بإسرافهم ، وهو شركهم بالله .
{ لا جرم } لا رد لما دعوه إليه ، و{ جرم } فعل بمعنى حق وفاعله : { أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة } أي حق عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا لأنها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيتها أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابة دعوة لها . وقيل { جرم } بمعنى كسب وفاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته ، وقيل فعل من الجرم بمعنى القطع كما إن بدا من لا بد فعل من التبديد وهو التفريق ، والمعنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فتنقلب حقا ، ويؤيده قولهم لا جرم إنه لغة فيه كالرشد والرشد . { وأن مردنا إلى الله } بالموت . { وأن المسرفين } في الضلالة والطغيان كالإشراك وسفك الدماء . { هم أصحاب النار } ملازموها .
و : { لا جرم } مذهب سيبويه والخليل أنها { لا } النافية دخلت على { جرم } ، ومعنى : { جرم } ثبت ووجب ، ومن ذلك جرم بمعنى كسب ، ومنه قول الشاعر [ أبو اسماء بن الضريبة ] : [ الكامل ]
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة . . . جرمت فزارة بعدها من أن يغضبوا{[10005]}
أي أوجبت لهم ذلك وثبتته لهم ، فكأنه الكلام نفي للكلام المردود عليه ب { لا } ، وإثبات للمستأنف ب { جرم } و «أن » على هذا النظر في موضع رفع ب { جرم } ، وكذلك { أن } الثانية والثالثة ، ومذهب جماعة من أهل اللسان أن { لا جرم } بمعنى لا بد ولا محالة ف { أن } على هذا النظر في موضع نصب بإسقاط حرف الجر ، أي لا محالة بأن ما . و «ما » بمعنى الذي واقعة على الأصنام وما عبدوه من دون الله .
وقوله : { ليس له دعوة } أي قدر وحق يجب أن يدعى أحد إليه ، فكأنه تدعونني إلى ما لا غناء له وبين أيدينا خطب جليل من الرد إلى الله . وأهل الإسراف والشرك . هم أصحاب النار بالخلود فيها والملازمة ، أي فكيف أطيعكم مع هذه الأمور الحقائق ، في طاعتكم رفض العمل بحسبها والخوف . قال ابن مسعود ومجاهد : المسرفون : سفاكو الدماء بغير حلها{[10006]} . وقال قتادة : هم المشركون .