روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدۡعُونَنِيٓ إِلَيۡهِ لَيۡسَ لَهُۥ دَعۡوَةٞ فِي ٱلدُّنۡيَا وَلَا فِي ٱلۡأٓخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى ٱللَّهِ وَأَنَّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ هُمۡ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ} (43)

{ لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِى الدنيا وَلاَ فِى الآخرة } سياقه على مذهب البصريين ان { لا } رد لكلام سابق وهو ما يدعونه إليه ههنا من الكفر بالله سبحانه وشرك الآلهة الباطلة عز وجل به و دجرم } فعل ماض بمعنى ثبت وحق كما في قوله

: ولقد طعنت أبا عبيدة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

وأن ما في حيزها فاعله أي ثبت وحق عدم دعوة للذي تدعونني إليه من الأصنام إلى نفسه أصلاً يعني ان من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد المكرمين كالأنبياء والملائكة إلى نفسه ويأمرهم بعبادته ثم يدعو العباد بعضهم بعضاً إليه تعالى وإلى طاعته سبحانه اظهاراً لدعوة ربهم عز وجل وما تدعون إليه وإلى عبادته من الأصنام لا يدعو هو إلى ذلك ولا يدعى الربوبية أصلاً لا في الدنيا لأنه جماد فيها لا يستطيع شيئاً من دعاء وغيره ولا في الآخرة لأنه إذا انشأه الله تعالى فيها حيواناً تبرأ من الدعاة إليه ومن عبدته وحاصله حق إن ليس لآلهتكم دعوة أصلاً فليست بالهة حقة أو بمعنى كسب وفاعله ضمير الدعاء السابق الذي دعاه قومه وان مع ما في حيزها مفعوله أي كسب دعاؤكم إياي إلى آلهتكم أن لا دعوة لها أي ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوتها وذهابها ضياعاً ، وقيل : { جَرَمَ } اسم لا وهو مصدر مبني على الفتح بمعنى القطع والخبر أن مع ما في حيزها على معنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع ذلك البطلان في وقت من الأوقات فينقلب حقاً ، وهذا البطلان هو معنى النفي الذي يفهم من قوله تعالى : { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ } الخ ، و { لاَ جَرَمَ } على هذا مثل لا بد فإنه من التبديد وهو التفريق وانقطاع بعض الشيء من بعض ، ومن ثم قيل : المعنى لا بد من بطلان دعوة الأصنام أي بطلانها أمر ظاهر مقرر ، ونقل هذا القول عن الفراء ، وعنه ان ذلك هو أصل { لاَ جَرَمَ } لكنه كثر استعماله حتى صار بمعنى حقاً فلهذا يجاب بما يجاب به القسم في مثل لا جرم لآتينك . وفي الكشاف وروي عن العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء أي لا بد وفعل وفعل إخوان كرشد ورشد وعدم وعدم ، وهذه للغة تؤيد القول بالاسمية في اللغة الأخرى ولا تعينها كما لا يخفى ، وقد تقدم شيء من الكلام في لا جرم أيضاً فليتذكر .

ولام له في جميع هذه الأوجه لنسبة الدعوة إلى الفاعل على ما سمعت من المعنى ، وجوز أن يكون لنسبتها لي المفعول فإن الكفار كانوا يدعون آلهتهم فنفي في الآية دعاءهم إياها على معنى نفي الاستجابة منها لدعائهم إياها ، فالمعنى ان ما تدعونني إليه من الأصنام ليس له استجابة دعوة لمن يدعوه أصلاً أو ليس له دعوة مستجابة أي لا يدعي دعاء يستجيبه لداعيه .

فالكلام اما على حذف الماضف أو على حذف الموصوف ، وجوز التجوز فيه للدعوة عن استجابتها التي تترتب عليها ، وهذا كما سمي الفعل المجازي عليه باسم الجزاء في قولهم : كما تدين تدان هو من باب المشاكلة عند بعض { وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله } أي مرجعنا إليه تعالى بالموت ، وهذا عطف على { أن ما تَدْعُونَنِى } داخل في حكمه وكذا قوله تعالى : { وَأَنَّ المسرفين هُمْ أصحاب النار } وفسر ابن مسعود . ومجاهد . { المسرفين } هنا بالسفاكين للدماء بغير حلها فيكون المؤمن قد ختم تعريضاً بما أفتتح به تصريحاً في قوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً } [ غافر : 28 ]

وعن قتادة أنهم المشركون فإن الاشراك اسراف في الضلالة ، وعن عكرمة أنهم الجبارون المتكبرون ، وقيل : كل غلب شره خيره فهو مسرف والمراد بأصحاب النار ملازموها ، فإن أريد بالمسرفين ما يدخل فيه المؤمن أريد بالملازمة العرفية الشاملة للمكث الطويل ، وإن أريد بهم ما يخص الكفرة فهي بمعنى الخلود .