قوله تعالى : { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه } أدخل ذلك الماء { ينابيع } ، عيوناً وركايا . { في الأرض } قال الشعبي : كل ماء في الأرض فمن السماء نزل . { ثم يخرج به } بالماء . { زرعاً مختلفاً ألوانه } أحمر وأصفر وأخضر . { ثم يهيج } ييبس { فتراه } بعد خضرته ونضرته { مصفراً ثم يجعله حطاماً } فتاتاً متكسراً . { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } .
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لسرعة زوال الحياة الدنيا ، وقرب اضمحلال بهجتها . كما بين حال من شرح الله صدره للإِسلام فقال - تعالى - :
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ . . . } .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً . . . } للتقرير .
والينابيع : جمع ينبوع ، وهو المنبع أو المجرى الذى يكون فى باطن الأرض ، والذى يحمل الكثير من المياه الجارية أو المخزونة فى جوف الأرض .
والمعنى : لقد علمت - أيها العاقل - أن الله - تعالى - أنزل من السحب المرتفعة فى جو السماء ، ماء كثيرا ، فأدخله بقدرته على عيون ومسارب فى الأرض ، هذه العيون والمسارب تارة تكون ظاهرة على وجه الأرض ، وتارة تكون فى باطنها ، وكل ذلك من أعظم الأدلة على قدرة الله - تعالى - ورحمته بعباده .
ثم بين - سبحانه - مظرهاه آخر من مظاهر قدرته فقال : { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ . . . } : أى : هذا الماء الذى أنزله - سبحانه - بقدرته من السماء ، قد سلكه ينابيع فى الأرض ، ثم يخرج بسبب هذا الماء زرعا مختلفا فى ألوانه وفى أشكاله ، فمنه ما هو أخضر ومنه ما هو أصفر ، ومنه ما ليس كذلك مما يدل على كمال قدرة الله - تعالى - .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } بيان لمظهر ثالث من مظاهر قدرته - عز وجل - .
والفعل " يهيج " مأخوذ من الهيْج بمعنى اليُبْس والجفَاف . يقال : هاج النبات هَيْجاً وهِيَاجا ، إذا يبس واصفر . أو مأخوذ من الهيج بمعنى شدة الحركة . يقال : هاج الشئ يهيج ، إذا ثار لمشقة أو ضرر ، ثم يعقب ذلك الهيجان الجفاف واليبس .
أى : ثم يصاب هذا الزرع المختلف الألوان بالجفاف والضمور ، فتراه مصفرا من بعد اخضراره ونضارته ، ثم يجعله - سبحانه - { حُطَاماً } أى : فتاتا متكسرا . يقال : حَطِمَ الشئ حطَما - من باب تعب - إذا تكسر وتفتت وتحطم .
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ } الذى ذكرناه من إنزال الماء من السماء ، ومن سلكه ينابيع فى الأرض ، ومن إخراج النبات المختلف الألوان بسببه { لذكرى } عظيمة { لأُوْلِي الألباب } : أى : لأصحاب العقول السليمة ، والأفكار القويمة .
والمقصود من هذه الآية الكريمة ، التحذير من الإنهماك فى الحياة الدنيا ومتعها ، حيث شبهها - سبحانه - فى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها - بالزرع الذى يبدو مخضرا وناضراً . . . ثم يعقب ذلك الجفاف والذبول والاضمحلال .
وفى هذا المعنى وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً }
يخبر تعالى : أن أصل الماء في الأرض من السماء كما قال تعالى : { وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } [ الفرقان : 48 ] ، فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء ، ويُنِبُعه عيونًا ما بين صغار وكبار ، بحسب الحاجة إليها ؛ ولهذا قال : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } .
قال ابن أبي حاتم - رحمه الله - : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو قتيبة عتبة بن يقظان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } ، قال : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض تغيره ، فذلك قوله تعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرْضِ } ، فمن سره أن يعود الملح عذاب فليصعده .
وكذا قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : أن كل ماء في الأرض فأصله من السماء . وقال سعيد بن جبير : أصله من الثلج يعني : أن الثلج يتراكم على الجبال ، فيسكن في قرارها ، فتنبع العيون من أسافلها .
وقوله : { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي : ثم يخرج بالماء النازل من السماء والنابع من الأرض زرعا { مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ } أي : أشكاله وطعومه وروائحه ومنافعه ، { ثُمَّ يَهِيجُ } أي : بعد نضارته وشبابه يكتهل { فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا } ، قد خالطه اليُبْس ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا } أي : ثم يعود يابسا يتحطم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ } أي : الذين يتذكرون بهذا فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا ، تكون خَضرةً نضرةً حسناء ، ثم تعود عَجُوزا شوهاء ، والشاب يعود شيخا هَرِما كبيرا ضعيفا قد خالطه اليبس ، وبعد ذلك كله الموت . فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وكثيرًا ما يضرب الله تعالى مثل الحياة الدنيا بما ينزل الله من السماء من ماء ، وينبت به زروعا وثمارا ، ثم يكون بعد ذلك حُطاما ، كما قال تعالى : { وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا } [ الكهف : 45 ] .
{ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } هو المطر . { فسلكه } فأدخله . { ينابيع في الأرض } هي عيون ومجاري كائنة فيها ، أو مياه نابعات فيها إذ الينبوع جاء للمنبع وللنابع فنصبها على الظرف أو الحال . { ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } أصنافه من بر وشعير وغيرهما ، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما . { ثم يهيج } يتم جفافه لأنه إذا تم جفافه حان له أن يثور عن منبته . { فتراه مصفرا } من يبسه . { ثم يجعله حطاما } فتاتا . { إن في ذلك لذكرى } لتذكيرا بأنه لا بد من صانع حكيم دبره وسواه ، أو بأنه مثل الحياة الدنيا فلا تغتر بها . { لأولى الألباب } إذ لا يتذكر به غيرهم .