12- للزوج نصف ما تركت الزوجة إن لم يكن لها ولد منه أو من غيره فإن كان لها ولد فلزوجها الربع من بعد وصية تُوصِى بها أو دين . وللزوجة - واحدة أو متعددة - الربع مما ترك الزوج إن لم يكن له منها أو من غيرها ولد ، فإن كان له منهن أو من غيرهن فللزوجة أو الزوجات الثمن من بعد وصية يُوصى بها أو دين ، وولد الابن كالولد فيما تقدم . وإن كان الميت رجلاً أو امرأة ولا ولد له ولا والد وترك أخاً لأم أو أختاً لأم فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث يستوي في ذلك ذَكَرُهم وأنثاهم بمقتضى الشركة من بعد أداء الديون التي عليه وتنفيذ الوصية التي لا تضر بالورثة ، وهي التي لا تتجاوز ثلث الباقي بعد الدين ، فالزموا - أيها المؤمنون - ما وصاكم الله به ، فإنه عليم بمن جار أو عدل منكم ، حليم لا يعاجل الجائر بعقوبة .
قوله تعالى : { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين } . هذا في ميراث الأزواج .
قوله تعالى : { ولهن الربع } . يعني للزوجات الربع .
قوله تعالى : { مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين } . هذا في ميراث الزوجات وإذا كان للرجل أربع نسوة فهن يشتركن في الربع والثمن .
قوله تعالى : { وإن كان رجل يورث كلالةً أو امرأة } تورث كلالة ونظم الآية وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالةً وهو نصب على المصدر وقيل : على خبر ما لم يسم فاعله ، وتقديره : إن كان رجل يورث ماله كلالة . واختلفوا في الكلالة : فذهب أكثر الصحابة إلى أن الكلالة من لا ولد له ولا والد له . وروي عن الشعبي قال : سئل أبو بكر رضي الله عنه عن الكلالة فقال : إني سأقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ، أراه ما خلا الوالد والولد ، فلما استخلف عمر رضي الله عنهما قال : إني لأستحيي من الله أن أرد شيئاً قاله أبو بكر رضي الله عنه . وذهب طاووس إلى أن الكلالة من لا ولد له ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما وآخر القولين عن عمر رضي الله عنه ، واحتج من ذهب إلى هذا بقول الله تعالى : { قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد } وبيانه عند العامة مأخوذ من حديث جابر بن عبد الله لأن الآية نزلت فيه ولم يكن له يوم نزولها أب ولا ابن لأن أباه عبد الله بن حزام قتل يوم أحد وآية الكلالة نزلت في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم فصار شأن جابر بياناً لمراد الآية لنزولها فيه ، واختلفوا في أن الكلالة اسم لمن ؟ منهم من قال : اسم للميت ، وهو قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما ، لأنه مات عن ذهاب طرفيه فكل عمود نسبه . ومنهم من قال اسم للورثة ، وهو قول سعيد بن جبير ، لأنهم يتكللون الميت من جوانبه ، وليس في عمود نسبة أحد ، كالإكليل يحيط بالرأس ووسط الرأس منه خال ، وعليه يدل حديث جابر رضي الله عنه حيث قال : إنما يرثني كلالة أي : يرثني ورثة ليسوا بولد ولا والد ، وقال النضر بن شميل : الكلالة اسم للمال ، وقال أبو الخير : سأل رجل عقبة عن الكلالة فقال : ألا تعجبون من هذا ؟ يسألني عن الكلالة وما أعضل بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ما أعضلت بهم الكلالة . وقال عمر رضي الله عنه : ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بينهن لنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها : الكلالة والخلافة وأبواب الربا . وقال معدان بن أبي طلحة : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي في الكلالة ، حتى طعن بأصبعه في صدري فقال : " يا عمر : ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ؟ وإني إن أعش أقض فيها بقضية يقضي بها من يقرأ القرآن " وقوله : ألا تكفيك آية الصيف ؟ أراد : أن الله عز وجل أنزل في الكلالة آيتين : إحداهما في الشتاء ، وهي التي في أول سورة النساء . والأخرى في الصيف وهي التي في آخرها وفيها من البيان ما ليس في آية الشتاء ، فلذلك أحاله عليها .
قوله تعالى : { وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس } . أراد به الأخ والأخت من الأم بالاتفاق ، قرأ سعد بن أبي وقاص " وله أخ أو أخت من أم " ولم يقل لهما مع ذكر الرجل والمرأة من قبل ، على عادة العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما وكانا في الحكم سواءً ربما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما ، كقوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة }
قوله تعالى : { فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث } . فيه إجماع أن أولاد الأم إذا كانوا اثنين فصاعداً يشتركون في الثلث ذكرهم وأنثاهم . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته : ألا إن الآية التي أنزل الله تعالى في أول سورة النساء في بيان الفرائض أنزلها في الولد والوالد والأم ، والآية الثانية في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .
قوله تعالى : { من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار } . أي غير مدخل الضرر على الورثة بمجاوزة الثلث في الوصية ، قال الحسن هو أن يوصي بدين ليس عليه .
قوله تعالى : { وصيةً من الله والله عليم حليم } . قال قتادة : كره الله الضرار في الحياة وعند الموت ، ونهى عنه وقدم فيه .
وبعد أن بين - سبحانه - ميراث الأولاد والأبوين شرع فى بيان ميراث الأزواج فقال - تعالى - { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ } .
أى : ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم من المال إن لم يكن لهؤلاء الزوجات الموروثات ولد ذكرا كان أو أنثى ، واحدا كان أو متعددا ، منكم كان أو من غيركم فإن كان لهن ولد فلكم أيها الازواج الربع مما تركن من المال .
وبهذا نرى أن للزوج فى الميراث حالتين : حالة يأخذ فيها نصف ما تركته زوجته المتوفاة من مال إن لم تترك خلفها ولدا من بطنها أو من صلب نبيها أو بنيها . . . إلخ ، فإن تركت ولدا على التفصيل السابق كان لزوجها ربع ما تركت من مال وتلك هى الحالة الثانية للزوج ، ويكون الباقى فى الصورتين لبقية الورثة .
وقوله { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } متعلق بكلتا الصورتين .
أى لكم ذلك أيها الرجال من بعد استخراج وصيتهن وقضاء ما عليهن من ديون .
ثم بين - سبحانه - نصيب الزوجة فقال { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم } .
أى أن للزوجات ربع المال الذى تركه أزواجهن إذا لم يكن لهؤلاء الأزواج الأموال ولد من ظهورهم أو من ظهور بنيهم أو بنى بنيهم . . إلخ فإن ترك الأزواج من خلقهم ولدا فللزوجات ثمن المال الذى تركه أزواجهن ويكون المال الباقى فى الصورتين لبقية الورثة .
ونرى من هذا أن الزوجة على النصف فى التقدير من الزوج ، وهو قاعدة عامة فى قسمة الميراث بالنسبة للذكر والأنثى ، ولم يستثن إلا الإخوة لأم ، والأبوين فى بعض الأحوال .
وقوله { مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } متعلق بما قبله .
أى لكن ذلك أيتها الزوجات من بعد استخراج وصيتهم وقضاء ما عليهم من ديون .
ثم بين - سبحانه ، ميراث الإِخوة والأخوات لأم فقال - تعالى - : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } .
والكلالة ؛ هم القرابة من غير الأصول والفروع .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما الكلالة ؟ قلت : ينطلق على واحد من ثلاثة : على من لم يخلف ولدا ولا والدا وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين وعلى القرابة من غير جهة الولد والوالد ، ومنه قولهم ما ورث المجد عن كلالة . كما تقول : ما صمت عن عى ، وما كف عن جبن .
والكلالة فى الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء ، قال الأعشى :
فآليت لا أرثى لها من كلالة . . . فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد لأنها بالإِضافة إلى قرابتها كالّة ضعيفة . عن أبى بكر الصديق - رضى الله عنه - أنه سئل عن الكلالة فقال : الكلالة : من لا ولد له ولا والد .
والظاهر أن كلمة " كلالة هنا وصف للميت الموروث ، لأنها حال من نائب فاعل قوله : { يُورَثُ } وهو ضمير الميت الموروث . والتقدير . وإن كان رجل موروثا حال كونه كلالة . أى ؛ لم يترك ولدا ولا والدا . ويرى بعضهم أن كلمة هنا : وصف للوارث الذى ليس بولد ولا والد للميت . لأن هؤلاء الوارثين يتكللون الميت من جوانبه ، وليسوا فى عمود نسبه ، كالإِكليل يحيط بالرأس ، ووسط الرأس منه خال . من تكلله الشئ إذا أحاط به . فسمى هؤلاء الأقارب الذين ليسوا من أصول الميت أو من فروعه كلالة ، لأنهم أطافوا به من جوانبه لا من عمود نسبه . وعلى هذا الرأى يكون المعنى وإن كان رجل يورث حال كونه ذا وارث هو كلالة . أى أن وارثه ليس بولد ولا والد له .
والمراد بالإِخوة والأخوات هنا : الإِخوة والاخوات لأم ، بدليل قراءة سعد بن أبى وقاص : " وله أخ أو أخت من أم " . ويلد عليه - أيضا - أن الله - تعالى - ذكر ميراث الإِخوة مرتين : هنا مرة ، ومرة أخرى فى آخر آية من هذه السورة وهى قوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } وقد جعل - سبحانه - فى الآية التى معنا للواحد السدس وللأكثر الثلث شركة ، وجعل فى الآية التى فى آخر السورة للأخت الواحد النصف . وللأثنتين الثلثين ، فوجب أن يكون الإِخوة هنا وهناك مختلفين دفعا للتعارض . ولأنه لما كان الإِخوة لأب وأم أو لأب فحسب أقرب من الإِخوة لأم ، وقد أعطى - سبحانه - الأخت والأختين والإِخوة فى آخر السورة نصيبا أوفر ، فقد وجب حمل الإِخوة فى آخر السورة على الأشقاء أو الإِخوة لأب . كما وجب حمل الإِخوة والأخوات هنا على الإِخوة لأم .
والمعنى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } أى : يورث من غير أصوله أو فروعه { أَو امرأة } أى : تورث كذلك من غير أصولها أو فروعها .
والضمير فى قوله { وَلَهُ } يعود لذلك الشخص الميت المفهوم من المقام . أو لواحد منهما - أى الرجل والمرأة - والتذكير للتغليب . أو يعود للرجل واكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فى هذا الحكم .
وقوله : { أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أى : من الأم فقط { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا } أى : الأخ والأخت { السدس } مما ترك ذلك المتوفى من غير تفصيل للذكر على الأنثى . لأنهما يتساويان فى الإِدلاء إلى الميت بمحض الانوثة . { فَإِن كانوا } أى : الإِخوة والأخوات لأم ، أكثر من واحد فهم شركاء فى الثلث ، يقتسمونه فيما بينهم بالسوية بين ذكورهم وإناثهم ، والباقى من المال الموروث يقسم بين أصحاب الفروض والعصبات من الورثة .
وبذلك نرى أن الإِخوة والأخوات من الأم لهم حالتان :
إحداهما : أن يأخذ الواحد أو الواحدة السدس إذا انفردا .
والثانية : أن يتعدد الأخ لأم وفى هذه الحالة يكون نصيبهم الثلث يشتركون فيه بالسوية فلا فرق بين الذكر والأنثى .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
أى : هذه القسمة التى قسمها الله - تعالى - لكم بالنسبة للإِخوة للأم إنما تتم بعد تنفيذ وصية الميت وقضاء ما عليه من ديون ، من غير ضرار الورثة بوصيته أو دينه . وفى قوله { يوصى } قراءتان سبعيتان :
إحداهما بالبناء للمفعول أى { يوصى } - بفتح الصاد - فيكون قوله { غَيْرَ مُضَآرٍّ } حال من فاعل فعل مضمر يدل عليه المذكور . أى من بعد وصية يوصى بها أو دين حالة كون الموصى به أو الدين غير مضار ، أى غير متسبب فى ضرر الورثة .
والقراءة الثانية بالبناء للفاعل أى { يوصى } - بكسر الصاد - فيكون قوله { غَيْرَ مُضَآرٍّ } حال من فاعل الفعل المذكور وهو ضمير { يوصى } .
أى : يوصى بما ذكر من الوصية والدين حال كونه " غير مضار " أى غير مدخل الضرر على الورثة . وبهذا نرى أن مرتبة الورثة فى التقسيم تأتى بعد سداد الديون وبعد تنفيذ الوصايا ولذا ذكر سبحانه هذين الأمرين أربع مرات فى هاتين الآيتين تأكيدا لحق الدائنين والموصى لهم وتبرئة لذمة المتوفى فقد قال بعد ببان ميراث الأولاد والأبوين { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وقال بعد بيان ميراث الزوج { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وقال بعد ميراث الزوجة : { مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وقال بعد بيان ميراث الإِخوة والأخوات لأم : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } .
وقد قدم - سبحانه - الوصية على الدين فى اللفظ مع أنها مؤخرة عن الدين فى السداد ، وذلك للتشديد فى تنفيذها ، إذ هى مظنه الإِهمال ، أو مظنة الإِخفاء ، ولأنها مال يعطى بغير عوض فكان إخراجها شاقا على النفس .
فكان من الاسلوب البليغ الحكيم العناية بتنفيذها ، وكان من مظاهر هذه العناية تقديمها فى الذكر .
وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال : فإن قلت : لم قدمت الوصية على الدين والدين مقدم عليها فى الشريعة ؟ قالت : لما كانت الوصية مشبهة للميراث فى كونها مأخوذة من غير عوض ، كان إخراجها مما يشق على الورثة ويتعاظمهم ولا تطيب أنفسهم بها ، فكان أداؤها مظنة للتفريط ، بخلاف الدين فإن نفوسهم مطمئنة إلى أدائه ، فلذلك قدمت على الدين بعثا على وجوبها والمسارعة إلى إخراجها مع الدين .
فإن قلت : ما معنى { أَوْ } ؟ قلت معناها الإِباحة ، وأنه إذا كان أحدهما أو كلاهما ، قدم على قسمة الميراث كقولك : جالس الحسن أو ابن سيرين . فأو هنا جئ بها للتسوية بينهما فى الوجوب .
وقوله - تعالى - { غَيْرَ مُضَآرٍّ } يفيد النهى للموروث عن إلحاق الضرر بورثته عن طريق الوصية أو بسب الديون .
والضرر بالورثة عن طريق الوصية يتأتى بأن يوصى الموروث بأكثر من الثلث ، أو به فأقل مع قصده الإِضرار بالورثة فقد روى النسائى فى سننه عن ابن عباس أنه قال : الضرار فى الوصية من الكبائر . وقال قتادة : كره الله الضرار فى الحياة وعند الممات ونهى عنه .
والضرر بالورثة بسبب الدين يتأتى بأن يقر بدين لشخص ليس له عليه دين دفعا للميراث عن الورثة ، أو يقر بأن الدين الذى كان له على غيره قد استوفاه ووصل إليه ، مع أنه لم يحصل شئ من ذلك .
وقد ذكر - سبحانه - هذه الجملة وهى قوله { غَيْرَ مُضَآرٍّ } بعد حديثه عن ميراث الإِخوة والأخوات من الأم ، تأكيدا لحقوقهم ، وتحريضا على أدائها ، لأن حقوقهم مظنة الضياع والإِهمال . ولا يزال الناس إلى الآن يكادون يهملون نصيب الإِخوة لأم .
وقوله { وَصِيَّةً مِّنَ الله } نصبت كلمة { وَصِيَّةً } فيه على أنها مصدر مؤكد أى : يوصيكم الله بذلك وصية . والتنوين فيها للتفخيم والتعظيم . والجار والمجرور وهو { مِّنَ الله } متعلق بمحذوف وقع صفة لوصية : أى وصية كائنة من الله فمن خالفها كان مستحقا لعقابه .
وقوله { والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ } تذييل قصد به تربية المهابة فى القلوب من خالقها العليم بأحوالها . أى والله عليم بما تسرون وما تعلنون ، وبما يصلح أحوالكم وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحقه وبمن يطيع أوامره ومن يخالفها حليم لا يعجل بالعقوبة على من عصاه ، فهو - سبحانه - يمهل ولا يهمل . فعليكم أن تستجيبوا لأحكامه ، حتى كونوا أهلا لمثوبته ورضاه .
يقول تعالى : ولكم - أيها الرجال - نصف ما ترك أزواجكم إذا مُتْن عن غير ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد [ وصية ]{[6742]} يوصين بها أو دين . وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية ، وبعده الوصية ثم الميراث ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب .
ثم قال : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ ]{[6743]} } إلخ ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن{[6744]} فيه .
وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ } إلخ ، الكلام عليه كما تقدم .
وقوله : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً } الكلالة : مشتقة من الإكليل ، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه ، والمراد هنا{[6745]} من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق : أنه سئل عن الكلالة ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابًا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد . فلما ولي عمر بن الخطاب قال : إني لأستحيي{[6746]} أن أخالف أبا بكر في رأي رآه . رواه ابن جرير وغيره{[6747]} .
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، فسمعته يقول : القول ما قلت ، وما قلت{[6748]} وما قلت . قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد{[6749]} .
وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وصح عن{[6750]} غير وجه عن عبد الله بن عباس ، وزيد بن ثابت ، وبه يقول الشعبي والنخعي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وجابر بن زيد ، والحكم . وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة . وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف{[6751]} بل جميعهم . وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وورد فيه حديث مرفوع . قال أبو الحسين بن اللبان : وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، وهو أنه لا ولد له . والصحيح عنه الأول ، ولعل الراوي ما فهم عنه{[6752]} ما أراد .
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي : من أم ، كما هو في قراءة بعض السلف ، منهم سعد بن أبي وقاص ، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه{[6753]} قتادة عنه ، { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه ، أحدها : أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم . الثاني : أن ذكرهم وأنثاهم سواء . الثالث : أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة ، فلا يرثون مع أب ، ولا جد ، ولا ولد ، ولا{[6754]} ولد ابن . الرابع : أنهم لا يزادون{[6755]} على الثلث ، وإن كثر{[6756]} ذكورهم وإناثهم .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرنا يونس ، عن الزهري قال : قضى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن ميراث الإخوة من الأم بينهم ، للذكر مثل الأنثى{[6757]} قال محمد بن شهاب الزهري : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك{[6758]} من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذه الآية التي قال الله تعالى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
واختلف العلماء في المسألة المشتركة ، وهي : زوج ، وأم أو جدة ، واثنان{[6759]} من ولد الأم وواحد{[6760]} أو أكثر من ولد الأبوين . فعلى قول الجمهور : للزوج النصف ، وللأم أو الجدة السدس ، ولولد الأم الثلث ، ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوةُ الأم .
وقد وقعت هذه المسألة في زمن{[6761]} أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فأعطى الزوج النصف ، والأم السدس ، وجعل الثلث لأولاد الأم ، فقال له أولاد الأبوين : يا أمير المؤمنين ، هب أن أبانا كان حمارا ، ألسنا من أم واحدة ؟ فشرك بينهم .
وصح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان ، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، رضي الله عنهم . وبه يقول سعيد بن المسيب ، وشريح القاضي ، ومسروق ، وطاوس ، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والثوري ، وشريك وهو مذهب مالك والشافعي ، وإسحاق بن راهويه .
وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم ، بل يجعل الثلث لأولاد الأم ، ولا شيء لأولاد الأبوين ، والحالة هذه ، لأنهم عصبة . وقال وَكِيع بن الجراح : لم يختلف عنه في ذلك ، وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري ، وهو المشهور عن ابن عباس ، وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن زياد ، وزُفَر بن الهُذيل ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد ، وأبي ثور ، وداود بن علي الظاهري ، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي ، رحمه الله ، في كتابه " الإيجاز " .
وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } أي : لتكون{[6762]} وصيته على العدل ، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة ، أو ينقصه ، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته{[6763]} وقسمته ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي ، حدثنا عُمَر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإضرار في الوصية من الكبائر " .
وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا{[6764]} وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة ، قال أبو القاسم ابن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين . وروى عنه غير واحد من الأئمة . وقال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ . وقال علي بن المديني : هو مجهول لا أعرفه . لكن رواه النسائي في سننه عن علي ابن حجر ، عن علي بن مُسْهِر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، موقوفًا :
" الإضرار في الوصية من الكبائر " . وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن عائذ بن حبيب ، عن داود بن أبي هند . ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفا{[6765]} وفي بعضها : ويقرأ ابن عباس : { غَيْرَ مُضَارٍّ }
قال ابن جريج{[6766]} والصحيح الموقوف .
ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث : هل هو صحيح أم لا ؟ على قولين : أحدهما : لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله قد أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه ، فلا وَصِيَّة لِوَارِثٍ " . وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والقول القديم للشافعي ، رحمهم الله ، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار . وهو مذهب طاوس ، وعطاء ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز .
وهو اختيار أبي عبد الله{[6767]} البخاري في صحيحه . واحتج بأنّ رَافع بن خديج أوصى ألا تُكْشَف{[6768]} الفَزَارية عما أغْلقَ عليه بابها قال : وقال بعض الناس : لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم والظنَّ ، فإن الظَّنَّ أكذبُ الحديث " . وقال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] فلم يخص وارثًا ولا غيره . انتهى ما ذكره .
فمتى كان الإقرارُ صحيحًا مطابقًا لما في نفس الأمر جَرَى فيه هذا الخلاف ، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم ، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة { غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ ثم قال الله ]{[6769]}