69- إن حالكم - أيها المنافقون - كحال أمثالكم ممن سبقوكم إلى النفاق والكفر ، فإنهم وقد كانوا أقوى منكم وأكثر أموالاً وأولاداً ، استمتعوا بما قُدِّر لهم من حظوظ الدنيا ، وأعرضوا عن ذكر الله وتقواه ، وقابلوا أنبياءهم بالاستخفاف ، وسخروا منهم فيما بينهم وبين أنفسهم ، وقد استمتعتم بما قُدِّر لكم من ملاذ الدنيا كما استمتعوا ، وخضتم فيما خاضوا فيه من المنكر والباطل ، إنهم قد بطلت أعمالهم ، فلم تَنْفعهُم في الدنيا ولا في الآخرة ، وكانوا هم الخاسرين ، وأنتم مثلهم في سوء الحال والمآل .
قوله تعالى : { كالذين من قبلكم } ، أي : فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول عن أمر الله ، فلعنتم كما لعنوا " كانوا أشد منكم قوة " ، بطشا ومنعة ، { وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم } فتمتعوا وانتفعوا بخلافهم ، بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا به عوضا عن الآخرة ، { فاستمتعتم بخلاقكم } ، أيها الكفار والمنافقون ، { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } " ، وسلكتم سبيلهم ، { وخضتم } في الباطل والكذب على الله تعالى ، وتكذيب رسله ، وبالاستهزاء بالمؤمنين ، { كالذي خاضوا } ، أي : كما خاضوا . وقيل : كالذي بمعنى كالذين خاضوا ، وذلك أن الذي اسم ناقص ، مثل " ما " و " من " يعبر به عن الواحد والجميع ، نظيره قوله تعالى : { كمثل الذي استوقد نارا } ثم قال : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة -17 ] . { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } ، أي : كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، ثنا محمد بن إسماعيل ، ثنا محمد بن عبد العزيز ، ثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن ، عن زيد بن أسلمن عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم ، قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ وفي رواية أبي هريرة : فهل الناس إلا هم " ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : " أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري اتعبدون العجل أم لا " .
ثم ساقت السورة الكريمة - لهؤلاء المنافقين - نماذج لمن حبطت أعمالهم بسبب غرورهم ، وضربت لهم الأمثال بمن هلك من الطغاة السابقين بسبب تكذيبهم لأنبيائهم ، فقال - تعالى - : { كالذين مِن قَبْلِكُمْ . . . . أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .
قوله - تعالى - { كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً . . . } جاء على أسلوب الالفتات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين ، وتحريك نفوسهم إلا الاعتبار والاتعاظ .
والكاف في قوله : { كالذين } للتشبيه ، وهى في محل رفع خبر لمبتدأ محذوف .
والتقدير : أنتم - أيها المنافقون - حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة في الانحراف عن الحق ، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها ، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين ، يمتازون عنكم بأنهم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } في أبدانهم ، وكانوا " أكثر " منكم { أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } .
وقوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله - تعالى - والخلاق : مشق من الخلق بمعنى التقدير . وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه .
أى : كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً ، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه ، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم ، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم في هذه الحياة الدنيا ، استمتاع الجاحدين الفاسقين .
والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب في قوله : { فاستمتعوا } ؛ للإِشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم ، قد استعملوها في غير ما خلقت له ، وسخروها لإِرضاء شهواتهم الخسيسة ، وملذاتهم الدنيئة .
وقوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم ؛ لانتهاجهم جميعاً طريق الشر والبطر .
أى : فأنتم - أيها المنافقون - قد استمعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا ، وشهواتها الباطلة ، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبكم في ذلك .
وقوله : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } معطوف على ما قبله .
أى : وخضتم - أيها المنافقون - في حمأة الباطل وفى طريق الغرور والهوى ، كالخوض الذي خاضه السابقون من الأمم المهلكة .
قال الآلوسى قوله : " وخضتم " أى : دخلتم في الباطل { كالذي خاضوا } .
أى : كالذين فحذفت نونه تخفيفاً ، كما في قول الشاعر :
إن الذي حانت بفلج دماؤهم . . . هم القو كل القوم يا أم خالد
ويجوز أن يكون " الذي " صفة لمفرد اللفظ ، مجموع المعنى ، كالفوج والفريق ، فلوحظ في الصفة اللفظ . وفى الضمير المعنى ، و هو صفة لمصدر محذوف ، أى : كالخوض الذي خاضوه ، ورجح بعدم التكلف فيه .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فائدة في قوله : { فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ } وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغن عنه كما أغنى قوله : { كالذي خاضوا } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا ؟
قلت : فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها ، والتهائم بشهواتهم الفانية عن النظر في العاقبة ، وطلب الفلاح في الآخرة ، وأن يخسس أمر الاستمتاع ، ويهجن أمر الرضا به ، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم ، كما تريد أن تنبيه بعض الظلمة على سماجة فعله فنقول : أنت مثل فرعون : كان يقتل بغير جرم ، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله .
وأما { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه ، مستغن باسناده إليه عن تلك التقدمة .
وقوله : { أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } بيان لسوء مصيرهم في الدارين .
واسما الإِشارة يودان على المتصفين بتلك الصفات القحبية من السابقين واللاحقين .
أى : أولئك المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم في الشهوات الخسيسة ، والخائضون في الشرور والآثام " حبطت أعمالهم " أى : فسدت وبطلت أعمالهم التي كانوا يرجون منفعتها { فِي الدنيا والآخرة } لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص ، وإنما كان معها الرياء والنفاق ، والفسوق والعصيان ، والله - تعالى - لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم .
وقوله : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } أى : الكاملون في الخسران ، الجامعون لكل ما من شأنه أن يؤدى إلى البوار والهلاك .
يقول تعالى : أصاب هؤلاء من عذاب الله في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم ، وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، { فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ } قال الحسن البصري : بدينهم ، { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } أي : في الكذب والباطل ، { أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : بطلت مساعيهم ، فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة { فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب .
قال ابن جُرَيْج عن عُمَر بن عَطَاء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الآية ، قال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ، { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هؤلاء بنو إسرائيل ، شبهنا بهم ، لا أعلم إلا أنه قال : " والذي نفسي بيده ، لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحر ضَبٍّ لدخلتموه " .
قال ابن جُرَيْج : وأخبرني زياد بن سعد ، عن محمد بن زيد{[13613]} بن مهاجر ، عن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ، لتتبعن سَنَن الذين من قبلكم ، شبرا بشبر ، وذراعا بذراع ، وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبٍّ لدخلتموه " . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ أهل الكتاب ؟ قال : " فَمَه " {[13614]} وهكذا رواه أبو مَعْشَر ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكره وزاد : قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم القرآن . { كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ } قال أبو هريرة : الخلاق : الدين . { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } قالوا : يا رسول الله ، كما صنعت فارس والروم ؟ قال : " فهل الناس إلا هم " {[13615]}
وهذا الحديث له شاهد في الصحيح{[13616]}