السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{كَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنكُمۡ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرَ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا فَٱسۡتَمۡتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمۡ فَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِخَلَٰقِكُمۡ كَمَا ٱسۡتَمۡتَعَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُم بِخَلَٰقِهِمۡ وَخُضۡتُمۡ كَٱلَّذِي خَاضُوٓاْۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (69)

ولما كان الخلود قد يتجوّز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج نفى ذلك بقوله تعالى : { ولهم عذاب مقيم } أي : دائم لا ينقطع وقوله تعالى :

{ كالذين من قبلكم } رجوع من الغيبة إلى خطاب الحضور والكاف في كالذين للتشبيه والمعنى فعلتم كأفعال الذين من قبلكم شبه فعل المنافقين بفعل الكافرين الذين كانوا من قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن فعل الخير والطاعة ثم إنه تعالى وصف الكفار بأنهم كانوا أشدّ من هؤلاء المنافقين قوّة وأكثر أموالاً وأولاداً بقوله تعالى : { كانوا أشدّ منكم قوّة } أي : بطشاً ومنعاً { وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم } أي : تمتعوا بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا بها عوضاً عن الآخرة والخلاق : النصيب ، وهو ما خلق للإنسان وقدّر له من خير وشر كما يقال : قسم له . { فاستمتعتم بخلاقكم } أي : فتمتعتم أيها المنافقون والكافرون بخلاقكم فهو خطاب للحاضرين { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } ذم الأوّلين باستمتاعهم بما أوتوا من حظوظ الدنيا العاجلة وحرمانهم من سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ العاجلة تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء أثرهم ، ولما بين تعالى مشابهة هؤلاء المنافقين لأولئك المتقدّمين في طلب الدنيا وفي الإعراض عن طلب الآخرة بين حصول المشابهة بين الفريقين في تكذيب الأنبياء وفي المكر والخديعة بقوله تعالى : { وخضتم } أي : ودخلتم في الباطل والكذب على الله تعالى وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين { كالذي خاضوا } أي : كالذين خاضوا أو كالفوج الذي خاضوا هذا كله إذا جعلنا الذي موصولاً اسمياً فإن جعلناه موصولاً حرفياً أول مع صلته بمصدر أي كخوضهم والفوج الجماعة .

فإن قيل : أيّ فائدة في قوله تعالى : { فاستمتعوا بخلاقهم } وقوله تعالى : { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } مغن عنه كما أغنى قوله تعالى : { كالذي خاضوا } عن أن يقال : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا ؟ أجيب : بأنّ فائدة ذلك أن يذم الأوّلين بما مرّ ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على قبح ظلمه بقولك : أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب من غير موجب وأمّا { خضتم كالذي خاضوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة { أولئك } أي : هؤلاء الأشقياء { حبطت } أي : بطلت { أعمالهم في الدنيا } أي : بزوالها عنهم ونسيان لذاتها { والآخرة } أي : وفي الدار الآخرة لأنهم لم يسعوا لها سعيها فلم تنفعهم أعمالهم في الدارين بل يعاقبون عليها وزاد في التنبيه على بعدهما مما قصدوا لأنفسهم من النفع بقوله تعالى : { وأولئك هم الخاسرون } أي : الذين خسروا الدنيا والآخرة والمعنى أنه كما بطل أعمال الكفار الماضين وخسروا تبطل أعمالكم أيها المنافقون وتخسرون .

وفي الالتفات إلى مقام الخطاب إشارة إلى تحذير كل سامع عن مثل هذه المقالة قال بعض كبراء التابعين : أدركت سبعين ممن أدرك النبيّ صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه وذكر أنّ مالكاً رحمه الله تعالى دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبيّ : يا شيخ قم فاركع فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهباً فقيل له في ذلك فقال : خشيت أن أكون من الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما ) وقال تعالى : { لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } ( التوبة ، 54 ينظر المنافق إلى ما يسقط فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم .

كما روي أنّ الله تعالى يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوئ أهل المساوئ فكيف بمعايب أهل المحاسن والمنافق يأخذ من الدين ما ينفع في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في العقبى مما لا يضر في الدنيا .

ويذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها : دلني على موضع طاهر أصلي فيه ، فقال له الراهب : طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت ، قال المسلم : فخجلت منه .