إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{كَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ كَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنكُمۡ قُوَّةٗ وَأَكۡثَرَ أَمۡوَٰلٗا وَأَوۡلَٰدٗا فَٱسۡتَمۡتَعُواْ بِخَلَٰقِهِمۡ فَٱسۡتَمۡتَعۡتُم بِخَلَٰقِكُمۡ كَمَا ٱسۡتَمۡتَعَ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُم بِخَلَٰقِهِمۡ وَخُضۡتُمۡ كَٱلَّذِي خَاضُوٓاْۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَٰلُهُمۡ فِي ٱلدُّنۡيَا وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (69)

{ كالذين مِن قَبْلِكُمْ } التفاتٌ من الغَيبة إلى الخطاب للتشديد والكافُ في محل الرفعِ على الخبرية ، أي أنتم مثلُ الذين مِن قبلكم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أموالا وأولادا } تفسيرٌ وبيانٌ لِشَبَههم بهم وتمثيلٌ لحالهم بحالهم { فاستمتعوا } تمتعوا ، وفي صيغة الاستفعالِ ما ليس في صيغة التفعلِ من الاستزادة والاستدامةِ في التمتع { بخلاقهم } بنصيبهم من ملاذ الدنيا ، واشتقاقُه من الخَلْق بمعنى التقدير وهو ما قُدّر لصاحبه { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بخلاقكم كَمَا اسْتَمْتَعَ } الكاف في محل النصبِ على أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي استمتاعاً كاستمتاع { الذين مِنْ قَبْلِكُم بخلاقهم } ذمّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم الخسيسةِ من الشهوات الفانيةِ والتهائِهم بها عن النظر في العواقب الحقةِ واللذائذ الحقيقيةِ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم إياهم واقتفائِهم أثرَهم { وَخُضْتُمْ } أي دخلتم في الباطل { كالذي خَاضُواْ } أي كالذين بإسقاط النونِ أو كالفوج الذي أو كالخوض الذي خاضوه { أولئك } إشارةٌ إلى المتصفين بالأوصاف المعدودةِ من المشبَّهين والمشبَّهة بهم لا إلى الفريق الأخير فقط فإن ذلك يقتضي أن يكون حُبوطُ أعمالِ المشبهين وخسرانُهم مفهومَين ضمناً لا صريحاً ويؤدي إلى خلوّ تلوينِ الخطابِ عن الفائدة إذ الظاهرُ حينئذ أولئكم والخطابُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلُح للخطاب أي أولئك الموصوفون بما ذكر من الأفعال الذميمة .

{ حَبِطَتْ أعمالهم } ليس المرادُ بها أعمالَهم المعدودةَ كما يُشعر به التعبيرُ عنهم باسم الإشارةِ فإن غائلتَها غنيةٌ عن البيان بل أعمالَهم التي كانوا يستحقون بها أجوراً حسنةً لو قارنت الإيمان ، أي ضاعت وبطَلت بالكلية ولم يترتب عليها أثرٌ { في الدنيا والآخرة } بطريق المثوبةِ والكرامةِ ، أما في الآخرة فظاهرٌ وأما في الدنيا فلأنّ ما يترتب على أعمالهم فيها من الصحةِ والسعة وغيرِ ذلك حسبما ينبىء عنه قولُه عز وجل : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } [ هود ، الآية 15 ] ليس ترتبُه عليها على طريقه المثوبةِ والكرامة بل بطريق الاستدراج { وَأُوْلئِكَ } أي الموصوفون بحُبوط الأعمالِ في الدارين { هُمُ الخاسرون } الكاملون في الخسران في الدارين الجامعون لمباديه وأسبابِه طراً فإنه قد ذهبت رؤوسُ أموالِهم التي هي أعمالُهم فيما ضرَّهم ولم تنفعْهم قطّ ولو أنها ذهبت فيما لا يضرهم ولا ينفعهم لكفى به خسراناً ، وإيرادُ اسمِ الإشارة في الموضعين للإشعار بعلية الأوصافِ المُشارِ إليها للحبوط والخسران .