قوله تعالى : { كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } : فيه أوجه أحدها : هذه الكافَ/ في محلِّ رفعٍ تقديرُه : إنهم كالذين فهي خبر مبتدأ محذوف . الثاني : أنها في محل نصب . قال الزجاج : " المعنى : وعدكما وَعْدَ الذين مِنْ قبلكم ، فهو متعلقٌ ب " وَعَدَ " . قال ابن عطية : " وهذا قَلِقٌ " . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب " يَسْتهزئون " . وفي هذا بُعْدٌ كبير .
وقوله : { كَانُواْ أَشَدَّ } تفسيرٌ لشبههم بهم وتمثيل لفعلهم . وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمارِ فعلٍ قال : " التشبيهُ من جهة الفعل أي : فعلتم كما فعل الذين من قبلكم " فتكون الكافُ في موضع نصب . وقال أبو البقاء : " الكاف في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف ، وفي الكلام حذفُ مضافٍ تقديرُه " وعداً كوعد الذين " . وذكر الزمخشري وجهَ الرفع المتقدمَ والوجهَ الذي قدَّمْتُه عن الفراء ، وشبَّهه بقول النمر بن تولب :
2513 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كاليوم مَطْلوباً ولا طَلَبا
قوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } الكافُ في محل نصب نعتاً لمصدرٍ محذوف أي : استمتاعاً كاستمتاع الذين .
قوله : كَالَّذِي خَاضُواْ } الكافُ كالتي قبله . وفي " الذي " وجوهٌ أحدُها : أن المعنى : وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا ، فحُذفت النونُ تخفيفاً ، أو وقع المفردُ موقعَ الجمع . وقد تقدم تحقيق هذا في أوائل البقرة ، فحُذِفَ المصدرُ الموصوفُ والمضافُ إلى الموصول ، وعائدُ الموصول تقديرُه : خاضوه ، والأصلُ : خاضوا فيه ؛ لأنه يتعدَّى ب " في " فاتُّسع فيه ، فَحُذِفَ الجارُّ فاتصل الضميرُ بالفعل فساغ حَذْفُه ، ولولا هذا التدريجُ لَمَا ساغ الحذف ؛ لِما عرفت ممَّا مرَّ أنه متى جُرَّ العائد بحرف اشتُرِط في جواز حَذْفِه جَرُّ الموصولِ بمثل ذلك الحرف ، وأن يتحدَ المتعلَّق ، مع شروط أُخَرَ ذكرتُها فيما تقدَّم .
الثاني : أنَّ " الذي " صفةٌ لمفردٍ مُفْهِمٍ للجمع أي : وخضتم خوضاً كخوضِ الفوج الذي خاضُوا ، أو الفريق الذي خاضوا . والكلامُ في العائد كما سَبَق قبلُ .
الثالث : أنَّ " الذي " من صفةِ المصدرِ والتقدير : وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه . وعلى هذا فالعائدُ منصوب من غير وساطةِ حرفِ جر . وهذا الوجهُ ينبغي أن يكونَ هو الراجح إذ لا محذورَ فيه .
الرابع : أن " الذي " تقعُ مصدريةً ، والتقدير : وخضتم خوضاً كخوضهم ومثله :
2514 فَثَبَّتَ اللَّهُ ما آتاك مِنْ حسنٍ *** في المُرْسلين ونَصْراً كالذي نُصِروا
2515 يا أمَّ عمروٍ جزاكِ اللَّهُ مغفرةً *** رُدِّي عليَّ فؤادي كالذي كانا
أي : ككونِه . وقد تقدَّم أن هذا مذهب الفراء ويونس ، وتقدَّمَ تأويلُ البصريين لذلك . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : أيُّ فائدة في قوله : { فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ كَمَا } ، وقوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } مُغْنٍ عنه كما أغْنى " كالذي خاضوا " [ عن أن يقال : وخاضُوا فَخُضْتُمْ كالذي خاضُوا ] ؟ قلت : فائدتُه أَنْ يَذُمَّ الأوَّلين بالاستمتاع بما أُوتوا ورِضاهم بها عن النظر في العاقبة وطلبِ الفلاحِ في الآخرة وأن يُخَسِّسَ أمر الاستمتاع ، ويُهَجِّن أمرَ الراضي به ، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم .
وأمَّا " وخُضْتُمْ كالذي خاضوا " فمعطوفٌ على ما قبله ، ومسندٌ إليه مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة " يعني أنه استغنى عن أَنْ يكونَ التركيبُ : وخاضوا فخضتم كالذي خاضوا .
وفي قوله : { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ } إيقاعٌ للظاهر موقع المضمرِ لنُكْتةٍ : وهو أن كانَ الأصلُ : فاستمتعتم فخَلاقكم كما استمتعوا بخلاقِهم ، فأبرزهم بصورةِ الظاهر تحقيراً لهم كقوله تعالى : { لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] وكقوله قبل ذلك : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ } ثم قال : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
[ التوبة : 67 ] . وهذا كما يدل بإيقاع الظاهر موقعَ المضمرِ على التفخيم والتعظيم يدلُّ به على عكسِه وهو التحقير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.