81- إن المنافقين تخلفوا عن الخروج مع رسول اللَّه والمسلمين ، وفرحوا بقعودهم في المدينة بعد خروج النبي منها ، وبمخالفتهم أمره بالجهاد معه ، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم ، ويضحوا بأرواحهم في سبيل إعلاء كلمة اللَّه ونصر دينه ، وأخذوا يثبطون غيرهم ، ويُغرونهم بالقعود معهم ، ويخوفونهم من النفور إلى الحرب في الحر ، فقل - أيها الرسول - لهؤلاء : لو كنتم تعقلون ، لذكرتم أن نار جهنم أكثر حرارة وأشد قسوة مما تخافون .
قوله تعالى : { فرح المخلفون } . عن غزوة تبوك . والمخلف : المتروك { بمقعدهم } أي بقعودهم { خلاف رسول الله } ، قال أبو عبيدة : أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : مخالفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين ساروا وأقاموا ، { وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا لا تنفروا في الحر } ، وكانت غزوة تبوك في شدة الحر ، { قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } ، يعلمون وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود .
وبعد هذا الحديث الطويل المتنوع عن أحوال المنافقين ومسالكهم الخبيثة ، أخذت السورة الكريمة في الحديث عن حال المنافقين الذين تخلفوا في المدينة ، وأبوا أن يخرجوا مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى تبوك ، فقال - تعالى - : { فَرِحَ المخلفون . . . مَعَ الخالفين } .
وقوله : " المخلفون " اسم مفعول مأخوذ من قولهم خلف فلان فلانا وراءه إذا تركه خلفه .
والمراد بهم : أولئك المنافقيون الذين تخلفوا عن الخروج إلى غزوة تبوك بسبب ضعف إيمانهم ، وسقوط همتهم ، وسوء نيتهم . .
قال الجمل : وقوله { خِلاَفَ رَسُولِ الله } فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه منصوب على المصدر بفعل مقدر مدللو عليه بقوله " مقعدهم " لأنه في معنى تخلفوا أى : تخلفوا خلاف رسول الله . الثانى : أن خلاف مفعول لأجله والعامل فيه إما فرح مقعد . أى : فرحوا لأجل مخالفتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث مضى هو للجهاد وتخلفوا هم عنه . أو بقعودهم لمخالفتهم له ، وإليه ذهب الطبرى والزجاج ، ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : " خلف رسول الله " - بضم الخاء واللام ، الثالث : أن ينتصب على الظرف . أى بعد رسول الله ، يقال : أقام زيد خلاف القوم ، أى : تخلف بعد ذهابهم ، وخلاف يكون ظرفا ، وإليه ذهب أبو عبيدة وغيره ، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس ، وأبى حيوه ، وعمرو بن ميمون ، " خلف رسول الله " - بفتح الخاء وسكون اللام .
والمعنى : فرح المخلفون : من هؤلاء المنافقين ، بسبب قعودهم في المدينة ، وعدم خروجهم إلى تبوك للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، وكرهوا أن يبذلوا شيئا من أموالهم وأنفسهم من أجل إعلاء كلمة الله .
وإنما فرحوا بهذا القعود ، وكرهوا الجهاد ؛ لأنهم قوم خلت قلوبهم من الإِيمان بالله واليوم الآخر ، وهبطت نفوسهم عن الارتفاع إلى معالى الأمور ، وآثروا الدنيا وشهواتها الزائلة على الآخرة ونعيمها الباقى .
وفى التعبير بقوله : { المخلفون } تحقير لهم ، وإهمال لشأنهم ، حتى لكأنهم شئ من سقط المتاع الذي يخلف ويترك ويهمل ؛ لأنه لا قيمة له ، أو لأن ضرره أكبر من نفعه .
قال الآلوسى : وإيثار ما في النظم الكريم على أن يقال ، وكرهوا أن يخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إيذان بأن الجهاد في سبيل الله مع كونه من أجل الرغائب التي ينبغى أن يتنافس فيها المتنافسون ، قد كرهوه ، كما فرحوا بأقبح القبائح وهو القعود خلاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وفى الكلام تعريض بالمؤمنين الذين آثروا ذلك وأحبوه .
وقوله : { وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر } حكاية لأقوالهم التي تدل على ضعفهم وجبنهم ، وعلى أنهم قوم لا يصلحون للأعمال التي يصلح لها الرجال .
أى . وقال هؤلاء المنافقون المخلفون لغيرهم ، أقعدوا معنا في المدينة ، ولا تخرجوا للجهاد مع المؤمنين ، فإن الحر شديد ، والفر طويل ، وقعودكم يريحكم من هذه المتاعب ، ويحمل غيرنا وغيركم على القعود معنا ومعكم ، وبذلك ننال بغيتنا من تثبيط همة المجاهدين عن الجهاد في سبيل الله .
وقوله : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } رد على أقوالهم القبيحة ، وأفعالهم الخبيثة ، أى ، قل يا محمد لهؤلاء المنافقين على سبيل التهكم بهم ، والتحقير من شأنهم : نار جهنم أشد حرا من هذا الحر الذي تخشونه وترونه مانعا من النفير بل هي أشد حرا من نار الدنيا . . .
روى الإِمام مالك عن أبى الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : " نار بنى آدم التي توقدونها . جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال : وقوله : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً } استجهال لهم ، لأن من تصون مشقة ساعة ، فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد ، كان أجهل من كل جاهل ، ولبعضهم :
مسرة أحقاب تلقيت بعدها . . . مساءة يوم أريها شبه الصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة . . . وراء تقضيها مساءة أحقاب
أى : أن حزن يوم واحد يجعل المسرات الطويلة قبله تتحول إلى ما يشبه الصاب مرارة ، فيكف يكون الحال إذا كانت المسرات ساعة واحدة تعقبها أحقاب طويلة من المساءات ؟ ! ! .
وقوله : { لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } تذييل قصد به الزيادة في توبيخهم وتحقيرهم .
أى : لو كانوا يفقهون أن نار جهنم أشد حرا ويعتبرون بذلك ، لما فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، ولما كرهوا الجهاد ، ولما قالوا ما قالوا ، بل لحزنوا واكتأبوا على ما صدر منهم ، ولبادروا بالتوبة والاستغفار ، كما فعل أصحاب القلوب والنفوس النقية من النفاق والشقاق .
وينتقل السياق - مرة أخرى - إلى الحديث عن المتخلفين عن رسول اللّه - [ ص ] - في غزوة تبوك :
( فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول اللّه ، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه ، وقالوا : لا تنفروا في الحر . قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون . فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا يكسبون . فإن رجعك اللّه إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل : لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً . إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين . ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره ، إنهم كفروا باللّه ورسوله وماتوا وهم فاسقون . ولا تعجبك أموالهم وأولادهم ، إنما يريد اللّه أن يعذبهم بها في الدنيا ، وتزهق أنفسهم وهم كافرون ) . .
هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض . ثقلة الحرص على الراحة ، والشح بالنفقة . وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة ، وخواء القلب من الإيمان . . هؤلاء المخلفون - والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعاً يخلف أو هملاًيترك - فرحوا بالسلامة والراحة ( خلاف رسول الله ) وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد ، وحسبوا أن السلامة العامة غاية يحرص عليها الرجال ! ( وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه )
( وقالوا : لا تنفروا في الحر ) وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال .
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة ، وطراوة الإرادة ؛ وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب ، وينفرون من الجهد ، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم ، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز . وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات . ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك ، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان ، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال .
والنص يرد عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة :
( وقالوا : لا تنفروا في الحر . قل : نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون ) .
فإن كانوا يشفقون من حر الأرض ، ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال . فكيف بهم في حر جهنم وهي أشد حراً ، وأطول أمداً ? وإنها لسخرية مريرة ، ولكنها كذلك حقيقة . فإما كفاح في سبيل اللّه فترة محدودة في حر الأرض ، وإما انطراح في جهنم لا يعلم مداه إلا اللّه :
هذه آية تتضمن وصف حالهم على جهة التوبيخ لهم وفي ضمنها وعيد ، وقوله { المخلفون } لفظ يقتضي تحقيرهم وأنهم الذين أبعدهم الله من رضاه وهذا أمكن في هذا من أن يقال المتخلفون ، ولم يفرح إلا منافق ، فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر{[5811]} ، و «مقعد » مصدر بمعنى القعود ، ومثله :
من كان مسروراً بمقتل مالك . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[5812]}
وقوله { خلاف } معناه بعد وأنشد أبو عبيدة في ذلك : [ الكامل ]
عقب الربيع خِلاَفُهمْ فكأنَّما*** بسط الشواطب بينهنَّ حصير{[5813]}
يريد بعدهم ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
فقل للذي يبقى خلاف الذي مضى*** تأهَّبْ لأخرى مثلَها فَكَأَنْ قدِ{[5814]}
وقال الطبري هو مصدر خالف يخالف .
قال القاضي أبو محمد : فعلى هذا هو مفعول له ، والمعنى { فرح المخلفون بمقعدهم } لخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مصدر ونصبه في القول الأول كأنه على الظرف ، وكراهيتهم «لما ذكر هي شح إذ لا يؤمنون بالثواب في سبيل الله فهم يظنون بالدنيا ، وقولهم { لا تنفروا في الحر } كان لأن غزوة تبوك كانت في وقت شدة الحر وطيب الثمار والظلال ، قاله ابن عباس وكعب بن مالك والناس ، فأقيمت عليهم الحجة بأن قيل لهم فإذا كنتم تجزعون من حر القيظ فنار جهنم التي هي أشد أحرى أن تجزعوا منها لو فهمتم ، وقرأ ابن عباس وأبو حيوة » خلف «وذكرها يعقوب ولم ينسبها وقرىء » خُلف «بضم الخاء ، ويقوي قول الطبري أن لفظة » الخلاف «هي مصدر من خالف ما تظاهرت به الروايات من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر فعصوا وخالفوا وقعدوا مستأذنين .
وقال محمد بن كعب : قال { لا تنفروا في الحر } رجل من بني سلمة .
وقال ابن عباس : قال رجل يا رسول الله الحر شديد فلا تنفر في الحر ، قال النقاش : وفي قراءة عبد الله » يعلمون «بدل { يفقهون } .
استئناف ابتدائي . وهذه الآية تشير إلى ما حصل للمنافقين عند الاستنفار لغزوة تبوك فيكون المراد بالمخلّفين خصوص من تخلّف عن غزوة تبوك من المنافقين .
ومناسبة وقوعها في هذا الموضع أنّ فرحهم بتخلّفهم قد قَوِي لمّا استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم وظنّوا أنّهم استغفلوه فقضَوا مأربهم ثم حصَّلوا الاستغفار ظنّاً منهم بأنّ معاملة الله إياهم تجري على ظواهر الأمور .
فالمخلَّفون هم الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فأذِن لهم وكانوا من المنافقين فلذلك أطلق عليهم في الآية وصف المخلّفين بصيغة اسم المفعول لأنّ النبي خلَّفهم ، وفيه إيماء إلى أنّه ما أذن لهم في التخلّف إلاّ لعلمه بفساد قلوبهم ، وأنّهم لا يغنون عن المسلمين شيئاً كما قال : { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } [ التوبة : 47 ] .
وذكر فرحهم دلالة على نفاقهم لأنّهم لو كانوا مؤمنين لكان التخلّف نكداً عليهم ونغصاً كما وقع للثلاثة الذين خلّفوا فتاب الله عليهم .
والمَقْعد هنا مصدر ميمي أي بقعودهم .
و { خِلاَف } لغة في خَلْف . يقال : أقام خلاف الحي بمعنى بَعدهم ، أي ظعنوا ولم يظعن . ومن نكتة اختيار لفظ خلاف دون خَلْف أنّه يشير إلى أن قعودهم كان مخالفة لإرادة رسول الله حين استنفر الناس كلّهم للغزو . ولذلك جعله بعضُ المفسّرين منصوباً على المفعول له ، أي بمقعدهم لمخالفة أمر الرسول .
وكراهيتُهم الجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله خصلة أخرى من خصال النفاق لأنّ الله أمر بذلك في الآية المتقدمة { وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } [ التوبة : 41 ] الآية ، ولكونها خصلةً أخرى جُعلت جملتها معطوفة ولم تجعل مقترنة بلام التعليل مع أنّ فرحهم بالقعود سببه هو الكراهية للجهاد .
وقولُهم : { لا تنفروا في الحر } خطابُ بعضهم بعضاً وكانت غزوة تبوك في وقت الحرّ حين طابت الظلال .
وجملة : { قل نار جهنم أشد حراً } مستأنفة ابتدائية خطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم والمقصود قرع أسماعهم بهذا الكلام .
وكونُ نار جهنّم أشدّ حرّاً من حرّ القيظ أمر معلوم لا يتعلّق الغرض بالإخبار عنه . فتعيّن أنّ الخبر مستعمل في التذكير بما هو معلوم تعريضاً بتجهيلهم لأنّهم حذروا من حرّ قليل وأقحموا أنفسهم فيما يصير بهم إلى حرّ أشدّ . فيكون هذا التذكير كناية عن كونهم واقعين في نار جهنّم لأجل قعودهم عن الغزو في الحرّ ، وفيه كناية عُرضية عن كونهم صائرين إلى نار جهنّم .
وجملة : { لو كانوا يفقهون } تتميم ، للتجهيل والتذكير ، أي يقال لهم ذلك لو كانوا يفقهون الذكرى ، ولكنّهم لا يفقهون ، فلا تجدي فيهم الذكرى والموعظة ، إذا ليس المراد لو كانوا يفقهون أنّ نار جهنم أشدّ حرّاً لأنّه لا يخفى عليهم ولو كانوا يفقهون أنّهم صائرون إلى النار ولكنّهم لا يفقهون ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فرح المخلفون بمقعدهم} عن غزاة تبوك، {خلاف رسول الله} وهم بضع وثمانون رجلا، منهم من اعتل بالعسرة، وبغير ذلك، {وكرهوا أن يجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وقالوا} بعضهم لبعض: {لا تنفروا في الحر} مع محمد صلى الله عليه وسلم إلى غزاة تبوك... {قل} يا محمد: {نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فرح الذين خلفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه "بمقعدهم خِلافَ رَسُولِ اللّهِ "يقول: بجلوسهم في منازلهم "خلاف رسول الله"، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه ومقعده. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنفر إلى جهاد أعداء الله، فخالفوا أمره وجلسوا في منازلهم... وقد تأوّل بعضهم ذلك، بمعنى: بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم... وذلك قريب لمعنى ما قلنا، لأنهم قعدوا بعده على الخلاف له.
وقوله: "وكَرِهُوا أنْ يُجاهِدُوا بأمُوَالِهِمْ وأنْفُسِهمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: وكره هؤلاء المخلفون أن يغزوا الكفار بأموالهم وأنفسهم "في سبيل الله" يعني: في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه، ميلاً إلى الدّعَة والخَفْض، وإيثارا للراحة على التعب والمشقة، وشُحّا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله.
"وَقالُوا لا تَنْفِرُوا في الحَرّ" وذلك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة، وهي غزوة تبوك، في حرّ شديد، فقال المنافقون بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحرّ، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: نار جهنم التي أعدّها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله، أشدّ حرّا من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه، يقول: الذي هو أشدّ حرّا أحرى أن يُحذر ويُتقي من الذي هو أقلهما أذى، "لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ" يقول: لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظه ويتدبرون آي كتابه، ولكنهم لا يفقهون عن الله، فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروها وأخفه أذى، ويوافقون أشدّه مكروها وأعظمه على من يصلاه بلاء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ...) جمعوا؛ أعني المنافقين جميع خصال الشر التي فعلوا: أحدها: ما ذكر من فرحهم بالتخلف عن رسول. والثاني كراهتهم الجهاد مع رسول الله وبخلهم بأموالهم. والثالث: صدهم الناس عن الجهاد والخروج في سبيل الله بقولهم: (لا تنفروا في الحر) جمع الله جميع خصال المنافقين في هذه الآية.
وقوله: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ)، ذُكر المخلفون، وهم كانوا متخلفين في الحقيقة، لكنه يحتمل وجهين:
مخلفون خلفهم اللَّه لما ذكر أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالا، وأنهم يبغون الفتنة خلفهم عن ذلك؛ كقوله: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ)، قيل: حبسهم؛ فعلى ذلك مخلفون خلفهم اللَّه لما علم أن خروجهم لا يزيدهم إلا خبالًا وفسادًا.
ويحتمل: مخلفون خلفهم أصحاب رسول اللَّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنهم لو أرادوا أن يخرجوهم كرهًا لقدروا على ذلك، فهم كالمخلفين من هذا الوجه لما لو أرادوا إخراجهم أخرجوهم، وإن كانوا متخلفين في الحقيقة.
وقوله: (بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ) أي: مخالفة رسول اللَّه، وقرئ: (خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ)، أي: فرحوا لقعودهم بعد خروج رسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -.
وقوله: (بِمَقْعَدِهِمْ) يحتمل: القعود، أي: بقعودهم خلفه.
ويحتمل: (بِمَقْعَدِهِمْ)، أي: موضع قعودهم، وهو منازلهم وأوطانهم، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم؛ لبخلهم وخلافهم الذي في قلوبهم.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) هذا في الظاهر يخرج على إظهار الشفقة للمؤمنين، ولكن لم يكونوا أرادوا ذلك؛ إنما أرادوا حبسهم عن الخروج في سبيل اللَّه، لكن المؤمنين لا يمتنعون عن الخروج في سبيل اللَّه؛ إذ قالوا لهم مطلقًا:"لا تنفروا"، وهو كقوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) كانوا يجبِّنون المؤمنين عن الخروج إلى الغزو، وكانوا يحتالون في منعهم المؤمنين عن الخروج في سبيل اللَّه، ولو أطلقوا القول في المنع وصرحوه لفهم المؤمنون ذلك، ولظهر نفاقهم.
وجائز أن يكون قولهم: (لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) قالوا ذلك لأتباعهم، لا للمؤمنين؛ كقوله: (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى).
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) أي: لو كانوا يفقهون، ما أنزل على رسول اللَّه لعلموا أن نار جهنم أشد حرًّا من حر الدنيا.
أو لو كانوا يفقهون أنهم لم يخلقوا في الدنيا للدنيا خاصّة، ولكن خلقهم فيها ليمتحنهم؛ لعلموا أن الموعود في الآخرة أشد مما امتحنوا في الدنيا، واللَّه أعلم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {فَرَحَ الْمُخَلَّفُونَ} أي المتروكون...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
استحوذ عليهم سرورُهم بتخلفهم، ولم يعلموا أن ثبورَهم في تأخرهم وما آثروه من راحة نفوسهم على أداء حق الله، والخروج في صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فنزع الله الراحةَ بما عاقَبَهم، وسَيَصْلَوْنَ سعيراً في الآخرة بما قدَّموه من نفاقهم، وسوف يتحسَّرُون ولات حينَ تحسُّر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{المخلفون} الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان {بِمَقْعَدِهِمْ} بقعودهم عن الغزو {خلاف رَسُولِ الله} خلفه. يقال: أقام خلاف الحي. بمعنى بعدهم، ظعنوا ولم يظعن معهم... وقيل: هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض...
{أَن يجاهدوا بأموالهم وَأَنْفُسِهِمْ} تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاقّ العظام لوجه لله تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل الله تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض، وكره ذلك المنافقون، وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الإيمان وداعي الإيقان.
{قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّا} استجهال لهم، لأنّ من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوُّن في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل.
اعلم أن هذا نوع آخر من قبائح أعمال المنافقين، وهو فرحهم بالقعود وكراهتهم الجهاد قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، والمخلف المتروك ممن مضى. فإن قيل: إنهم احتالوا حتى تخلفوا، فكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون. والجواب من وجوه:
والثاني: أن أولئك المتخلفين صاروا مخلفين في الآية التي تأتي بعد هذه الآية، وهي قوله: {فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا} فلما منعهم الله تعالى من الخروج معه صاروا بهذا السبب مخلفين.
الثالث: أن من يتخلف عن الرسول عليه السلام بعد خروجه إلى الجهاد مع المؤمنين يوصف بأنه مخلف من حيث لم ينهض فبقي وأقام. وقوله: {بمقعدهم} قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريد المدينة، فعلى هذا المقعد اسم للمكان. وقال مقاتل: {بمقعدهم} بقعودهم وعلى هذا، هو اسم للمصدر...
وقوله: {وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله} والمعنى أنهم فرحوا بسبب التخلف وكرهوا الذهاب إلى الغزو. واعلم أن الفرح بالإقامة على كراهة الذهاب إلا أنه تعالى أعاده للتأكيد، وأيضا لعل المراد أنه مال طبعه إلى الإقامة لأجل إلفه تلك البلدة واستئناسه بأهله وولده وكره الخروج إلى الغزو لأنه تعريض للمال والنفس للقتل والإهدار، وأيضا مما منعهم من ذلك الخروج شدة الحر في وقت خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المراد من قوله: {وقالوا لا تنفروا في الحر}. فأجاب الله تعالى عن هذا السبب الأخير بقوله: {قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون} أي إن بعد هذه الدار دارا أخرى، وإن بعد هذه الحياة حياة أخرى، وأيضا هذه مشقة منقضية، وتلك مشقة باقية،...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما علل سبحانه عدم المغفرة بفسقهم، وأتى بالظاهر موضع المضمر إشارة إلى اتصافهم به وتعليقاً للحكم بالوصف، علل رسوخهم في الفسق بعد أن قدم أن المنافقين بعضهم من بعض فهم كالجسد الواحد بقوله: {فرح المخلفون} أي الذين وقع تخليفهم بإذنك لهم وكراهة الله لانبعاثهم {بمقعدهم} أي قعودهم عن غزوة تبوك، ولعله عبر بهذا المصدر لصلاحيته لموضع القعود ليكون بدلالته على الفرح أعظم دلالة على الفرح بالموضع، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأظهر الوصف بالتخلف موضع الضمير زيادة في تهجين ما رضوا به لأنفسهم، وزاده تهجيناً أيضاً بقوله: {خلاف} أي بعد و خلف أو لأجل خلاف {رسول الله} أي الملك الأعظم الذي من تخلف عن حزبه هلك {وكرهوا أن يجاهدوا}. ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها، و تارة بقبض اليد عن بذلها، وتارة بالاستمتاع بالخلاف الذي هو النصيب أعم من أن يكون بالمال أو النفس، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله: {بأموالهم و أنفسهم} على قوله: {في سبيل الله} أي طريق الملك الذي له صفات الكمال، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان الذي بعث المؤمنين، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم، ففعلوا ذلك كله {وقالوا} أي لغيرهم {لا تنفروا في الحر} بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر. ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله، أمره تعالى أن يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليهم بقوله: {قل} أي يا أعلم بخلقنا استجهالاً لهم {نار جهنم} أي التي أعدها الله لمن خالف أمره {أشد حرّاً} ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يتشبهوا بهم طمعاً في الحلم فقال تعالى: {لو كانوا} أي المنافقون {يفقهون} أي لو كان بهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه، لأن من فر من حر ساعة إلى حر الأبد كان أجهل الجهال...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال عز وجل: {فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله}، الفرح: شعور النفس بالارتياح والسرور، والخلاف: مصدر خالفه يخالف كالمخالفة، واستعمل ظرفا بمعنى بعد وخلف، قال في الأساس: وجلست خلاف فلان وخلفه أي بعده. اه. ومنه {وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا} [الإسراء: 76]، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص، وقرأ الباقون [خلفك]، واستشهد اللسان على هذه اللغة ببضعة شواهد، وههنا يصح المعنيان.
والمخلَّفون اسم مفعول من خلَّف فلاناً وراءه [بالتشديد] إذا تركه خلفه. والمعنى فرح المخلفون من هؤلاء المنافقين، أي الذين تركهم الرسول صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى غزوة تبوك بقعودهم في بيوتهم مخالفين لله تعالى وله، وهذا المعنى أصح هنا، وإنما فرحوا لأنهم لا يؤمنون بما في الخروج معه من الأجر العظيم الذي لا تذكر بجانبه راحة القعود في البيوت شيئاً.
{وقالوا لا تنفروا في الحر} أي قالوا لإخوانهم في النفاق: لا تنفروا معه في الحر، نهيا لهم عن المعروف وإغراء بالثبات على المنكر، وهو عدم النفر، أو قالوه تثبيتاً لهم فيه، وتثبيطاً للمؤمنين عنه.
{قل نار جهنم أشد حرا} أي قل أيها الرسول تفنيدا لقولهم وتسفيهاً لحلومهم: نار جهنم التي أعدها الله تعالى لمن عصاه وعصى رسوله أشد حراً من تلك الأيام في أوائل فصل الخريف فهو لا يلبث أن يخف ويزول، على كونه مما تحتمله الجسوم، وأما نار جهنم فحرها على شدته دائم، فهو يلفح وجوههم، وينضج جلودهم، وينزع شواهم، وفي هذا أكبر عبرة لمن يتركون الجهاد وغيره من الواجبات إيثاراً للراحة والنعيم، وما يفعله في حال وجوبه عليهم إلا المنافقون، ثم قال:
{لو كانوا يفقهون} أي لو كانوا يعقلون ذلك ويعتبرون به لما خالفوا أو قعدوا، ولما فرحوا بقعودهم إذ أجرموا فقعدوا، بل لحزنوا واكتأبوا، وبكوا وانتحبوا، كما فعل المؤمنون الذين أرادوا الخروج والنفقة فعجزوا، وسيأتي بيان لحالهم قريباً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
... هؤلاء الذين أدركتهم ثقلة الأرض، ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة، وقعد بهم ضعف الهمة وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان.. هؤلاء المخلفون -والتعبير يلقي ظل الإهمال كما لو كانوا متاعاً يخلف أو هملاً يُترك- فرحوا بالسلامة والراحة (خلاف رسول الله) وتركوا المجاهدين يلاقون الحر والجهد، وحسبوا أن السلامة العامة غاية يحرص عليها الرجال! (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه) (وقالوا: لا تنفروا في الحر) وهي قولة المسترخي الناعم الذي لا يصلح لشيء مما يصلح له الرجال. إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة؛ وكثيرون هم الذين يشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز، وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوف الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، ولكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات والأشواك، لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات والأشواك فطرة في الإنسان، وأنه ألذ وأجمل من القعود والتخلف والراحة البليدة التي لا تليق بالرجال. والنص يرد عليهم بالتهكم المنطوي على الحقيقة: (وقالوا: لا تنفروا في الحر. قل: نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون). فإن كانوا يشفقون من حر الأرض، ويؤثرون الراحة المسترخية في الظلال، فكيف بهم في حر جهنم وهي أشد حراً، وأطول أمداً؟ وإنها لسخرية مريرة، ولكنها كذلك حقيقة، فإما كفاح في سبيل اللّه فترة محدودة في حر الأرض، وإما انطراح في جهنم لا يعلم مداه إلا اللّه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
... وكونُ نار جهنّم أشدّ حرّاً من حرّ القيظ أمر معلوم لا يتعلّق الغرض بالإخبار عنه. فتعيّن أنّ الخبر مستعمل في التذكير بما هو معلوم تعريضاً بتجهيلهم لأنّهم حذروا من حرّ قليل وأقحموا أنفسهم فيما يصير بهم إلى حرّ أشدّ. فيكون هذا التذكير كناية عن كونهم واقعين في نار جهنّم لأجل قعودهم عن الغزو في الحرّ، وفيه كناية عُرضية عن كونهم صائرين إلى نار جهنّم. وجملة: {لو كانوا يفقهون} تتميم، للتجهيل والتذكير، أي يقال لهم ذلك لو كانوا يفقهون الذكرى، ولكنّهم لا يفقهون، فلا تجدي فيهم الذكرى والموعظة، إذا ليس المراد لو كانوا يفقهون أنّ نار جهنم أشدّ حرّاً لأنّه لا يخفى عليهم ولو كانوا يفقهون أنّهم صائرون إلى النار ولكنّهم لا يفقهون ذلك.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...وهذه جولة مع هؤلاء المخلفين الذين استأذنوا النبي في البقاء في المدينة، وتخلّفوا عن الخروج معه، من أجل رصد الحالة النفسية التي كانوا يعيشونها، وعرض أساليبهم في التخذيل والتثبيط عن الخروج للحرب والانطلاق مع خط الجهاد، ثم توجيه النبي إلى ما ينبغي له أن يواجه به هؤلاء من الموقف الحاسم الرافض لكل أعذارهم وأساليبهم، لئلا يظنوا في أنفسهم أنهم استطاعوا استغفال النبي والمسلمين في ما تنطوي عليه نفوسهم، وفي ما يخططون له من أعمال التخريب؛ الفرح للتخلّف عن الجهاد:
{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ} الذين تخلّفوا عن الخروج إلى المعركة
{بِمَقْعَدِهِمْ خلافَ رَسُولِ اللَّهِ} أي بعد خروجه على وجه أو مخالفة له على وجهٍ آخر. فها هم يشعرون بأنهم قد نجحوا في أسلوبهم في إقناع النبي بمنحهم الإذن لهم في عدم الخروج، وبذلك ارتفع الحرج عنهم، والذي كانوا سيعيشونه لو لم يأذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم سوف يواجهون إحدى مشكلتين، إمّا التمرّد الذي يفضح واقعهم الداخليّ أمام المسلمين، وإمّا الخروج الذي يعرّضهم للخطر في المعركة، فها هم الآن يجدون أنفسهم وقد تخلّصوا من ذلك كله، فأيّة فرحةٍ هي هذه الفرحة الذاتية في هذه اللحظات السعيدة التي تمثل الربح كله والفرح كله على مستوى الأجواء الملائمة والنتائج الإيجابية للخطة المرسومة.
{وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لأنهم لا يعيشون الإخلاص له، لكي يتحركوا في سبيل الأهداف الكبيرة التي يريدها في خطّ التضحية بالمال والنفس، ولهذا فإن ردّ الفعل الطبيعي لديهم أمام دعوات الجهاد هو المقت والكراهية التي قد يحاولون إخفاءها ولكنهم لا يملكون السبيل إلى ذلك، فيستسلمون للفضيحة عند أوّل بادرةٍ من كلمةٍ أو فعل أو حركةٍ مضادّةٍ. التحجج بالحر: وقد أراد الله أن يواجههم بذلك ليعرفوا أنهم لا يملكون أساساً للأمن، في ما يضمرون ويتآمرون، ويبدأ استعراض أساليبهم في تثبيط الناس عن الخروج للجهاد. {وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ} وانتظروا زوال شدّته ومجيء الفصل المعتدل الذي يبرد فيه الجوّ، فيعين الإنسان على تحمّل مشقّة الجهاد، ليخلقوا بذلك حالةً من الارتباك والبلبلة في صفوف المسلمين، وليثيروا في أنفسهم الشعور بالموانع والمشاكل التي تعترضهم في طريق الجهاد، ولكن الله يثير أمامهم وأمام المسلمين مشكلة الحرّ من طريقٍ آخر، وهي قضية الحرّ في الآخرة الذي ينتظرهم في نار جهنّم إذا تخلّفوا عن رسول الله وعصوا أمر الجهاد، فعليهم أن يوازنوا بين حرارة الجو وحرارة النار، فأيّهما يفضلون؟ ولا يتركهم الله ليختاروا وليفكروا في ذلك، بل يعطيهم الفكرة الحاسمة: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} ويفهمون، ليعرفوا نتائج منطقهم وأسلوبهم في التخذيل والتنفير...