قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى } . وهو وحي إلهام لا وحي نبوة ، قال قتادة : قذفنا في قلبها ، وأم موسى يوحابذ ينت لاوى بن يعقوب ، { أن أرضعيه } واختلفوا في مدة الرضاع ، قيل ثمانية أشهر ، وقيل : أربعة أشهر . وقيل : ثلاثة أشهر كانت ترضعه في حجرها ، وهو يبكي ولا يتحرك ، { فإذا خفت عليه } يعني : من الذبح ، { فألقيه في اليم } واليم : البحر ، وأراد هاهنا النيل ، { ولا تخافي } قيل : لا تخافي عليه من الغرق ، وقيل : من الضيعة ، { ولا تحزني } على فراقه ، { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } روى عطاء عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إن بني إسرائيل لما كثروا بمصر ، استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلط الله عليهم القبط فاستضعفوهم إلى أن أنجاهم الله على يد نبيه . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن أم موسى لما تقاربت ولادتها ، وكانت قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأم موسى ، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها فقالت : قد نزل بي ما نزل ، فلينفعني حبك إياي اليوم ، قالت : فعالجت قبالتها ، فلما أن وقع موسى بالأرض هالها نور بين عيني موسى ، فارتعش كل مفصل منها ، ودخل حب موسى قلبها . ثم قالت لها : يا هذا ما جئت إليك حين دعوتني إلا ومرادي قتل مولودك ، ولكن وجدت لابنك هذا حباً ما وجدت حب شيء مثل حبه ، فاحفظي ابنك فإني أراه هو عدونا ، فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون ، فجاؤوا إلى بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أخته يا أماه هذا الحرس بالباب ، فلفت موسى في خرقة ، فوضعته في التنور وهو مسجور ، وطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع . قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ، ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن ، فقالوا لها : ما أدخل عليك القابلة ؟ قالت : هي مصافية لي فدخلت علي زائرة ، فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها فقالت لأخت موسى : فأين الصبي ؟ قالت لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله سبحانه وتعالى النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته . قال : ثم إن أم موسى لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله في قلبها أن تتخذ له تابوتاً فتجعله فيه ثم تقذف التابوت في اليم وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من قوم فرعون فاشترت منه تابوتاً صغيراً ، فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت ، قالت : ابن لي أخبئه في التابوت ، وكرهت الكذب ، قال ولم تقل : أخشى عليه كيد فرعون ، فلما اشترت التابوت وحملته وانطلقت به انطلق النجار إلى الذباحين ليخبرهم بأمر أم موسى ، فلما هم بالكلام أمسك الله لسانه فلم يطق الكلام ، وجعل يشير بيده فلم يدر الأمناء ما يقول ، فلما أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه فضربوه وأخرجوه ، فلما انتهى النجار إلى موضعه رد الله عليه لسانه فتكلم ، فانطلق أيضاً يريد الأمناء فأتاهم ليخبرهم فأخذ الله لسانه وبصره فلم يطق الكلام ولم يبصر شيئاً ، فضربوه وأخرجوه ، فوقع في واد يهوي فيه حيران ، فجعل لله عليه إن رد لسانه وبصره أن لا يدل عليه وأن يكون معه يحفظه حيثما كان ، فعرف الله منه الصدق فرد عليه لسانه وبصره فخر لله ساجداً ، فقال : يا رب دلني على هذا العبد الصالح ، فدله الله عليه ، فخرج من الوادي فآمن به وصدقه ، وعلم أن ذلك من الله عز وجل . وقال وهب بن منبه : لما حملت أم موسى بموسى كتمت أمرها جميع الناس ، فلم يطلع على حبلها أحد من خلق الله ، وذلك شيء ستره الله لما أراد أن يمن به على بني إسرائيل ، فلما كانت السنة التي يولد فيها بعث فرعون القوابل وتقدم إليهن يفتشن النساء تفتيشاً لم يفتشن قبل ذلك مثله ، وحملت أم موسى ، فلم ينتأ بطنها ، ولم يتغير لونها ، ولم يظهر لبنها ، وكانت القوابل لا تتعرض لها ، فلما كانت الليلة التي ولد فيها ولدته ولا رقيب عليها ولا قابلة ، ولم يطلع عليها أحد إلا أخته مريم ، فأوحى الله إليها أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه الآية ، فكتمته أمه ثلاثة أشهر ترضعه في حجرها ، لا يبكي ولا يتحرك ، فلما خافت عليه عملت تابوتاً له مطبقاً ثم ألقته في البحر ليلاً . قال ابن عباس وغيره : وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون ، وكان بها برص شديد ، وكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة فنظروا في أمرها ، فقالوا أيها الملك : لا تبرأ إلا من قبل البحر ، يوجد فيه شبه الإنسان فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس ، فلما كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان على شفير النيل ومعه امرأته آسية بنت مزاحم ، وأقبلت ابنة فرعون في جواريها حتى جلست على شاطيء النيل مع جواريها تلاعبهن وتنضح الماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إن هذا لشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فدنت منه آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها فعالجته ففتحت الباب فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بن عينيه ، وقد جعل الله رزقه في إبهامه يمصه لبناً ، فألقى الله لموسى المحبة في قلب آسية ، وأحبه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلما أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه فلطخت به برصها فبرأت ، فقبلته وضمته إلى صدرها ، فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر منه بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فرقاً منك فاقتله ، فهم فرعون بقتله ، قالت آسية :قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ، وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون فوهبه لها ، وقال فرعون أما أنا فلا حاجة لي فيه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها " فقيل لآسية سميه فقالت : سميته موسى لأنا وجدناه في الماء والشجر فموهو : الماء وسى : هو الشجر .
ثم فصل - سبحانه - الحديث عن موسى - عليه السلام - فذكر ما ألهمه لأمه عند ولادته . وما قالته امرأة فرعون له عند التقاط آل فرعون لموسى ، وما كانت عليه أم موسى من حيرة وقلق ، وما قالته لأخته ، وكيف رد الله - تعالى - بفضله وكرمه موسى إلى أمه . .
لنستمع إلى السورة الكريمة ، وهى تفصل هذه الأحداث ، بأسلوبها البديع المؤثر فتقول : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ . . . } .
قال الإمام الرازى : اعلم أنه - تعالى - لما قال : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا } ابتدأ بذكر أوائل نعمه فى هذا الباب فقال : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } .
والوحى إلى أم موسى ، يجوز أن يكون عن طريق الإلهام ، كما فى قوله - تعالى - : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل . . } أو عن طريق المنام ، أو عن طريق إرسال ملك أخبرها بذلك .
قال الآلوسى : والظاهر أن الإيحاء إليها كان بإرسال ملك ، ولا ينافى ذلك الإجماع على عدم نبوتها ، لما أن الملائكة - عليهم السلام - قد ترسل إلى غير الأنبياء وتكلمهم .
والظاهر - أيضا - أن هذا الإيحاء كان بعد الولادة . . وقيل : كان قبلها . . .
و { أَنْ } فى قوله { أَنْ أَرْضِعِيهِ } مفسرة ، لأن الوحى فيه معنى القول دون حروفه .
والخوف : حالة نفسية تعترى الإنسان ، فتجعله مضطرب المشاعر ، لتوقعه حصول أمر يكرهه .
والحزن : اكتئاب نفسى يحدث للإنسان من أجل وقوع ما يكرهه ، كموت عزيز لديه . أو فقده لشىء يحبه .
وفى الكلام حذف يعرف من السياق ، والتقدير : وحملت أم موسى به فى الوقت الذى كان فرعون يذبح الأبناء ، ويستحيى النساء ، وأخفت حملها عن غيرها ، فلما وضعته اصابها ما أصابها من خوف وفزع على مصير ابنها ، وهنا ألهمناها بقدرتنا وإرادتنا . وقذفنا فى قلبها أن أرضعيه فى خفاء وكتمان { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } من فرعون وحاشيته أن يقتلوه كما قتلوا غيره من أبناء بنى إسرائيل .
{ فَأَلْقِيهِ فِي اليم } أى : فى البحر والمراد به نهر النيل ، وسمى بحرا لاتساعه ، وإن كان الغالب إطلاق البحر على المياه غير العذبة .
{ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } أى : ولا تخافى عليه من حصول مكروه له ، ولا تحزنى لمفارقته لك ، فهو فى رعايتنا وحمايتنا ، ومن رعاه الله - تعالى - وحماه ، فلا خوف عليه ولا حزن .
وجملة { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } تعليل لنهى عن الخوف والحزن ، وتبشير لها بأن ابنها سيعود إليها ، وسيكون من رسل الله - عز وجل - .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما المراد بالخوفين - فى الآية - حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر ؟
قلت : أما الأول ، فالخوف عليه من القتل ، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته ، فينموا عليه . وأما الثانى : فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ، ومن الوقوع فى يد بعض العيون المبثوتة من قبل فرعون لى تطلب الولدان .
فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن ؟ قلت : الخوف ، غم يلحق الإنسان لشىء متوقع .
والحزن : غم يلحقه لشىء وقع ، فنهيت عنهما جميعا وأومنت بالوحى إليها ، ووعدت بما يلسيها ، ويمطئن قلبها ، ويملؤها غبطة وسرورا ، وهو رده إليها . وجعله من المرسلين .
وهكذا نجد الآية الكريمة قد اشتملت على أبلغ الأساليب وأبدعها ، فى بيان قدرة الله - تعالى - ورعايته لمن يريد رعايته .
قالوا : مدح الأصمعى امرأة لإنشادها شعرا حسنا ، فقرأت هذه الآية الكريمة قم قالت له : أبعد هذه الآية فصاحة ، لقد اشتملت على أمرين وهما { أَرْضِعِيهِ } { فَأَلْقِيهِ } ونهيين وهما { لاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني } وخبرين { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } وبشارتين فى ضمن الخبرين وهما : الرد والجعل المذكوران .
ثم تبدأ القصة . ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار :
لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة ؛ ولد والخطر محدق به ، والموت يتلفت عليه ، والشفرة مشرعة على عنقه ، تهم أن تحتز رأسه . .
وها هي ذي أمه حائرة به ، خائفة عليه ، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين ، وترجف أن تتناول عنقه السكين ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة ، عاجزة عن حمايته ، عاجزة عن إخفائه ، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه ؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة . . ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة .
هنا تتدخل يد القدرة ، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة ، وتلقي في روعها كيف تعمل ، وتوحي إليها بالتصرف :
( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ، ولا تخافي ولا تحزني ) . .
يا لله ! يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه . فإذا خفت عليه وهو في حضنك . وهو في رعايتك . إذا خفت عليه وفي فمه ثديك ، وهو تحت عينيك . إذا خفت عليه ( فألقيه في اليم ) ! !
( ولا تخافي ولا تحزني )إنه هنا . . في اليم . . في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها ، اليد التي لا خوف معها . اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها . اليد التي تجعل النار بردا وسلاما ، وتجعل البحر ملجأ ومناما . اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب .
( إنا رادوه إليك ) . . فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده . . ( وجاعلوه من المرسلين ) . . وتلك بشارة الغد ، ووعد الله أصدق القائلين .
هذا هو المشهد الأول في القصة . مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح . وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردا وسلاما . ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى ، ولا كيف نفذته . إنما يسدل الستار عليها ، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني :
{ وأوحينا إلى أم موسى } بإلهام أو رؤيا . { أن أرضعيه } ما أمكنك إخفاؤه . { فإذا خفت عليه } بأن يحس به . { فألقيه في اليم } في البحر يريد النيل . { ولا تخافي } عليه ضيعة ولا شدة . { ولا تحزني } لفراقه . { إنا رادوه إليك } عن قريب بحيث تأمنين عليه . { وجاعلون من المرسلين } روي أنها لما ضر بها الطلق دعت قابلة من الموكلات بحبالى بني إسرائيل فعالجتها ، فلما وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعشت مفاصلها ودخل حبه في قلبها بحيث منعها من السعاية ، فأرضعته ثلاثة أشهر ثم ألح فرعون في طلب المواليد واجتهد العيون في تفحصها فأخذت له تابوتا فقذفته في النيل .
وهذا «الوحي » { إلى أم موسى } قالت فرقة : كان قولاً في منامها ، وقال قتادة : كان إلهاماً ، وقالت فرقة : كان بملك تمثل لها ، وأجمع الكل على أنها لم تكن نبية ، وإنما إرسال الملك لها على نحو تكليم الملك للأقرع والأبرص في الحديث المشهور{[9105]} وغير ذلك مما روي من تكليم الملائكة للناس من غير نبوة ، وجملة أمر أم موسى أنها علمت أن الذي وقع في نفسها هو من عند الله ووعد منه ، يقتضي ذلك قوله تعالى بعد : { رددناه إلى أمه كي تقرَّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق }{[9106]} [ القصص : 13 ] وهذا معنى قوله { لتكون من المؤمنين } [ القصص : 10 ] أي بالوعد ، وقال السدي وغيره : أمرت أن ترضعه عقب الولادة وتصنع به ما في الآية . لأن الخوف كان عقب كل ولادة ، وقال ابن جريج : أمرت برضاعه أربعة أشهر في بستان فإذا خافت أن يصيح لأن لبنها لا يكفيه ، صنعت به هذا .
قال القاضي أبو محمد : والأول أظهر إلا أن الآخر يعضده أمران : أحدهما قوله { فإذا خفت عليه } و «إذا » ظرف لما يستقبل من الزمان ، والآخر أنه لم يقبل المراضع والطفل إثر ولادته لا يعقل ذلك ، اللهم إلا أن يكون هذا منه بأن الله تعالى حرمها عليه وجعله يأباها بخلاف سائر الأطفال ، وقرأ عمرو بن عبد الواحد{[9107]} «أن ارضعيه » بكسر النون وذلك على حذف الهمزة عبطاً لا تخفيفاً ، والتخفيف القياسي فتح النون قاله ابن جني{[9108]} ، ونسب المهدوي هذه القراءة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه و { اليم } جمهور الماء ومعظمه ، والمراد نيل مصر ، وروي في قصص هذه الآية أن أم موسى واسمها يوحانه{[9109]} أخذته ولفته في ثيابه وجعلت له تابوتاً صغيراً وسدته عليه بقفل وعلقت مفتاحه عليه وأسلمته ثقة بالله وانتظاراً لوعده فلما غاب عنها عاودها بثها وأسفت عليه وأقنطها الشيطان فاهتمت به وكادت تفتضح وجعلت الأخت تقصه أي تطلب أثرة .
عطف على جملة { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا } [ القصص : 5 ] ، إذ الكل من أجزاء النبأ . وتتضمن هذه الجملة تفصيلاً لمجمل قوله { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا } ، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم .
والوحي هنا وحي إلهام يوجد عنده من انشراح الصدر ما يحقق عندها أنه خاطر من الواردات الإلهية . فإن الإلهام الصادق يعرض للصالحين فيوقع في نفوسهم يقيناً ينبعثون به إلى عمل ما ألهموا إليه . وقد يكون هذا الوحي برؤيا صادقة رأتها . وأم موسى لم يعرف اسمها في كتب اليهود ، وذكر المفسرون لها أسماء لا يوثق بصحتها .
وقوله { أن أرضعيه } تفسير ل { أوحينا } . والأمر بإرضاعه يؤذن بجمل طويت وهي أن الله لما أراد ذلك قدّر أن يكون مظهر ما أراده هو الجنين الذي في بطن أم موسى ووضعته أمه ، وخافت عليه اعتداء أنصار فرعون على وليدها وتحيرت في أمرها فألهمت أو أريت ما قصه الله هنا وفي مواضع أخرى .
والإرضاع الذي أمرت به يتضمن أن : أخفيه مدة ترضعه فيها فإذا خفت عليه أن يعرف خبره فألقيه في اليمّ .
وإنما أمرها الله بإرضاعه لتقوى بُنيته بلبان أمه فإنه أسعد بالطفل في أول عمره من لبان غيرها ، وليكون له من الرضاعة الأخيرة قبل إلقائه في اليمّ قوت يشد بنيته فيما بين قذفه في اليم وبين التقاط آل فرعون إياه وإيصاله إلى بيت فرعون وابتغاء المراضع ودلالة أخته إياهم على أمه إلى أن أُحضرت لإرضاعه فأرجع إليها بعد أن فارقها بعض يوم . وحكت كتب اليهود أن أم موسى خبأته ثلاثة أشهر ثم خافت أن يفشو أمره فوضعته في سفط مقيَّر وقذفته في النهر . وقد بشرها الله بما يزيل همها بأنه راده إليها وزاد على ذلك بما بشرها بما سيكون له من مقام كريم في الدنيا والآخرة بأنه { من المرسلين } .
والظاهر أن هذا الوحي إليها كان عند ولادته وأنها أمرت بأن تلقيه في اليم عندما ترى دلائل المخافة من جواسيس فرعون وذلك ليكون إلقاؤه في اليم عند الضرورة دفعاً للضر المحقق بالضر المشكوك فيه ثم ألقي في يقينها بأنه لا بأس عليه .
و { اليم } : البحر وهو هنا نهر النيل الذي كان يشق مدينة فرعون حيث منازل بني إسرائيل . واليم في كلام العرب مرادف البحر ، والبحر في كلامهم يطلق على الماء العظيم المستبحر ، فالنهر العظيم يسمى بحراً قال تعالى { وما يستوي البحران هذا عذاب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } [ فاطر : 12 ] ، فإن اليم من الأنهار .
وقد كانت هذه الآية مثالاً من أمثلة دقائق الإعجاز القرآني فذكر عياض في « الشفاء » والقرطبي في « التفسير » يزيد أحدهما على الآخر عن الأصمعي : أنه سمع جارية أعرابية تنشد :
أستغفر الله لأمري كله *** قتلت إنساناً بغير حله
مثل غزال ناعماً في دله *** انتصف الليل ولم أُصَلِّه
وهي تريد التورية بالقرآن . فقال لها : قاتلك الله ما أفصحك يريد ما أبلغك ( وكانوا يسمون البلاغة فصاحة ) فقالت له : أو يعد هذا فصاحة مع قوله تعالى { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } فجمع في آية واحدة خبرين ، وأمرين ، ونهيين ، وبشارتين .
فالخبران هما { وأوحينا إلى أم موسى } وقوله { فإذا خفت عليه } لأنه يشعر بأنها ستخاف عليه .
والأمران هما : { أرضعيه } و ( ألقيه ) .
والنهيان : { ولا تخافي } و { لا تحزني } .
والبشارتان : { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } .
والخوف : توقع أمر مكروه ، والحزن : حالة نفسية تنشأ من حادث مكروه للنفس كفوات أمر محبوب ، أو فقد حبيب ، أو بعده ، أو نحو ذلك .
والمعنى : لا تخافي عليه الهلاك من الإلقاء في اليم ، ولا تحزني على فراقه .
والنهي عن الخوف وعن الحزن نهي عن سببيهما وهما توقع المكروه والتفكر في وحشة الفراق .
وجملة { إنا رادوه إليك } في موقع العلة للنهيين لأن ضمان رده إليها يقتضي أنه لا يهلك وأنها لا تشتاق إليه بطول المغيب . وأما قوله { وجاعلوه من المرسلين } فإدخال للمسرة عليها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى" حين ولدت موسى "أنْ أرْضِعِيهِ".
وكان قَتادة يقول، في معنى ذلك "وأوْحَيْنا إلى أُمّ مُوسَى": قذفنا في قلبها...وليس بوحي نبوّة...
إن الله تعالى ذكره أمر أمّ موسى أن ترضعه، فإذا خافت عليه من عدوّ الله فرعون وجنده أن تلقيه في اليمّ. وجائز أن تكون خافتهم عليه بعد أشهر من ولادها إياه وأيّ ذلك كان، فقد فعلت ما أوحى الله إليها فيه، ولا خبر قامت به حجة، ولا فطرة في العقل لبيان أيّ ذلك كان من أيٍّ، فأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يُقال كما قال جلّ ثناؤه. واليمّ الذي أُمِرَت أن تلقيه فيه هو النيل...
وقوله: "وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي "يقول: لا تخافي على ولدك من فرعون وجنده أن يقتلوه، ولا تحزني لفراقه...
وقوله: "إنّا رَادّوهُ إلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ المُرْسَلِينَ" يقول: إنا رادّو ولدك إليك للرضاع لتكوني أنت ترضعيه، وباعثوه رسولاً إلى من تخافينه عليه أن يقتله، وفعل الله ذلك بها وبه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" ولا تخافي ولا تحزني "نهي من الله تعالى لها من الخوف والحزن، فإنه تعالى أراد أن يزيل خوف أم موسى بما وعدها الله من سلامته على أعظم الأمور في إلقائه في البحر الذي هو سبب الهلاك في ظاهر التقدير، لولا لطف الله تعالى بحفظه حتى يرده إلى أمه. ووعدها بأنه يرده عليها بقوله "إنا رادوه إليك "ووعدها أيضا بأن يجعله من جملة الأنبياء المرسلين بقوله" وجاعلوه من المرسلين".
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقد اشتملت الآية على أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين، أما الأمران: فقوله: (أن أرضعيه)، وقوله: (فألقيه في اليم)، وأما النهيان: فقوله: (ولا تخافي ولا تحزني)، وأما الخبران: فقوله: (وأوحينا إلى أم موسى) وكذلك قوله: (فإذا خفت عليه) وأما البشارتان: فقوله تعالى: (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين).
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت: أما الأوّل فالخوف عليه من القتل؛ لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه. وأما الثاني، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان، وغير ذلك من المخاوف. فإن قلت: ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت: الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع. والحزن: غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به، فنهيت عنهما جميعاً، وأومنت بالوحي إليها، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملأها غبطة وسروراً: وهو ردّه إليها وجعله من المرسلين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فكان ما أردناه، وطاح ما أراد غيرنا، فأولدنا من بني إسرائيل الولد الذي كان يحذره فرعون على ملكه، وكان يذبح أبناء بني إسرائيل لأجله، وقضينا بأن يسمى موسى، بسبب أنه يوجد بين ماء وشجر، ونربيه في بيت الذي يحذره ويحتاط لأجله، عطف على هذا المعلوم التقدير أول نعمة منّ بها على الذين استضعفوا فقال: {وأوحينا} أي أوصلنا بعظمتنا بطريق خفي، الله أعلم به هل هو ملك أو غيره، إذ لا بدع في تكليم الملائكة الولي من غير نبوة {إلى أم موسى} أي الذي أمضينا في قضائنا أنه يسمى بهذا الاسم، وأن يكون هلاك فرعون وزوال ملكه على يده، بعد أن ولدته وخافت أن يذبحه الذباحون {أن أرضعيه} ما كنت آمنة عليه، وحقق لها طلبهم لذبحه بقوله: {فإذا خفت عليه} أي منهم أن يصيح فيسمع فيذبح {فألقيه} أي بعد أن تضعيه في شيء يحفظه من الماء {في اليم} أي النيل، واتركي رضاعه، وعرفه وسماه يماً -واليم: البحر- لعظمته على غيره من الأنهار بكبره وكونه من الجنة، وما يحصل به من المنافع، وعدل عن لفظ البحر إلى اليم لأن القصد فيه أظهر من السعة؛ قال الرازي في اللوامع: وهذا إشارة إلى الثقة بالله، والثقة سواد عين التوكل، ونقطة دائرة التفويض، وسويداء قلب التسليم...
(ولا تخافي} أي لا يتجدد لك خوف أصلاً من أن يغرق أو يموت من ترك الرضاع وإن طال المدى أو يوصل إلى أذاه {ولا تحزني} أي ولا يوجد لك حزن لوقوع فراقه.
ولما كان الخوف عما يلحق المتوقع، والحزن عما يلحق الواقع، علل نهيه عن الأمرين، بقوله في جملة اسمية دالة على الثبات والدوام، مؤكدة لاستبعاد مضمونها: {إنا رادوه إليك} فأزال مقتضى الخوف والحزن؛ ثم زادها بشرى لا تقوم لها بشرى بقوله: {وجاعلوه من المرسلين} أي الذين هم خلاصة المخلوقين، والآية من الاحتباك، ذكر الإرضاع أولاً دليلاً على تركه ثانياَ، والخوف ثانياً دليلاً على الأمن أولاً، وسره أنه ذكر المحبوب لها تقوية لقلبها وتسكيناً لرعبها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم تبدأ القصة. ويبدأ التحدي وتنكشف يد القدرة تعمل سافرة بلا ستار: لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية التي رسمها قبل البدء في القصة؛ ولد والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، والشفرة مشرعة على عنقه، تهم أن تحتز رأسه.. وها هي ذي أمه حائرة به، خائفة عليه، تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه؛ عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة.. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة. هنا تتدخل يد القدرة، فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة، وتلقي في روعها كيف تعمل، وتوحي إليها بالتصرف: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني).. يا لله! يا للقدرة! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه (فألقيه في اليم)!! (ولا تخافي ولا تحزني) إنه هنا.. في اليم.. في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردا وسلاما، وتجعل البحر ملجأ ومناما. اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب. (إنا رادوه إليك).. فلا خوف على حياته ولا حزن على بعده.. (وجاعلوه من المرسلين).. وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين. هذا هو المشهد الأول في القصة. مشهد الأم الحائرة الخائفة القلقة الملهوفة تتلقى الإيحاء المطمئن المبشر المثبت المريح. وينزل هذا الإيحاء على القلب الواجف المحرور بردا وسلاما. ولا يذكر السياق كيف تلقته أم موسى، ولا كيف نفذته. إنما يسدل الستار عليها، ليرفعه فإذا نحن أمام المشهد الثاني:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا} [القصص: 5]، إذ الكل من أجزاء النبأ. وتتضمن هذه الجملة تفصيلاً لمجمل قوله {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا}، فإن الإرادة لما تعلقت بإنقاذ بني إسرائيل من الذل خلق الله المنقذ لهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من أجل رسم مثل حيّ لانتصار المستضعفين على المستكبرين، يدخل القرآن المجيد في سرد قصّة موسى وفرعون، ويتحدث بالخصوص عن مراحل يكون فيها موسى في أشدّ حالات الضعف، أمّا فرعون فهو في أقوى الحالات وأكثرها هيمنة.. ليتجسّد انتصار مشيئة الله على إرادة الجبابرة في أعلى الصور وأحسن الوجوه..