10- يا أيها الذين آمنوا : إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الشرك فاختبروهن لتعلموا صدق إيمانهن ، الله أعلم بحقيقة إيمانهن ، فإن اطمأننتم إلى إيمانهن فلا تردوهن إلى أزواجهن الكفار ، فلا المؤمنات بعد هذا حلال للكافرين ، ولا الكافرون حلال للمؤمنات ، وآتوا الأزواج الكافرين ما أنفقوا من الصداق على زوجاتهم المهاجرات إليكم ، ولا حرج عليكم أن تتزوجوا هؤلاء المهاجرات إذا آتيتموهن صداقهن ، ولا تتمسكوا بعقد زوجية الكافرات الباقيات في دار الشرك أو اللاحقات بها ، واطلبوا من الكفار ما أنفقتم من صداق على اللاحقات بدار الشرك وليطلبوا - هم - ما أنفقوا على زوجاتهم المهاجرات . ذلكم - التشريع - حكم الله ، يفصل به بينكم ، والله عليم بمصالح عباده ، حكيم في تشريعه .
قوله عز وجل :{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } الآية . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد ابن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة يخبران عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالا : " لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ ، كان فيما اشترط سهيل بن عمرو على النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لا يأتيك منا أحد -وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه . فكره المؤمنون ذلك وأبى سهيل إلا ذلك ، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ مهاجرة وهي عاتق ، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } إلى { ولا هم يحلون لهن } " قال عروة فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن بهذه الآية : { يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات } إلى قوله : { غفور رحيم } قال عروة : فأخبرتني عائشة رضي الله عنها : فمن أقرت بهذا الشرط منهن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قد بايعتك كلاماً يكلمها به ، والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة ما بايعهن إلا بقوله . قال ابن عباس : أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يردوه إليه ، وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه ، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم -وقال مقاتل : هو صيفي ابن الراهب- في طلبها ، وكان كافراً ، فقال : يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا ، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله عز وجل : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات } من دار الكفر إلى دار الإسلام ، { فامتحنوهن } قال ابن عباس : امتحانها : أن تستحلف ما خرجت لبغض زوجها ولا عشقاً لرجل من المسلمين ، ولا رغبة عن أرض إلى أرض ، ولا لحدث أحدثته ولا التماس دنيا ، وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ولرسوله . قال : فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك فحلفت فلم يردها ، وأعطى زوجها مهرها وما أنفق عليها ، فتزوجها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان ويعطي أزواجهن مهورهن . { الله أعلم بإيمانهن } أي هذا الامتحان لكم ، والله أعلم بإيمانهن ، { فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } ما أحل الله مؤمنة لكافر ، { وآتوهم } يعني أزواجهن الكفار ، { ما أنفقوا } عليهن يعني المهر الذي دفعوا إليهن ، { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن ، أباح الله نكاحهن للمسلمين ، وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهن وبين أزواجهن الكفار ، { ولا تمسكوا } قرأ أبو عمرو ، ويعقوب : بالتشديد ، والآخرون : بالتخفيف ، من الإمساك { بعصم الكوافر } والعصم : جمع عصمة ، وهي ما يعتصم به من العقد والنسب . والكوافر : جمع الكافرة ، نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات ، يقول : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتد بها فقد انقطعت عصمة الزوجية بينهما . قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأتين كانتا له بمكة مشركتين : قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة ، والأخرى أم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية أم ابنه عبد الله بن عمر ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم ، وهما على شركهما ، وكانت أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب تحت طلحة ابن عبيد الله ، فهاجر طلحة وهي بمكة على دين قومها ، ففرق الإسلام بينهما ، فتزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص بن أمية . قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وأقام أبو العاص بمكة مشركاً ، ثم أتى المدينة فأسلم ، فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . { واسألوا } أيها المؤمنون ، { ما أنفقتم } أي : إن لحقت امرأة منكم بالمشركين مرتدة فاسألوا ما أنفقتم من المهر إذا منعوها ممن تزوجها منهم ، { وليسألوا } يعني : المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم { ما أنفقوا } من المهر ممن تزوجها منكم ، { ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم } .
ثم انتقلت السورة الكريمة إلى بيان بعض الأحكام التى تتعلق بالنساء المؤمنات ، اللاتى تركن أزواجهن الكفار ، ورغبن فى الهجرة إلى دار السلام فقال - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا . . . . } .
قال الإمام القرطبى : قوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } : لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين ، واقتضى ذلك مهاجرة المسلمين عن بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة ، فبين - سبحانه - أحكام مهاجرة النساء .
قال ابن عباس : جرى الصلح مع مشركى قريش عام الحديبية على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم ، فجاءت سعيدة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبى - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية بعد ، فأقبل زوجها - وكان كافرا . . . فقال : يا محمد ، اردد على امرأتى ، فإنك شرطت ذلك ، وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية .
وقيل : " جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبى معيط ، فجاء أهلها يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يردها .
وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها فرد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخويها وحبسها ، فقالوا للنبى - صلى الله عليه وسلم - ردها علينا للشرط ، فقال : " كان الشرط فى الرجال لا فى النساء " فأنزل الله هذه الآية " ، والمعنى : يا من آمنتم بالله - تعالى - حق الإيمان ، { إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } ، من دار الكفر الى دار الإيمان ، وراغبات فى فراق الكافرين ، والبقاء معكم .
{ فامتحنوهن } أي : فاختبروهن اختبارا يغلب معه الظن بأنهن صادقات في هجرتهن وفي إيمانهن ، وفي موافقة قلوبهن لألسنتهن .
وقد ذكر ابن جرير فى كيفية امتحانهن صيغا منها : ما جاء عن ابن عباس أنه قال : كانت المرأة إذا أتت رسول الله - صلى الله عليها وسلم - حلفها بأنها ما خرجت بغضا لزوجها ، ولا رغبة فى الانتقال من أرض إلى أرض ، ولا التماسا لدنيا ، وإنما خرجت حبا لله ولرسوله .
وجملة : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } معترضة لبيان أن معرفة خفايا القلوب ، مردها إلى الله - تعالى - وحده .
قال صاحب الكشاف : قوله : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } أى : منكم ، لأنكم لا تكسبون فيه علما تطمئن معه نفوسكم ، وإن استحلفتموهن ودرستم أحوالهن ، وعند الله حقيقة العلم به .
والمراد بالعلم فى قوله - تعالى - : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } الظن الغالب ، أي : فإن غلب على ظنكم بعد امتحانهن أنهن مؤمنات صادقات فى إيمانهن ، فأبقوهن عندكم ، ولا ترجعوهن إلى أزواجهن أو إلى أهلهن من الكفار .
وسمى الظن القوي علما للإيذان بأنه كالعلم فى وجوب العمل بمقتضاه ، وإنما رد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرجال الذين جاءوه مؤمنين بعد صلح الحديبية ، ولم يرد النساء المؤمنات ، لأن شرط الرد كان فى الرجال ولم يكن فى النساء - كما سبق أن ذكرنا نقلا عن القرطبى - ، ولأن الرجل لا يخشى عليه من الفتنة فى الرد ما يخشى على المرأة ، من إصابة المشرك إياها ، وتخويفها ، وإكراهها على الردة .
قال بعض العلماء : قال كثير من المفسرين : إن هذه الآية مخصصة لما جاء فى معاهدة صلح الحديبية ، والتى كان فيها من جاء من الكفار مسلما إلى المسلمين ردوه إلى المشركين ، ومن جاء من المسلمين كافرا للمشركين ، لا يردونه على المسلمين ، فأخرجت الآية النساء من المعاهدة ، وأبقت الرجال ، من باب تخصيص العموم .
وتخصيص السنن بالقرآن ، وتخصيص القرآن بالسنن ، أمر معلوم .
ومن أمثلة تخصيص السنة بالكتاب ، قوله : - صلى الله عليه وسلم - : " ما أبين من حى فهو ميت " أى : فهو محرم ، فقد جاء تخصيص هذا العموم بقوله - تعالى - : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا } أى : ليس محرما ، ومن أمثلة تخصيص الكتاب بالسنة قوله - تعالى - : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } فقد جاء تخصيص هذا العموم بحديث : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " .
وقال بعض المفسرين : إنها ليست مخصصة للمعاهدة ، لأن النساء لم يدخلن فيها ابتداء ، وإنما كانت فى حق الرجال فقط .
والذي يظهر - والله أعلم - أنها مخصصة لمعاهدة الحديبية ، وهي من أحسن الأمثلة لتخصيص السنة بالقرآن - كما قال الإمام ابن كثير .
وقوله - سبحانه - : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } تعليل للنهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى دار الكفر ، أو إلى أزواجهن الكفار .
أى : لا ترجعوا - أيها المؤمنون - النساء المؤمنات المهاجرات إليكم من أرض الكفر إلى أزواجهن الكافرين ، فإن هؤلاء المؤمنات صرن بسبب إيمانهن لا يصح ارتباطهن بأزواجهن الكفار ، كما لا يصح لهؤلاء الكافرين الارتباط بالنساء المؤمنات .
فالجملة الكريمة المقصود بها تأكيد النهى عن رد المؤمنات المهاجرات إلى أرض الكفر ، ووجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر فى جميع الأحوال .
قال ابن كثير : هذه الآية هى التى حرمت المسلمات على المشركين وقد كان ذلك جائزا فى أول الإسلام ، أن يتزوج المشرك المؤمنة . . .
وقوله - تعالى - : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } بيان لمظهر من مظاهر عدالة الإسلام فى أحكامه . والخطاب لولاة الأمور . وهذا الإيتاء إنما هو للأزواج المعاهدين ، أما إذا كانوا حزبيين فلا يعطون شيئا .
أي : وسلموا إلى المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات ، ما دفعوه لهن من مهور ، قال القرطبى : قوله : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } : أمر الله - تعالى - إذا أُمسِكَتْ المرأة المسلمة ، أن يرد إلى زوجها المشرك ما أنفق ، وذلك من الوفاء بالعهد ، لأنه لما مُنِع من أهله ، بحرمة الإسلام ، أمر- سبحانه - برد المال إليه ، حتى لا يقع عليهم خسران من الوجهين : الزوجة والمال .
فالمراد بقوله - تعالى - { مَّآ أَنفَقُواْ } : ما دفعه المشركون لأزواجهم المؤمنات .
وعبر عن هذه المهور بالنفقة ، للإشعار بأن هؤلاء الزوجات المؤمنات ، أصبحت لا صلة لهن بأزواجهن المشركين .
وقوله - سبحانه - : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } تكريم لهؤلاء النساء المشركين ، وبعد استبرائكم لأرحامهن ، وعليكم أن تدفعوا لهن مهورهن كاملة غير منقوصة .
ونص على دف المهر لهن - مع أنه أمر معلوم - لكى لا يتوهم متوهم ، أن رد المهر إلى الزوج الكافر ، يغنى عن دفع مهر جديد لهن إذا تزوجن بعد ذلك بأزواج مسلمين ، إذ المهر المردود للكفار ، لا يقوم مقام المهر الذى يجب على المسلم إذا ما تزوج بامرأة مسلمة فارقت زوجها الكافر .
والمراد بالإيتاء : ما يشمل الدفع العاجل ، والتزام الدفع فى المستقبل .
ثم نهى الله - تعالى - المسلمين عن إبقاء الزوجات المشركات فى عصمتهم فقال : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
والعصم : جمع عصمة ، والمراد بها هنا : عقد النكاح الذي يربط بين الزوج والزوجة ، والكوافر : جمع كافرة ، كضوارب جمع ضاربة .
أي : ولا يصح لكم - أيها المؤمنون - أن تبقوا فى عصمتكم ، زوجاتكم اللائي آثرن الكفر على الإيمان ، وأبين الهجرة معكم من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وقد بادر المسلمون بعد نزول هذه الآية بتطليق زوجاتهم الكافرات فطلق عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - امرأتين له كانتا مشركتين ، وطلق طلحة بن عبيد الله إحدى زوجاته وكانت مشركة .
وهذه الجلمة الكريمة تأكيد لقوله - تعالى - قبل ذلك : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } .
ثم بين - سبحانه - حكما آخر من الأحكام التى تدل على عدالة الإسلام فى تشريعاته فقال : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } والجملة الكريمة معطوفة على قوله - تعالى - قبل ذلك : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } .
أي : كما أنى شرعت لكم أن تعطوا الأزواج المشركين ، مهور نسائهم المسلمات اللائى فررن إليكم ، وتركن أزواجهن الكفار ، فكذلك شرعت لكم أن تطلبوا مهور نسائكم المشركات اللائى انفصلتم عنهن لكفرهن ، ولحقن بهؤلاء المشركين ، وليطلب المشركون منكم مهور نسائهم المؤمنات اللائى انفصلن عنهم وهاجرن إليكم .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة ببيان أن هذه الأحكام ، إنما هى من الله - تعالى - العليم بأحوال النفوس ، الحكيم فى أقواله وأفعاله ، فقال : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
أي : ذلكم الذى ذكرناه لكم من تشريعات تتعلق بالمؤمنات المهاجرات هى أحكام من الله - تعالى - فاتبعوها ، فهو - سبحانه - صاحب الحكم المطلق بينكم ، وهو - سبحانه - عليم بأحوال عباده ، حكيم فى كل تصرفاته وتشريعاته .
ونكتفي بهذا القدر من الاستطراد لنعود إلى سياق السورة في حكم المؤمنات المهاجرات : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ، الله أعلم بإيمانهن ، فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار ، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ، وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ؛ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا . ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم . وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ، واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) . .
وقد ورد في سبب نزول هذه الأحكام أنه كان بعد صلح الحديبية الذي جاء فيه : " على ألا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا " . . فلما كان الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمون معه بأسفل الحديبية جاءته نساء مؤمنات يطلبن الهجرة والانضمام إلى دار الإسلام في المدينة ؛ وجاءت قريش تطلب ردهن تنفيذا للمعاهدة . ويظهر أن النص لم يكن قاطعا في موضوع النساء ، فنزلت هاتات الآيتان تمنعان رد المهاجرات المؤمنات إلى الكفار ، يفتن في دينهن وهن ضعاف .
ونزلت أحكام هذه الحالة الدولية معها ، تنظم التعامل فيها على أعدل قاعدة تتحرى العدل في ذاته دون تأثر بسلوك الفريق الآخر ، وما فيها من شطط وجور . على طريقة الإسلام في كل معاملاته الداخلية والدولية .
وأول إجراء هو امتحان هؤلاء المهاجرات لتحري سبب الهجرة ، فلا يكون تخلصا من زواج مكروه ، ولا طلبا لمنفعة ، ولا جريا وراء حب فردي في دار الإسلام !
قال ابن عباس : كان يمتحنهن : بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، وبالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله .
وقال عكرمة : يقال لها : ما جاء بك إلا حب الله ورسوله ، وما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرارا من زوجك .
وهذا هو الامتحان . . وهو يعتمد على ظاهر حالهن واقرارهن مع الحلف بالله . فأما خفايا الصدور فأمرها إلى الله ، ولا سبيل للبشر إليها : ( الله أعلم بإيمانهن . . )فإذا ما أقررن هكذا ( فلا ترجعوهن إلى الكفار ) . .
( لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ) . .
فقد أنبتت الوشيجة الأولى . . وشيجة العقيدة . . فلم تعد هناك وشيجة أخرى يمكن أن تصل هذه القطيعة . والزوجية حالة امتزاج واندماج واستقرار ، لا يمكن أن تقوم إذا انقطعت هذه الوشيجة الأولى . والإيمان هو قوام حياة القلب الذي لا تقوم مقامه عاطفة أخرى ، فإذا خوى منه قلب لم يستطع قلب مؤمن أن يتجاوب معه ، ولا أن يأنس به ، ولا أن يواده ولا أن يسكن إليه ويطمئن في جواره . والزواج مودة ورحمة وأنس وسكن .
وكان الأمر في أول الهجرة متروكا بغير نص ، فلم يكن يفرق بين الزوجة المؤمنة والزوج الكافر ؛ ولا بين الزوج المؤمن والزوجة الكافرة ، لأن المجتمع الإسلامي لم يكن قد استقرت قواعده بعد . فأما بعد صلح الحديبية - أو فتح الحديبية كما يعتبره كثير من الرواة - فقد آن أن تقع المفاصلة الكاملة ؛ وأن يستقر في ضمير المؤمنين والمؤمنات ، كما يستقر في واقعهم ، أن لا رابطة إلا رابطة الإيمان ، وأن لا وشيجة إلا وشيجة العقيدة ، وأن لا ارتباط إلا بين الذين يرتبطون بالله .
ومع إجراء التفريق إجراء التعويض - على مقتضى العدل والمساواة - فيرد على الزوج الكافر قيمة ما أنفق من المهر على زوجته المؤمنة التي فارقته تعويضا للضرر . كما يرد على الزوج المؤمن قيمة ما أنفق من المهر على زوجته الكافرة التي يطلقها من عصمته .
وبعد ذلك يحل للمؤمنين نكاح المؤمنات المهاجرات متى آتوهن مهورهن . . مع خلاف فقهي : هل لهن عدة ، أم لا عدة إلا للحوامل حتى يضعن حملهن ? وإذا كانت لهن عدة فهل هي عدة المطلقات . . . ثلاثة قروء . . أم هي عدة استبراء للرحم بحيضة واحدة ?
( وآتوهم ما أنفقوا ، ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن . ولا تمسكوا بعصم الكوافر ، واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) .
ثم يربط هذه الأحكام كلها بالضمانة الكبرى في ضمير المؤمن . ضمانة الرقابة الإلهية وخشية الله وتقواه :
( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ، والله عليم حكيم ) . .
وهي الضمانة الوحيدة التي يؤمن عليها من النقض والالتواء والاحتيال . فحكم الله ، هو حكم العليم الحكيم . وهو حكم المطلع على ذوات الصدور . وهو حكم القوي القدير . ويكفي أن يستشعر ضمير المسلم هذه الصلة ، ويدرك مصدر الحكم ليستقيم عليه ويرعاه . وهو يوقن أن مرده إلى الله .
{ يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن }فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة قلوبهم لسانهم في الإيمان ، { الله أعلم بإيمانهن }فإنه المطلع على ما في قلوبهم { فإن علمتموهن مؤمنات }العلم الذي يمكنكم تحصيله وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات وإنما سماه علما إيذانا بأنه كالعلم في وجوب العمل به ، { فلا ترجعوهن إلى الكفار } أي إلى أزواجهن الكفرة لقوله :{ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } والتكرير للمطابقة والمبالغة أو الأولى لحصول الفرقة والثانية للمنع عن الاستئناف ، { وآتوهم ما أنفقوا }ما دفعوا إليهن من المهور وذلك لأن صلح الحديبية جرى على أن من جاءنا منكم رددناه ، فلما تعذر عليه ردهن لورود النهي عنه لزمه رد مهورهن إذ روي أنه عليه الصلاة والسلام كان بعد صلح الحديبية إذ جاءته سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة ، فأقبل زوجها مسافر المخزومي طالبا لها فنزلت فاستحلفها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحلفت ، فأعطى زوجها ما أنفق وتزوجها عمر رضي الله تعالى عنه { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن }فإن الإسلام حال بينهن وبين أزواجهن الكفار ، { إذا آتيتموهن أجورهن }شرط إيتاء المهر في نكاحهن إيذانا بأن ما أعطى أزواجهن لا يقوم مقام المهر ، { ولا تمسكوا بعصم الكوافر }بما يعتصم به الكافرات من عقد وسبب جمع عصمة والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات وقرأ البصريان { ولا تمسكوا }بالتشديد ، { واسئلوا ما أنفقتم }من مهور نسائكم اللاحقات بالكفار ، { وليسئلوا ما أنفقوا } من مهور أزواجهم المهاجرات ، { ذلكم حكم الله }يعني جميع ما ذكر في الآية { يحكم بينكم }استئناف أو حال من الحكم على حذف الضمير أو جعل الحكم حاكما على المبالغة والله عليم حكيم يشرع ما تقتضيه حكمته .
أمر الله تعالى أن يؤتى الكفار مهور نسائهم اللاتي هاجرن مؤمنات ورفع الجناح في أن يتزوجن بصدقات هي أجورهن ، وأمر المسلمين بفراق الكافرات وأن لا يمسكوا بعصمهن ، فقيل : الآيات في عابدات الأوثان ومن لا يجوز نكاحها ، ابتداء ، وقيل : هي عامة نسخ منها نساء أهل الكتاب ، والعصم : جمع عصمة : وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية ، وكذلك العصمة في كل شيء ، السبب الذي يعتصم به ، ويعتمد عليه ، وقرأ جمهور السبعة والناس : «تُمسِكوا » بضم التاء وكسر السين وتخفيفها من أمسك ، وقرأ أبو عمرو{[11051]} وحده وابن جبير ومجاهد والأعرج والحسن بخلاف «ولا تمسّكوا » من مسك ، بالشد في السين ، وقرأ الحسن وابن أبي ليلى وابن عامر في رواية عبد المجيد : «تَمَسَّكوا » بفتح التاء والميم ، وفتح السين وشدها ، وقرأ الحسن : «تَمْسِكوا » بفتح التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة .
ورأيت لأبي علي الفارسي أنه قال : سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } ، إنه في الرجال والنساء ، فقلت له : النحويون لا يرون هذا إلا في النساء ، لأن كوافر : جمع كافرة ، فقال وايش يمنع من هذا أليس الناس يقولون : طائفة كافرة ، وفرقة كافرة ، فبهت ، وقلت هذا تأييد{[11052]} .
{ ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بإيمانهن فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مؤمنات فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار لاَ هُنَّ حِلٌّ لهم ولا هم يحلون لهن } .
لا خلاف في أن هذه الآيات إلى آخر السورة نزلت عقب صلح الحديبية وقد علمت أنا رجحنا أن أول السورة نزلت قبل هذه وأن كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين كان عند تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للحديبية .
ومناسبة ورود هذه الآية بعد ما قبلها ، أي النهي عن موالاة المشركين يتطرق إلى ما بين المسلمين والمشركين من عقود النكاح والمصاهرة فقد يكون المسلم زوجاً لمشركة وتكون المسلمة زوجاً لمشرك فتحدث في ذلك حوادث لا يستغني المسلمون عن معرفة حكم الشريعة في مثلها .
وقد حدث عقب الصلح الذي انعقد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين في الحديبية سنة ستّ مَجيء أبي جندل بن سهيل بن عَمرو يَرسُف في الحديد وكان مسلماً وكان موثقاً في القيود عند أبيه بمكة فانفلت وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحديبية وكان من شروط الصلح « أن من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ومن جاء قريشاً ممن مع محمد لم يردوه عليه » فرده النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة هاجرتْ أُم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط هاربة من زوجها عَمرو بن العاص ، وجاءت سبيعة الأسلمية مهاجرة هاربة من زوجها صيفي بن الراهب أو مسافر المخزومي ، وجاءت أُميمة بنت بشر هاربة من زوجها ثابت بن الشِّمْراخ وقيل : حسان بن الدحداحة . وطَلَبهُن أزواجهن فجاء بعضهم إلى المدينة جاء زوج سبيعة الأسلمية يطلب ردها إليه وقال : إن طينة الكتاب الذي بيننا وبينك لم تَجف بعدُ ، فنزلت هذه الآية فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يردها إليه ولم يرد واحدة إليهم وبقيت بالمدينة فتزوج أمَّ كلثوم بنت عقبة زيدُ بن حارثة . وتزوج سُبيعة عمر رضي الله عنه وتزوج أميمة سهلُ بن حنيف .
وجاءت زينب بنت النبي صلى الله عليه وسلم مسلمة ولحق بها زوجها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بعد سنين مشركاً ثم أسلم في المدينة فردها النبي صلى الله عليه وسلم إليه .
وقد اختلف : هل كان النهي في شأن المؤمنات المهاجرات أن يرجعوهن إلى الكفار نسخاً لما تضمنته شرط الصلح الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين أو كان الصلح غير مصرح فيه بإرجاع النساء لأن الصيغة صيغة جمع المذكر فاعتبر مجملاً وكان النهيُ الذي في هذه الآية بياناً لذلك المجمل . وقد قيل : إن الصلح صرح فيه بأن من جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير إذن وليّه من رجل أو امرأة يُرد إلى وليه .
فإذا صحّ ذلك كان صريحاً وكانت الآية ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
والذي في سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام خلي من هذا التصريح ولذلك كان لفظ الصلح محتملاً لإِرادة الرجال لأن الضمائر التي اشتمل عليها ضمائر تذكير .
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذين سألوه إرجاع النساء المؤمنات وطلبوا تنفيذ شروط الصّلح : إنما الشرط في الرجال لا في النساء فكانت هذه الآية تشريعاً للمسلمين فيما يفعلونه إذا جاءهم المؤمنات مهاجرات وإيذاناً للمشركين بأن شرطهم غير نص ، وشأن شروط الصلح الصراحة لعظم أمر المصالحات والحقوق المترتبة عليها ، وقد أذهل الله المشركين عن الاحتياط في شرطهم ليكون ذلك رحمة بالنساء المهاجرات إذ جعل لهن مخرجاً وتأييداً لرسول صلى الله عليه وسلم كما في الآية التي بعدها لقصد أن يشترك من يمكنه الاطّلاع من المؤمنين على صدق إيمان المؤمنات المهاجرات تعاوناً على إظهار الحق ، ولأن ما فيها من التكليف يرجع كثير منه إلى أحوال المؤمنين مع نسائهم .
والامتحان : الاختِبار . والمراد اختبار إيمانهن .
وجملة { الله أعلم بإيمانهن } معترضة ، أي أن الله يعلم سرائرهنّ ولكن عليكم أن تختبروا ذلك بما تستطيعون من الدلائل .
ولذلك فرع على ما قبل الاعتراض قوله : { فإن علمتموهن مؤمنات } الخ ، أي إن حصل لكم العلم بأنهن مؤمنات غير كاذبات في دعواهن . وهذا الالتحاق هو الذي سُمي المبايعة في قوله في الآية الآتية : { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله } الآية [ الممتحنة : 12 ] .
وفي « صحيح البخاري » عن عائشة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر من المؤمنات بهذه الآية يقول الله : { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك } إلى قوله : { غفور رحيم } [ الممتحنة : 12 ] وزاد ابن عباس فقال : كانت الممتحنة أن تستحْلف أنها ما خرجت بغضاً لزوجها ، ولا رغبة من أرض إلى أرض ، ولا التماس دنيا ، ولا عشقاً لرجل منّا ، ولا بجريرة جرتها بل حبا لله ولرسوله والدار الآخرة ، فإذا حلفت بالله الذي لا إله إلاّ هو على ذلك أعطى النبي صلى الله عليه وسلم زوجها مهرها وما أنفق عليها ولم يردها . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمر بن الخطاب بتولّي تحليفهن فإذا تبين إيمان المرأة لم يردها النبي صلى الله عليه وسلم إلى دار الكفر كما هو صريح الآية . { فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } .
وموقع قوله : { لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } موقع البيان والتفصيل للنهي في قوله : { فلا ترجعوهن إلى الكفار } تحقيقاً لوجوب التفرقة بين المرأة المؤمنة وزوجها الكافر .
وإذ قد كان المخاطب بذلك النهي جميع المؤمنين كما هو مقتضى قوله : { يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات } إلى آخره ، تعين أن يقوم بتنفيذه من إليه تنفيذ أمُور المسلمين العامة في كل مكان وكل زمان وهم ولاة الأمور من أمراء وقضاة إذ لا يمكن أن يقوم المسلمون بما خوطبوا به من مثل هذه الأمور العامة إلاّ على هذا الوجه ولكن على كل فرد من المسلمين التزام العمل به في خاصة نفسه والتزام الامتثال لما يقرره ولاة الأمور .
وإذ قد كان محمل لفظ الحل وما تصرف منه في كلام الشارع منصرفاً إلى معنى الإِباحة الشرعية وهي الجواز وضد التحريم .
ومن الواضح أن الكفار لا تتوجه إليهم خِطابات التكليف بأمور الإِسلام إذ هم خارجون عنه فمطالبتهم بالتكاليف الإسلامية لا يتعلّق به مقصد الشريعة ، ولذلك تعدّ المسألة الملقبة في علم الأصول بمسألة : خطاب الكفار بالفروع ، مسألةً لا طائل تحتها ولا ينبغي الاشتغال بها بَله التفريع عليها .
وإذ قد علق حكم نفي حل المرأة الذي هو معنى حرمة دوام عصمتها على ضمير الكفار في قوله تعالى : { لا هن حل لهم } . ولم يكن الكفار صالحين للتكليف بهذا التحريم فقد تعين تأويل هذا التحريم بالنسبة إلى كونه على الكافرين ، وذلك بإرجاع وصف الحل المنفي إلى النساء في كلتا الجملتين وإبداء وجه الإِتيان بالجملتين ووجه التعاكس في ترتيب أجزائهما . وذلك أن نقول : إن رجوع المرأة المؤمنة إلى الزوج الكافر يقع على صورتين :
إحداهما : أن ترجع المرأة المؤمنة إلى زوجها في بلاد الكفر ، وذلك هو ما ألح الكفار في طلبه لمّا جاءت بعض المؤمنات مهاجرات .
والثانية : أن ترجع إلى زوجها في بلاد الإِسلام بأن يخلى بينها وبين زوجها الكافر يقيم معها في بلاد الإِسلام إذا جاء يطلبها ومُنع من تسلمها . وكلتا الصورتين غير حلال للمرأة المسلمة فلا يجيزها ولاة الأمور ، وقد عبر عن الصورة الأولى بجملة { لا هن حل لهم } إذ جعل فيها وصف حل خبراً عن ضمير النساء وأدخلت اللام على ضمير الرجال ، وهي لام تعدية الحلّ وأصلها لام الملك فأفاد أن لا يملك الرجال الكفار عصمة أزواجهم المؤمنات وذلك يستلزم أن بقاء النساء المؤمنات في عصمة أزواجهن الكافرين غير حلال ، أي لم يحللهن الإِسلام لهم .
وقدم { لا هن حل لهم } لأنه راجع إلى الصورة الأكثر أهمية عند المشركين إذ كانوا يَسألون إرجاع النساء إليهم ويرسلون الوسائط في ذلك بقصد الرد عليهم بهذا .
وجيء في الجملة الأولى بالصفة المشبهة وهي { حل } المفيدة لثبوت الوصف إذ كان الرجال الكافرون يظنون أن العصمة التي لهم على أزواجهم المؤمنات مثبتة أنهم حلّ لهم .
وعبّر عن الثانية بجملة { ولا هم يحلون لهن } فعُكس الإِخبار بالحل إذ جعل خبراً عن ضمير الرجال ، وعدي الفعل إلى المحلَّل باللام داخلة على ضمير النساء فأفاد أنهم لا يحلّ لهن أزواجهن الكافرون ولو بقي الزوج في بلاد الإِسلام .
ولهذا ذكرت الجملة الثانية { ولا هم يحلون لهن } كالتتمة لحكم الجملة الأولى ، وجيء في الجملة الثانية بالمسند فعلاً مضارعاً لدلالته على التجدد لإِفادة نفي الطماعية في التحليل ولو بتجدده في الحال بعقد جديد أو اتفاق جديد على البقاء في دار الإِسلام خلافاً لأبي حنيفة إذ قال : إن موجب الفرقة هو اختلاف الدارين لا اختلاف الدين .
ويجوز في الآية وجه آخر وهو أن يكون المراد تأكيد نفي الحال فبعد أن قال : { لا هن حل لهم } وهو الأصل كما علمت آنفاً أكد بجملة { ولا هم يحلون لهن } أي أن انتفاء الحلّ حاصل من كل جهة كما يقال : لست منك ولست مني .
ونظيره قوله تعالى : { هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } في سورة [ البقرة : 187 ] تأكيداً لشدة التلبس والاتصال من كل جهة .
وفي الكلام محسّن العكس من المحسنات البديعية مع تغيير يسير بين حل } و { يحلون } اقتضاه المقام ، وإنّما يُوفر حظّ التحسين بمقدار ما يسمح له به مقتضى حال البلاغة .
المراد ب { ما أنفقوا } ما أعْطَوه من المهور ، والعدول عن إطلاق اسم المهور والأجور على ما دفعه المشركون لنسائهم اللاء أسلمن من لطائف القرآن لأن أولئك النساء أصبحن غير زوجات . فألغي إطلاق اسم المهور على ما يدفع لهم .
وقد سمّى الله بعد ذلك ما يعطيه المسلمون لهن أجوراً بقوله تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن .
والمكلف بإرجاع مهور الأزواج المشركين إليهم هم ولاة أمور المسلمين مما بين أيديهم من أموال المسلمين العامة .
{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أجورهن } .
وإنما قال تعالى : { ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن } للتنبيه على خصوص قوله : { إذا آتيتموهن أجورهن } لئلا يظن أن ما دفع للزوج السابق مسقط استحقاق المرأة المهر ممن يروم تزويجها ومعلوم أن نكاحها بعد استبرائها بثلاثة أقراء .
{ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } .
نهى الله المسلمين عن إبقاء النساء الكوافر في عصمتهم وهن النساء اللاء لم يخرجن مع أزواجهن لكفرهن فلما نزلت هذه الآية طلق المسلمون من كان لهم من أزواج بمكة ، فطلق عمرُ امرأتين له بقيتا بمكة مشركتين ، وهما : قُرَيبة بنت أبي أمية ، وأمّ كلثوم بنت عمرو الخزاعية .
والمراد بالكوافر : المشركات . وهنّ موضوع هذه التشريعات لأنها في حالة واقعة فلا تشمل الآية النهي عن بقاء المرأة المسلمة في عصمة زوج مشرك وإنما يُؤخذ حكم ذلك بالقياس .
قال ابن عطية : رأيت لأبي علي الفارسي إنه قال : سمعت الفقيه أبا الحسن الكرخي يقول في تفسير قوله تعالى : { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أنه في الرجال والنسوان ، فقلت له : النحويون لا يرونه إلا في النساء لأن كوافر جمع كافرة ، فقال : وآيْش يمنع من هذا ، أليس الناس يقولون : طائفَة كافرة ، وفرقة كافرة ، فبُهتُّ وقلتُ : هذا تأييد اه .
وجواب أبي الحسن الكرخي غير مستقيم لأنه يمنع منه ضمير الذكور في قوله : { ولا تمسكوا } فهم الرجال المؤمنون والكوافر نساؤهم . ومن العجيب قول أبي علي : فبهتُ وقلتُ . . . الخ . وقرأ الجمهور { ولا تمسكوا } بضم التاء وسكون الميم وكسر السين مخففة . وقرأ أبو عمرو بضم التاء وفتح الميم وتشديد السين مكسورة مُضارع مَسك بمعنى أمسك .
{ وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أنفقوا } .
عطف على قوله : { وآتوهم ما أنفقوا } وهو تتميم لحكمه ، أي كما تعطونهم مهور أزواجهم اللاء فررْنَ منهم مسلماتتٍ ، فكذلك إذا فرت إليهم امرأةُ مسلم كافرة ولا قدرة لكم على إرجاعها إليكم تسألون المشركين إرجاعَ مهرها إلى زوجها المسلممِ الذي فرّت منه وهذا إنصاف بين الفريقين ، والأمرُ للإِباحة .
وقوله : { وليسألوا ما أنفقوا } تكملة لقوله : { واسألوا ما أنفقتم } لإِفادة أن معنى واو العطف هنا على المعية بالقرينة لأن قوله : { وليسألوا ما أنفقوا } لو أريد حكمهُ بمفرده لكان مغنياً عنه قوله : { وآتوهم ما أنفقوا } ، فلما كُرر عَقب قوله : { واسألوا ما أنفقتم } علمنا أن المراد جمع مضمون الجملتين ، أي إذا أعطوا ما عليهم أعطوهم ما عليكم وإلا فلا . فالواو مفيدة معنى المعية هنا بالقرينة . وينبغي أن يحمل عليه ما قاله بعض الحنفية من أن معنى واو العطف المعية . قال إمام الحرمين في البرهان في معاني الواو : « اشتهر من مذهب الشافعي أنها للترتيب وعند بعض الحنفية أنها للمعية . وقد زَل الفريقان » اه . وقد أشار إليه في « مغني اللبيب » ولم يرده . وقال المازري في « شرح البرهان » : « وأما قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن » ، فإن المراد النهي عن تناول السمك وتناول اللبن فيكون الإِعراب مختلفاً فإذا قال : وتشربَ اللبن بفتح الباء كان نهياً عن الجمع ويكون الانتصاب بمعنى تقدير حرف ( أَنْ ) اه . وهو يرمي إلى أن هذا المحمل يحتاج إلى قرينة .
فأفاد قوله : { وليسألوا ما أنفقوا } أنهم إن أبوا من دفع مهور نساء المسلمين يفرّون إليهم كان ذلك مخوِّلاً للمؤمنين أن لا يعطوهم مهور من فرّوا من أزواجهم إلى المسلمين ، كما يقال في الفقه : خيرتهُ تنفي ضررَه .
{ ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ والله عَلِيمٌ حكيم } .
أي هذا حكم الله ، وهو عدل بين الفريقين إذ ليس لأحد أن يأخذ بأحد جانبيه ويترك الآخر . قال الزُهري : لولا العهد لأمسك النساء ولم يُردّ إلى أزواجهم صداق . وجملة { يحكم بينكم } يجوز كونها حالاً من اسم الجلالة أو حالاً من { حكم الله } مع تقدير ضمير يربط الجملة بصاحب الحال تقديره : يحكمه بينكم ، وأن تكون استئنافاً .
وقوله : { والله عليم حكيم } تذييل يشير إلى أن هذا حكم يقتضيه علم الله بحاجات عباده وتقتضيه حكمته إذ أعطى كل ذي حق حقّه .
وقد كانت هذه الأحكام التي في هذه الآيات من الترادّ في المهور شرعاً في أحوال مخصوصة اقتضاها اختلاط الأمر بين أهل الشرك والمؤمنين وما كان من عهد المهادنة بين المسلمين والمشركين في أوائل أمر الإِسلام خاصّاً بذلك الزمان بإجماع أهل العلم ، قاله ابن العربي والقرطبي وأبو بكر الجصاص .