وقوله { مِن قَبْلُ } متعلق " بأنزل " و " هدى " حال من التوراة والإِنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر . ويجوز أن يكون مفعولا لأجله والعامل فيه أنزل .
أى : وأنزل التوراة والإِنجيل من قبل تنزيل القرآن لأجل هداية الناس الذين أنزلا عليهم إلى الحق الذى من جملته الإِيمان بالنبى صلى الله عليه وسلم واتباعه حين يبعث ، لأنهما قد اشتملتا على البشارة به والحض على طاعته .
قالوا : فالمراد بالناس من عمل بالتوراة والإِنجيل وهم بنو إسرائيل . ويحتمل أنه عام بحيث يشمل هذه الأمة وإن لم نكن متعبدين أى مكلفين ومأمورين بشرع من قبلنا ، والآن فيهما ما يفسد التوحيد وصفات البارى والبشارة بالنبى صلى الله عليه وسلم .
قال الآلوسى : وعبر فى جانب التوراة والإِنجيل بقوله " أنزل " للإِشارة إلى أنهما لم يكن لهما سوى نزول واحد ، بخلاف القرآن فإن له نزولين : نزولا من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من سماء الدنيا جملة واحدة ، ونزولا من ذلك إليه صلى الله عليه وسلم منجما فى ثلاث وعشرين سنة على المشهور ، ولهذا يقال فيه نزل وأنزل . . " .
هذا ، وليست التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم هى التوراة التى أنزلها الله على موسى ، فقد بين القرآن فى أكثر من آية أن بعض أهل الكتاب قد امتدت أيديهم الأثيمة إلى التوراة فحرفوا منها ما حرفوا ، ومن ذلك قوله - تعالى - { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب ويعفوا عن كَثِيرٍ } وقوله : - تعالى- { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ }
ومن الأدلة على أن التوراة التى بين أيدى اليهود اليوم ليست هى التى أنزلها الله على موسى : انقطاع سندها ، واشتمالها على كثير من القصص والعبارات والمتناقضات التى تتنزه الكتب السماوية عن ذكرها .
وكذلك الحال بالنسبة للإِنجيل ؛ إذ ليست هذه الأناجيل التى يقرؤها المسيحيون اليوم هى الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى ؛ وإنما هى مؤلفات ألفت بعد عيسى - عليه السلام - ونسبت إلى بعض الحواريين من أصحابه .
أما الإِنجيل الذى أنزله الله على عيسى والذى وصفه الله بأنه هداية للناس فهو غير هذه الأناجيل .
و { الفرقان } كل ما فرق به بين الحق والباطل ، والحلال والحرام . وهو مصدر فرق يفرق بين الشيئين فرقا وفرقاناً .
1- والمراد به عند أكثر المفسرين : الكتب السماوية التى سبق ذكرها وهى التوراة والإِنجيل والقرآن . أى : أنزل بهذه الكتب ما يفرق به بين الحق والباطل ، والهدى والضلال . والخير والشر ، وبذلك لا يكون لأحد عذر فى جحودها والكفر بها .
وأعيد ذكرها بوصف خاص لم يذكر فيما سبق على طريق العطف بتكرير لفظ الإِنزال ، تنزيلا للتغاير الوصفى منزلة التغاير الذاتى .
2- وقال بعضهم المراد بالفرقان هنا القرآن . وإنما أعاده بهذا العنوان بعد ذكره باسم الجنس تعظيما لشأنه ، ورفعا لمكانه ، ومدحا له بكونه فارقاً بين الحق والباطل ، للإِشارة إلى الاتصال الكامل بين شرائع الله - تعالى - وأنه تتميم لما سبقه ، وأنه كمال الشرائع كلها .
3- وقال بعضهم : المراد به جنس الكتب السماوية التى أنزلها الله - تعالى - على رسله لهداية الناس وسعادتهم . وقد عبر عنها بالفرقان ليشمل هذا الوصف ما ذكر منها وما لم يذكر على طريق التتميم بالتعميم ، إثر تخصيص مشاهيرها بالذكر .
وقد ذكر صاحب الكشاف هذه الأقوال وغيرها فقال : " فإن قلت : ما المراد بالفرقان ؟ قلت : جنس الكتب السماوية لأن كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل من كتبه ، أو من هذه الكتب . أو أراد الكتاب الرابع وهو الزبور . أو كرر ذكر القرآن بما هو نعت له من كونه فارقا بين الحق والباطل " .
أما الفخر الرازى فإنه لم يرتض كل هذه الأقوال ، بل أتى برأى جديد فقال - ما ملخصه :
4- " والمختار عندى أن المراد من هذا الفرقان : المعجزات التى قرنها الله - تعالى - بإنزال هذه الكتب ، وذلك لأنهم لما أتوا بهذه الكتب ، وادعوا أنها كتب نازلة عليهم من عند الله ، افتقروا فى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم وبين دعوى الكذابين ، فلما أظهر الله على وفق دعواهم تلك المعجزات ، حصلت المفارقة بين دعوى الصادق وبين دعوى الكاذب . فالمعجزة هى الفرقان . فلما ذكر الله أنه أنزل الكتاب بالحق ، وأنه أنزل التوراة والإِنجيل من قبل ذلك ، بين أنه - تعالى - أنزل معها ما هو الفرقان الحق ، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها ، ويفيد بينها وبين سائر الكتب المختلفة " .
والذى نراه أقرب إلى القبول أن المراد بالفرقان هنا جنس الكتب السماوية لأنها جميعها فارقة بين الحق والباطل فيندرج تحتها القرآن وغيره من الكتب السماوية .
ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة المنحرفين عن طريق الحق ، الكافرين بآيات الله ، فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } أى : إن الذين كفروا بآيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته ، وصدق رسله فيما يبلغون عنه ، لهم عذاب شديد منه - سبحانه - بسبب كفرهم وجحودهم { والله عَزِيزٌ } أى منيع الجانب ، غالب على أمره يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
وفى قوله { والله عَزِيزٌ } إشارة إلى القدرة التامة على العاقب ، وفى قوله { ذُو انتقام } إشارة إلى كونه فاعلا للعقاب ، ينزله متى شاء ، وكيف شاء ، بمقتضى قدرته وحكمته وإرادته ، والوصف الأول صفة للذات . والثانى صفة للفعل .
وكلها تستهدف غاية واحدة : ( هدى للناس ) . . وهذا الكتاب الجديد " فرقان " بين الحق الذي تضمنته الكتب المنزلة ، والانحرافات والشبهات التي لحقت بها بفعل الأهواء والتيارات الفكرية والسياسية [ التي رأينا نموذجا منها فيما نقلناه عن الكاتب المسيحي سيرت . و . آرنولد في كتاب " الدعوة إلى الإسلام " ] .
وهي تقرر - ضمنا - أنه لا وجه لتكذيب أهل الكتاب للرسالة الجديدة . فهي سائرة على نمط الرسالات قبلها . وكتابها نزل بالحق كالكتب المنزلة . ونزل على رسول من البشر كما نزلت الكتب على رسل من البشر . وهو مصدق لما بين يديه من كتب الله ، يضم جناحيه على " الحق " الذي تضم جوانحها عليه . وقد نزله من يملك تنزيل الكتب . . فهو منزل من الجهة التي لها " الحق " في وضع منهاج الحياة للبشر ، وبناء تصوراتهم الاعتقادية ، وشرائعهم وأخلاقهم وآدابهم في الكتاب الذي ينزله على رسوله .
ثم تتضمن الآية في شطرها الثاني التهديد الرعيب للذين كفروا بآيات الله ، وتلوح لهم بعزة الله وقوته وشدة عذابه وانتقامه . . والذين كفروا بآيات الله هم الذين كذبوا بهذا الدين الواحد بإطلاقه . . وأهل الكتاب الذين انحرفوا عن كتاب الله الصحيح المنزل إليهم من قبل ، فقادهم هذا الانحراف إلى التكذيب بالكتاب الجديد - وهو فرقان واضح مبين - هم أول المعنيين هنا بصفة الكفر ، وهم أول من يتوجه إليهم التهديد الرعيب بعذاب الله الشديد وانتقامه الأكيد . .
{ من قبل } من قبل تنزيل القرآن . { هدى للناس } على العموم إن قلنا إنا متعبدون بشرع من قبلنا ، وإلا فالمراد به قومهما . { وأنزل الفرقان } يريد به جنس الكتب الإلهية ، فإنها فارقة بين الحق والباطل . ذكر ذلك بعد ذكر الكتب الثلاثة ليعم ما عداها ، كأنه قال : وأنزل سائر ما يفرق به بين الحق والباطل ، أو الزبور أو القرآن . وكرر ذكره بما هو نعت له مدحا وتعظيما ، وإظهارا لفضله من حيث إنه يشاركهما في كونه وحيا منزلا ويتميز بأنه معجز يفرق بين المحق والمبطل ، أو المعجزات { إن الذين كفروا بآيات الله } من كتبه المنزلة وغيرها . { لهم عذاب شديد } بسبب كفرهم . { والله عزيز } غالب لا يمنع من التعذيب . { ذو انتقام } لا يقدر على مثله منتقم ، والنقمة عقوبة المجرم والفعل منه نقم بالفتح والكسر ، وهو وعيد جيء به بعد تقرير التوحيد والإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوة تعظيما للأمر ، وزجرا عن الإعراض عنه .
وقوله تعالى : { من قبل } يعني من قبل القرآن{[2926]} ، وقوله : { هدى للناس } معناه دعاء ، والناس بنو إسرائيل في هذا الموضع ، لأنهم المدعوون بهما لا غير ، وإن أراد أنهما { هدى } في ذاتهما مدعو إليه فرعون وغيره ، منصوب{[2927]} لمن اهتدى به ، فالناس عام في كل من شاء حينئذ أن يستبصر .
قال القاضي رحمه الله : وقال هنا { للناس } ، وقال في القرآن { هدى للمتقين } ، وذلك{[2928]} عندي ، لأن هذا خبر مجرد ، وقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] خبر مقترن به الاستدعاء والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ، ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، والهدى الذي هو في نفسه معد يهتدي به الناس ، فسمي { هدى } لذلك ، وقال ابن فورك{[2929]} : التقدير هنا هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر ، و { الفرقان } : القرآن ، سمي بذلك لأنه فرق بين الحق والباطل ، قال محمد بن جعفر ، فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام ، الذي جادل فيه الوفد ، وقال قتادة والربيع وغيرهما ، فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ونحوه ، و { الفرقان } يعم هذا كله ، وقال بعض المفسرين ، { الفرقان } هنا كل أمر فرق بين الحق والباطل ، فيما قدم وحدث ، فيدخل في هذا التأويل طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال الله تعالى المفرقة بين الحق والباطل ، فكأنه تعالى ذكر الكتاب العزيز ، ثم التوراة والإنجيل ، ثم كل أفعاله ومخلوقاته التي فرقت بين الحق والباطل ، كما فعلت هذه الكتب ، ثم توعد{[2930]} تعالى الكفار عموماً بالعذاب الشديد ، وذلك يعم عذاب الدنيا بالسيف والغلبة ، وعذاب الآخرة بالنار ، والإشارة بهذا الوعيد إلى نصارى نجران ، وقال النقاش : إلى اليهود ، كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم{[2931]} ، و { عزيز } ، معناه غالب ، وقد ذل له كل شيء ، والنقمة والانتقام ، معاقبة المذنب بمبالغة في ذلك .