ثم أمرهم - سبحانه - بالمسارعة إلى ما يسعدهم ، بعد أن بين لهم حال الحياة الدنيا فقال : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض
وقوله - تعالى - { سابقوا } ابتدائية ، والجار والمجرور صفة المغفرة .
أى : سارعوا - أيها المؤمنون - مسارعة السابقين لغيرهم ، إلى مغفرة عظيمة كائنة من ربكم .
فالتعبير بقوله : { سابقوا } لإلهاب الحماس وحض النفوس إلى الاستجابة لما أمروا به ، حتى لكأنهم فى حالة مسابقة يحرص كل قرين فيها إلى أن يسبق قرينه .
وقوله : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض . . . } معطوف على المغفرة . أى : سابقوا غيركم - أيها المؤمنون - إلى مغفرة عظيمة من ربكم ، وإلى جنة كريمة ؛ هذه الجنة عرضها وسعتها ورحابتها .
وهذه الجنة قد { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } إيمانا حقا ، جعلهم لا يقصلرون فى أداء واجب من الواجبات التى كلفهم - سبحانه - بها .
قال الإمام الفخر الرازى ما ملخصه : فى كون الجنة عرضها كعرض السماء والأرض وجوه : منها : أن المراد لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا . . . . لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذا غاية فى السعة لا يعلمها إلا الله - تعالى - .
ومنها : أن المقصود المبالغة فى الوصف بالسعة للجنة ، وذلك لأنه لا شىء عندنا أعرض منهما .
وخص - سبحانه - العرض بالذكر ، ليكون أبلغ فى الدلالة على عظمها ، واتساع طولها ، لأنه إذا كان عرضها كهذا ، فإن العقل يذهب كل مذهب فى تصور طولها ، فقد جرت العادة أن يكون الطول أكبر من العرض .
قال الإمام ابن كثير : وقد روينا فى مسند الإمام أحمد " أن هرقل - ملك الروم - كتب إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنك دعوتنى إلى جنة عرضها السموات والأرض ، فأين النار ؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : " سبحان الله ، فأين الليل إذا جاء النهار " " .
وإسم الإشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } يعود إلى الذى وعد الله - تعالى - به عباده المؤمنين من المغفرة والجنة .
أى : ذلك العطاء الجزيل فضل الله - تعالى - وحده وهو صاحب الفضل العظيم لا يعلم مقداره إلا هو - عز وجل - .
فأنت ترى أن الله - تعالى - بعد أن بين حال الحياة الدنيا . دعا المؤمنين إلى المسابقة إلى العمل الصالح ، الذى يوصلهم إلى ما هو أكرم وأبقى . . . وهو الجنة .
وشبيه بهاتين الآيتين قوله - تعالى - : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم . . } ثم
ومن ثم يدعوهم إلى السباق في ميدان السباق الحقيقي ، للغاية التي تستحق السباق . الغاية التي تنتهي إليها مصائرهم ، والتي تلازمهم بعد ذلك في عالم البقاء :
( سابقوا إلى مغفرة من ربكم ، وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ، أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . والله ذو الفضل العظيم ) . .
فليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخر والتكاثر بسباق يليق بمن شبوا عن الطوق ، وتركوا عالم اللهو اللعب للأطفال والصغار ! إنما السباق إلى ذلك الأفق ، وإلى ذلك الهدف ، وإلى ذلك الملك العريض : ( جنة عرضها كعرض السماء والأرض ) . .
وربما كان بعضهم في الزمن الخالي - قبل أن تكشف بعض الحقائق عن سعة هذا الكون - يميل إلى حمل مثل هذه الآية على المجاز ، وكذلك حمل بعض الأحاديث النبوية . كذلك الحديث الذي أسلفنا عن أصحاب الغرف التي يتراءاها سكان الجنة كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب . . فأما اليوم ومراصد البشر الصغيرة تكشف عن الأبعاد الكونية الهائلة التي ليس لها حدود ، فإن الحديث عن عرض الجنة ، والحديث عن تراءي الغرف من بعيد ، يقع قطعا موقع الحقيقة القريبة البسيطة المشهودة ، ولا يحتاج إلى حمله على المجاز إطلاقا ! فإن ما بين الأرض والشمس مثلا لا يبلغ أن يكون شيئا في أبعاد الكون يقاس !
وذلك الملك العريض في الجنة يبلغه كل من أراد ، ويسابق إليه كل من يشاء . وعربونه : الإيمان بالله ورسله . ( ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ) . . ( والله ذو الفضل العظيم ) . . وفضل الله غير محجوز ولا محجور . فهو مباح متاح للراغبين والسابقين . وفي هذا فليتسابق المتسابقون ، لا في رقعة الأرض المحدودة الأجل المحدودة الأركان !
ولا بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير ؛ ولا يحصر نفسه ونظره وتصوره واهتمامه ومشاعره في عالم الأرض الضيق الصغير . . لا بد له من هذا ليؤدي دوره اللائق بصاحب العقيدة . هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم ، كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس . ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الأرض ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة ، وأوسع من هذه الأرض ، وأبقى من ذلك الفناء . .
إن مقاييس هذه الأرض وموازينها لا تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب العقيدة . وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إلا بقدر ما يبلغ حجم الأرض بالقياس إلى حجم الكون ؛ وما يبلغ عمر الأرض بالقياس إلى الأزل والأبد . والفارق هائل هائل لا تبلغ مقاييس الأرض كلها أن تحدده ولا حتى أن تشير إليه !
ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الأرض الصغير . مهما تضخم هذا الواقع وامتد واستطال . يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا الواقع الصغير . ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الأزل والأبد . وفي ملك الآخرة الواسع العريض . وفي القيم الإيمانية الثابتة التي لا تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا الصغيرة الخادعة . . وتلك وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها ، لا للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها . . .
سابقوا سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار إلى مغفرة من ربكم إلى موجباتها وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أي عرضها كعرضهما وإن كان العرض كذلك فما ظنك بالطول وقيل المراد به البسطة كقوله فذو دعاء عريض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأن الإيمان وحده كاف في استحقاقها ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب والله ذو الفضل العظيم منه التفضل بذلك وإن عظم قدره .