ثم بين - سبحانه - أن هؤلاء المنافقين نفقاتهم غير مقبولة ، لأن قلوبهم خالية من الإيمن . ولأن عباداتهم ليست خالصة لوجه الله ، وأن ما ينفقونه سيكون عليهم حسرة فقال - تعالى - : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً . . . وَهُمْ كَافِرُونَ } .
روى أن بعض المنافقين قال للنبى - صلى الله عليه وسلم - عندما دعاهم إلى الخروج معه إلى تبوك : ائذن لى في القعود وهذا مالى أعينك به ، فنزل قوله - تعالى - : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ . . } .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء ؛ أنفقوا ما شئتم من أموالكم في وجوه الخير حالة كونكم طائعين ، أى : من غير إجبار أحد لكم ، أو كارهين ، أى بأن تجبروا على هذا الإِنفاق إجباراً ، فلن يقبل منكم ذلك الإِنفاق .
والكلام وإن كان قد جاء في صورة الأمر ، إلا أن المراد به الخبر وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله .
فإن قلت : كيف أمرهم بالإِنفاق ثم قال : { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } ؟
قلت : هو أمر في معنى الخبر ، كقوله - تعالى - { قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } ومعناه : لن يتقبل منكم أنفتم طوعاً أو كرها ، ونحوه قوله - تعالى - : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } وقول الشاعر :
أسيئى بنا أو أحسنى لا ملومة . . . لدينا ولا مقلية إن تقلت
أى : لن يغفر الله لهم ، استغفرت لهم . . أم لم تستغفر لهم . ولا نلومك سواء أسأت إلينا أم وجاء الكلام في صورة الأمر ، للمبالغة في تساوى الأمرين ، وعدم الاعتداء بنفقتهم سواء أقدموها عن طواعية أم عن كراهية .
وقوله . { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ } بيان لثمرة إنفاقهم . أى : لن يتقبل منكم ما أنفقتموه ، ولن تنالوا عليه ثواباً .
وقوله : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } تعليل لعدم قبول نفقاتهم .
أى : لن تقبل منم نفاقتكم بسبب عتوكم في الكفر ، وتمردكم على تعاليم الإِسلام وخروجكم عن الطاعة والاستقامة .
قال القرطبى ما ملخصه . وفى الآية دليل على أن أفعاله الكافر إذا كانت برأ كصلة القرابة ، وجبر الكسير ، وإغاثة الملهوف ، ولا يثاب عليها ، ولا ينتفع بها في الآخرة ، بيد أنه يطعم بها في الدنيا .
دليله ما رواه مسلم " عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : قلت يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويطعم المسكين ، فهل ذلك نافعه ؟
قال : لا ينفعه ، إنه لم يقل يوما رب اغفر لى خطيئتى يوم الدين " .
وروى عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل لله بها في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها " .
وقال الجمل : وهذه الآية وإن كانت خاصة في إنفاق المنافقين ، فهى عامة في حق كل من أنفق ماله لغير وجه الله ، بل أنفقه رياء وسمعة فإنه لا يقبل منه .
ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين ، قد عرض ماله ، وهو يعتذر عن الجهاد ، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان . فرد اللّه عليهم مناورتهم ، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند اللّه ، لأنهم إنما ينفقون عن رياء وخوف ، لا عن إيمان وثقة ، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين ، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم ، فهو في الحالتين مردود ، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند اللّه :
( قل : أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم ، إنكم كنتم قوماً فاسقين . وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه ورسوله ، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ، ولا ينفقون إلا وهم كارهون ) .
إنها صورة المنافقين في كل آن . خوف ومداراة ، وقلب منحرف وضمير مدخول . ومظاهر خالية من الروح ، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير .
وقوله { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً } سببها : أن الجد بن قيس حين قال { ائذن لي ولا تفتني } [ التوبة : 49 ] قال إني أعينك بمال فنزلت هذه الآية فيه وهي عامة بعده ، والطوع والكره يعمان كل إنفاق ، وقرأ ابن وثاب والأعمش «وكُرها » بضم الكاف .
قال القاضي أبو محمد : ويتصل ها هنا ذكر أفال الكافر إذا كانت براً كصلة القرابة وجبر الكسير وإغاثة المظلوم هل ينتفع بها أم لا ، فاختصار القول في ذلك أن في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن ثواب الكافر على أفعاله البرة هو في الطعمة يطعمها » ونحو ذلك ، فهذا مقنع لا يحتاج معه إلى نظر ، وأما ينتفع بها في الآخرة فلا ، دليل ذلك أن عائشة أم المؤمنين قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله : أرأيت عبد الله بن جدعان أينفعه ما كان يطعم ويصنع من خير فقال : «لا إنه لم يقل يوماً ، رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين »{[5701]} ودليل آخر في قول عمر رضي الله عنه لابنه : ذاك العاصي بن وائل لا جزاه الله خيراً وكان هذا القول بعد موت العاصي ، الحديث بطوله ، ودليل ثالث في حديث حكيم بن حزام على أحد التأويلين : أعني في قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أسلمت على ما سلف لك من خير » ، ولا حجة في أمر أبي طالب كونه في ضحضاح من نار{[5702]} لأن ذلك إنما هو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبأنه وجده في غمرة النار فأخرجه ، ولو فرضنا أن ذلك بأعماله لم يحتج إلى شفاعة{[5703]} ، وأما أفعال الكافر القبيحة فإنها تزيد في عذابه وبذلك هو تفاضلهم في عذاب جهنم ، وقوله : { أنفقوا } أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جواب فالتقدير : إن لم تنفقوا لم يتقبل منكم ، وأما إذا عري الأمر من جواب فليس يصحبه تضمن الشرط .
ابتداء كلام هو جواب عن قول بعض المستأذنين منهم في التخلّف « وأنا أعينك بمالي » . روي أنّ قائل ذلك هو الجدّ بن قيس ، أحد بني سَلِمة ، الذي نزل فيه قوله تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } [ التوبة : 49 ] كما تقدّم ، وكان منافقا . وكأنّهم قالوا ذلك مع شدّة شُحِّهم لأنّهم ظنّوا أنّ ذلك يرضي النبي صلى الله عليه وسلم عن قعودهم عن الجهاد .
وقوله : { طوعاً أو كرهاً } أي بمال تبذلونه عوضاً عن الغزو ، أو بمال تنفقونه طوعاً مع خروجكم إلى الغزو ، فقوله : { طوعاً } إدماج لتعميم أحوال الإنفاق في عدم القبول فإنّهم لا ينفقون إلاّ كرهاً لقوله تعالى بعد هذا : { ولا ينفقون إلا وهم كارهون } [ التوبة : 54 ] .
والأمر في { أنفقوا } للتسوية أي : أنفقوا أو لا تنفقوا ، كما دلّت عليه { أوْ } في قوله { طوعاً أو كرهاً } وهو في معنى الخبر الشرطيّ لأنّه في قوة أن يقال : لن يتقبّل منكم إن أنفقتم طوعاً أو أنفقتم كَرهاً ، ألا ترى أنّه قد يَجيء بعد أمثاله الشرطُ في معناه كقوله تعالى : { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } [ التوبة : 80 ] .
والكَره أشدّ الإلزام ، وبينه وبين الطوع مراتب تعلم إرادتها بالأوْلى ، وانتصب { طوعاً أو كرهاً } على النيابة عن المفعول المطلق بتقدير : إنفاقَ طَوع أو إنفاقَ كَره . ونائب فاعل يتقبّل : هو { منكم } أي لا يتقبّل منكم شيء وليس المقدّرُ الإنفاقَ المأخوذَ من { أنفقوا } بل المقصود العموم .
وجملة { إنكم كنتم قوماً فاسقين } في موضع العلّة لنفي التقبّل ، ولذلك وقعت فيها ( إنَّ ) المفيدة لِمعنى فاء التعليل ، لأنّ الكافر لا يتقبّل منه عمل البرّ . والمراد بالفاسقين : الكافرون ، ولذلك أعقب بقوله : { وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنّهم كفروا بالله وبرسوله } [ التوبة : 54 ] . وإنّما اختير وصف الفاسقين دون الكافرين لأنّهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر ، فكانوا كالمائِلين عن الإسلام إلى الكفر . والمقصود من هذا تأييسهم من الانتفاع بما بذلوه من أموالهم ، فلعلّهم كانوا يحسبون أنّ الإنفاق في الغزو ينفعهم على تقدير صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من شكّهم في أمر الدين ، فتوهّموا أنّهم يعملون أعمالاً تنفع المسلمين يجدونها عند الحشر على فرض ظهور صدق الرسول . ويَبقون على دينهم فلا يتعرّضون للمهالك في الغزو ولا للمشاق ، وهذا من سوء نظر أهل الضلالة كما حكى الله تعالى عن بعضهم : { أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولداً } [ مريم : 77 ] إذْ حسب أنّه يحشر يوم البعث بحالته التي كان فيها في الحياة إذا صَدَق إخبار الرسول بالبعث .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل} يا محمد للمنافقين: {أنفقوا طوعا} من قبل أنفسكم، {أو كرها} مخافة القتل، {لن يتقبل منكم} النفقة، {إنكم كنتم قوما فاسقين} يعني عصاة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء المنافقين: أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره، وعلى أيّ حال شئتم من حال الطوع والكره، فإنكم إن تنفقوها لَن يَتَقَبّل الله مِنْكُم نفقاتكم، وأنتم في شكّ من دينكم وجهل منكم بنبوة نبيكم، وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه. "إنّكُمْ كُنْتُمْ قَوْما فاسِقِينَ "يقول: خارجين عن الإيمان بربكم. وخرج قوله: "أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها" مخرج الأمر ومعناه الخبر، والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها «إن» التي تأتي بمعنى الجزاء، كما قال جلّ ثناؤه: "اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ" فهو في لفظ الأمر ومعناه الخبر... فكذلك قوله: "أنْفِقُوا طَوْعا أوْ كَرْها" إنما معناه: إن تنفقوا طوعا أو كرها "لَنْ يُتَقَبّلَ مِنْكُمْ"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قَالَ بَعْضُهُمْ: الآية في الجهاد، أن المنافقين كانوا يؤمرون بالجهاد والقتال... على ما أمر أهل الإيمان بذلك، ثم منهم من كان يخرج للجهاد، ومنهم من كان يجهز غيره ويقعد، ومنهم من كان يخرج كارهًا، ونحوه، فنزل قوله: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا)، أي: خوفًا، (لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ).
ومنهم من قال: الآية في الزكاة؛ أن اللَّه -عَزَّ وَجَلَّ- فرض الزكاة في أموال المؤمنين، والمنافقون قد أظهروا الإيمان، وكانوا ينفقون، ويؤدون الزكاة، لكن منهم من كان يؤدي طوعًا، ومنهم من يؤدي كرهًا، فقال: (قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ)؛ لأنهم كانوا لا يرون الزكاة قربة، وكانوا ينفقون وهم كارهون في الباطن.
ألا ترى أنه قال: (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)؛ دل أنهم كانوا ينفقون جميعًا وهم كارهون لذلك في الباطن. ثم بين ما به لم يتقبل نفقاتهم، وهو ما ذكر: (إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ).
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يقول لهؤلاء المنافقين "انفقوا "وصورته صورة الأمر وفيه ضرب من التهديد وهو مثل قوله "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وإنما هو بيان عن توسعة التمكين من الطاعة والمعصية... وقوله "طوعا" فالطوع: الانقياد بإرادة لمن عمل عليها. والكره: فعل الشيء بكراهة حمل عليها. وقوله "لن يتقبل منكم" معناه لا يجب لكم به الثواب على ذلك مثل تقبل الهدية ووجوب المكافاة وتقبل التوبة وإيجاب الثواب عليها، ومثله في كل طاعة. وقوله "إنكم كنتم قوما فاسقين" إخبار منه تعالى وخطاب لهؤلاء المنافقين بأنهم كانوا فاسقين متمردين عن طاعة الله، فلذلك لم يقبل نفقاتهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المردودُ لا يقبلُ منه توصُّل، ولا يُغَيَّر حُكمُ شقاوته بتكثير التكلُّف والتعمل. ويقال تقُرُّبُ العدوِّ يوجِبُ زيادةَ المقت له، وتحبُّبُ الحبيب يقتضي زيادةَ العطف عليه، قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف أمرهم بالإنفاق ثم قال: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ}؟ قلت: هو أمر في معنى الخبر، كقوله تبارك وتعالى: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} [مريم: 75] ومعناه: لن يتقبل منكم أنفقتم طوعاً أو كرهاً... فإن قلت: متى يجوز نحو هذا؟ قلت: إذا دلّ الكلام عليه كما جاز عكسه في قولك: رحم الله زيداً وغفر له،... وكذلك المعنى: أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم؟... فإن قلت: ما الغرض في نفي التقبل؟ أهو ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم تقبله منهم وردّه عليهم ما يبذلون منه؟ أم هو كونه غير مقبول عند الله تعالى ذاهباً هباء لا ثواب له؟ قلت: يحتمل الأمرين جميعاً.
وقوله: {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} معناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله، أو ملزمين. وسمي الإلزام إكراهاً، لأنهم منافقون، فكان إلزامهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه. أو طائعين من غير إكراه من رؤسائكم، لأن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملون على الإنفاق لما يرون من المصلحة فيه، أو مكرهين من جهتهم.
... والمراد بالفسق: التمرّد والعتو.
اعلم أنه تعالى لما بين في الآية الأولى أن عاقبة هؤلاء المنافقين هي العذاب في الدنيا وفي الآخرة، بين أنهم وإن أتوا بشيء من أعمال البر فإنهم لا ينتفعون به في الآخرة، والمقصود بيان أن أسباب العذاب في الدنيا والآخرة مجتمعة في حقهم، وأن أسباب الراحة والخير زائلة عنهم في الدنيا وفي الآخرة، واعلم أن السبب وإن كان خاصا إلا أن الحكم عام، فقوله: {أنفقوا طوعا أو كرها} وإن كان لفظه لفظ أمر، إلا أن معناه معنى الشرط والجزاء. والمعنى: سواء أنفقتم طائعين أو مكرهين فلن يقبل ذلك منكم. واعلم أن الخبر والأمر يتقاربان، فيحسن إقامة كل واحد منهما مقام الآخر. أما إقامة الأمر مقام الخبر، فكما ههنا، وكما في قوله: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم}...
ثم قال تعالى: {إنكم كنتم قوما فاسقين} وهذا إشارة إلى أن عدم القبول معلل بكونهم فاسقين. قال الجبائي: دلت الآية على أن الفسق يحبط الطاعات، لأنه تعالى بين أن نفقتهم لا تقبل البتة، وعلل ذلك بكونهم فاسقين، ومعنى التقبل هو الثواب والمدح، وإذا لم يتقبل ذلك كان معناه أنه لا ثواب ولا مدح، فلما علل ذلك بالفسق دل على أن الفسق يؤثر في إزالة هذا المعنى، ثم إن الجبائي أكد ذلك بدليلهم المشهور في هذه المسألة، وهو أن الفسق يوجب الذم والعقاب الدائمين، والطاعة توجب المدح والثواب الدائمين، والجمع بينهما محال. فكان الجمع بين حصول استحقاقهما محالا.
واعلم أنه كان الواجب عليه أن لا يذكر هذا الاستدلال بعدما أزال الله هذه الشبهة على أبلغ الوجوه، وهو قوله: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} فبين تعالى بصريح هذا اللفظ أنه لا مؤثر في منع قبول هذه الأعمال إلا الكفر، وعند هذا يصير هذا الكلام من أوضح الدلائل على أن الفسق لا يحبط الطاعات، لأنه تعالى لما قال: {إنكم كنتم قوما فاسقين} فكأنه سأل سائل وقال: هذا الحكم معلل بعموم كون تلك الأعمال فسقا، أو بخصوص كون تلك الأعمال موصوفة بذلك الفسق؟ فبين تعالى به ما أزال هذه الشبهة، وهو أن عدم القبول غير معلل بعموم كونه فسقا، بل بخصوص وصفه وهو كون ذلك الفسق كفرا. فثبت أن هذا الاستدلال باطل.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... والمعنى: قل أيها الرسول لهؤلاء المنافقين: أنفقوا ما شئتم من أموالكم في الجهاد أو غيره مما أمر الله به في حال الطوع للتقية، أو الكره خوف العقوبة، فمهما تنفقوا في الحالين لن يتقبل الله منكم شيئاً منه، ما دمتم على شك مما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء على الأعمال في الآخرة. وقيل معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل منهم ما ينفقونه، ولكن هذا لا يصح على إطلاقه في جميعهم، لأن مقتضى إجراء أحكام الشريعة عليهم تقتضي وجوب أخذ زكاتهم ونفقاتهم، إلا أن يوجد مانع خاص في شأن بعضهم، كما سيأتي في تفسير {ومنهم من عاهد الله} [التوبة: 75] الآيات... {إنكم كنتم قوما فاسقين} هذا تعليل لعدم قبول نفقاتهم، ومعناه أن إنفاقكم طائعين أو مكرهين سيان في عدم القبول لأنكم كنتم قوما فاسقين، و {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27] والمراد بالفسوق الخروج من دائرة الإيمان، الذي هو شرط لقبول الأعمال مع الإخلاص، وهو كثير الاستعمال في القرآن، وتخصيصه بالمعاصي من اصطلاح الفقهاء. فليعتبر بهذا منافقو هذا الزمان، الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ويعلنون أمرها في صحف الأخبار، ليشتهروا بها في الأقطار، ثم بين تعالى ما في هذا التعليل من الإجمال فقال: {وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان بعض هؤلاء المعتذرين المتخلفين المتربصين، قد عرض ماله، وهو يعتذر عن الجهاد، ذلك ليمسك العصا من الوسط على طريقة المنافقين في كل زمان ومكان. فرد اللّه عليهم مناورتهم، وكلف رسوله أن يعلن أن إنفاقهم غير مقبول عند اللّه، لأنهم إنما ينفقون عن رياء وخوف، لا عن إيمان وثقة، وسواء بذلوه عن رضا منهم بوصفه ذريعة يخدعون بها المسلمين، أو عن كره خوفاً من انكشاف أمرهم، فهو في الحالتين مردود، لا ثواب له ولا يحسب لهم عند اللّه: (قل: أنفقوا طوعاً أو كرهاً لن يتقبل منكم، إنكم كنتم قوماً فاسقين. وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا باللّه ورسوله، ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، ولا ينفقون إلا وهم كارهون). إنها صورة المنافقين في كل آن. خوف ومداراة، وقلب منحرف وضمير مدخول. ومظاهر خالية من الروح، وتظاهر بغير ما يكنه الضمير. والتعبير القرآني الدقيق:...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...وقوله: {طوعاً أو كرهاً} أي بمال تبذلونه عوضاً عن الغزو، أو بمال تنفقونه طوعاً مع خروجكم إلى الغزو، فقوله: {طوعاً} إدماج لتعميم أحوال الإنفاق في عدم القبول فإنّهم لا ينفقون إلاّ كرهاً لقوله تعالى بعد هذا: {ولا ينفقون إلا وهم كارهون} [التوبة: 54].
والأمر في {أنفقوا} للتسوية أي: أنفقوا أو لا تنفقوا، كما دلّت عليه {أوْ} في قوله {طوعاً أو كرهاً} وهو في معنى الخبر الشرطيّ لأنّه في قوة أن يقال: لن يتقبّل منكم إن أنفقتم طوعاً أو أنفقتم كَرهاً، ألا ترى أنّه قد يَجيء بعد أمثاله الشرطُ في معناه كقوله تعالى: {استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80].
والكَره أشدّ الإلزام، وبينه وبين الطوع مراتب تعلم إرادتها بالأوْلى، وانتصب {طوعاً أو كرهاً} على النيابة عن المفعول المطلق بتقدير: إنفاقَ طَوع أو إنفاقَ كَره. ونائب فاعل يتقبّل: هو {منكم} أي لا يتقبّل منكم شيء وليس المقدّرُ الإنفاقَ المأخوذَ من {أنفقوا} بل المقصود العموم.
وجملة {إنكم كنتم قوماً فاسقين} في موضع العلّة لنفي التقبّل، ولذلك وقعت فيها (إنَّ) المفيدة لِمعنى فاء التعليل، لأنّ الكافر لا يتقبّل منه عمل البرّ. والمراد بالفاسقين: الكافرون، ولذلك أعقب بقوله: {وما منعهم أن تُقبل منهم نفقاتهم إلاّ أنّهم كفروا بالله وبرسوله} [التوبة: 54]. وإنّما اختير وصف الفاسقين دون الكافرين لأنّهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فكانوا كالمائِلين عن الإسلام إلى الكفر. والمقصود من هذا تأييسهم من الانتفاع بما بذلوه من أموالهم، فلعلّهم كانوا يحسبون أنّ الإنفاق في الغزو ينفعهم على تقدير صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من شكّهم في أمر الدين، فتوهّموا أنّهم يعملون أعمالاً تنفع المسلمين يجدونها عند الحشر على فرض ظهور صدق الرسول. ويَبقون على دينهم فلا يتعرّضون للمهالك في الغزو ولا للمشاق، وهذا من سوء نظر أهل الضلالة كما حكى الله تعالى عن بعضهم: {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولداً} [مريم: 77] إذْ حسب أنّه يحشر يوم البعث بحالته التي كان فيها في الحياة إذا صَدَق إخبار الرسول بالبعث.