قوله تعالى : { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } ، نزلت في جد بن قيس المنافق ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تجهز لغزوة تبوك قال : يا أبا وهب هل لك في جلاد بني الأصفر ؟ يعنى الروم ، تتخذ منهم سراري ووصفاء ، فقال جد : يا رسول الله لقد عرفت قومي أني رجل مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ، ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي . قال ابن عباس : اعتل جد بن قيس ولم تكن له علة إلا الإنفاق ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أذنت لك فأنزل الله عز وجل : { ومنهم } يعنى من المنافقين { من يقول ائذن لي } في التخلف { ولا تفتني } ببنات الأصفر . قال قتادة : ولا تؤثمني : { ألا في الفتنة سقطوا } ، أي : في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر الله وأمر رسوله .
وقوله تعالى : { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } ، مطبقة بهم وجامعة لهم فيها .
ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن هؤلاء المنافقين ، فحكت جانبا من أعذارهم الكاذبة ، ومن أقوالهم الخبيثة . . فقال - تعالى - : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ . . . . مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } .
روى محمد بن إسحاق ويزيد بن رومان ، وعبد الله بن أبى بكر ، وعاصم بن قتادة وغيرهم قالوا : " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جهازه - أى لغزوة تبوك - للجد عن قيس اخى بنى سلمة : " هل لك ياجد في جلاد بنى الأصفر " ؟ - يعنى الروم - فقال الجد : يا رسول الله أو تأذن لى ولا تفتنى ؟ فهو الله لقد عرف قومى ما رجل أشد عجبا بالنساء منى ، وإنى أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر ألا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال قد أذنت لك " " .
ففى الجد بن قيس نزلت هذه الآية { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } .
أى : ومن هؤلاء المنافقين الذين لم ينته الحديث عنهم بعد " من يقول " لك - يا محمد - " أئنذ لى " في القعود بالمدينة ، " ولا تفتنى " أى ولا توقعنى في المعصية والإِثم بسبب خروجى معك إلى تبوك ، ومشاهدتى لنساء بنى الأصفر .
وعبر - سبحانه - عن قول هذا المنافق بالفعل المضارع ، لا ستحضار تلك الحال لغرابتها ، فإن مثله في نفاقه وفجوره لا يخشى إثم الافتتان بالنساء إذا لا يجد من دينه ما نعا من غشيان الشهوات الحرام .
وقوله : { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } رد عليه فيما قال ، وذم له على ما تفوه به .
أى : ألا إن هذا وأمثاله في ذات الفتنة قد سقطوا ، لافى أى شئ آخر مغاير لها .
وبدأ - سبحانه - الجملة الكريمة بأداة التنبيه " ألا " ، لتأكيد الخبر ، وتوجيه الأسماع إلى ما اشتمل عليه من توبيخ لهؤلاء المنافقين .
وقدم الجار والمجرور على عامله ؛ لدلالة على الحصر . أى فيها لا في غيرها قد سقطوا وهووا إلى قاع سحيق .
قال الآلوسى : وفى التعبير عن الافتتان بالسقوط في الفتنة ، تنزيل لها منزلة المهواة المهلكة المفصحة عن ترديدهم في دركات الردى أسفل سافلين .
وقال الفخرى الرازى ما ملخصه : " وفيه تنبيه على أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة ، فالله - تعالى - بيّن أنهم في عينا لفتنة واقعون ، لأن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله وبرسوله ، والتمرد على قبول التكاليف التي كلفنا الله بها . . . " .
وقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } وعيد وتهديد لهم على أقوالهم وأفعالهم .
أى : وإن جهنم لمحيطة بهؤلاء الكافرين بما جاء من عند الله ، دون أن يكون لهم منها مهرب أو مفر .
وعبر عن إحاطتها بهم باسم الفاعل الدال على الحال ، لإِفادة تحقيق ذلك حتى لكأنه واقع مشاهد .
قالوا : ويحتمل أنها محيطة بهم الآن ، بأن يراد بجهنم الأسباب الموصلة إليها من الكفر والنفاق وغير ذلك من الرذائل التي سقطوا فيها .
ثم يأخذ السياق في عرض نماذج منهم ومن معاذيرهم المفتراة ؛ ثم يكشف عما تنطوي عليه صدورهم من التربص بالرسول - [ ص ] - والمسلمين :
( ومنهم من يقول : ائذن لي ولا تفتني . ألا في الفتنة سقطوا ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين . إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل ، ويتولوا وهم فرحون . قل : لن يصيبنا إلا ما كتب اللّه لنا هو مولانا وعلى اللّه فليتوكل المؤمنون . قل : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ? ونحن نتربص بكم أن يصيبكم اللّه بعذاب من عنده أو بأيدينا . فتربصوا إنا معكم متربصون ) .
روى محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد اللّه بن أبي بكر وعاصم بن قتادة قالوا : قال رسول اللّه - [ ص ] - ذات يوم ، وهو في جهازه [ أي لغزوة تبوك ] للجد بن قيس أخي بني سلمة : " هل لك يا جد في جلاد بني الأصفر ? " [ يعنى الروم ] فقال : يا رسول اللّه أو تأذن لي ولا تفتني ? فواللّه لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن . فأعرض عنه رسول اللّه - [ ص ] - وقال : " قد أذنت لك " ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية .
بمثل هذه المعاذير كان المنافقون يعتذرون . والرد عليهم :
( ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) . .
والتعبير يرسم مشهداً كأن الفتنة فيه هاوية يسقط فيها المفتونون ؛ وكأن جهنم من ورائهم تحيط بهم ، وتأخذ عليهم المنافذ والمتجهات فلا يفلتون . كناية عن مقارفتهم للخطيئة كاملة وعن انتظار العقاب عليها حتماً ، جزاء الكذب والتخلف والهبوط إلى هذا المستوى المنحط من المعاذير . وتقريراً لكفرهم وإن كانوا يتظاهرون بالإسلام وهم فيه منافقون .
يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد : { ائْذَنْ لِي } في القعود { وَلا تَفْتِنِّي } بالخروج معك ، بسبب الجواري من نساء الروم ، قال الله تعالى : { أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } أي : قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا . كما قال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، ويزيد بن رُومان ، وعبد الله بن أبي بكر ، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، وهو في جهازه ، للجد بن قيس أخي بني سلمة : " هل لك يا جَدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر ؟ " فقال : يا رسول الله ، أو تأذن لي ولا تفتني ، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهن . فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " قد أذنت لك " . ففي الجَدِّ بن قيس نزلت هذه : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي } الآية ، أي : إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به ، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه ، أعظم{[13549]} وهكذا روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : أنها نزلت في الجد بن قيس . وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة ، وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : " من سيدكم يا بني سلمة ؟ " قالوا : الجد بن قيس ، على أنا نُبَخِّله{[13550]}فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وأي داء أدوأ من البخل ، ولكن سَيِّدكم الفتى الأبيض الجَعْد بِشْر بن البراء بن مَعْرُور " .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } أي : لا مَحيد لهم عنها ، ولا مَحيص ، ولا مَهرَب .
وقوله تعالى { ومنهم من يقول ائذن لي } نزلت في الجد بن قيس ، «وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس : ( هل لك العام في جلاد بني الأصفر ؟ ) ، وقال له وللناس : ( اغزوا تغنموا بنات الأصفر ) ، فقال له الجد بن قيس : ائذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر ، فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن ، ذكر ابن إسحاق نحو هذا من القول الذي فيه فتور كثير وتخلف في الاعتذار{[5686]} ، وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «اغزوا تبوك تغنموا بنات الأصفر » ، فقال الجد ائذن لي ولا تفتنا بالنساء ، وهذا منزع غير الأول إذا نظر ، وهو أشبه بالنفاق والمحادة{[5687]} ، وقال ابن عباس إن الجد قال : ولكني أعينك بمالي ، وتأول بعض الناس قوله { ولا تفتني } أي لا تصعب علي حتى أحتاج إلى مواقعة معصيتك ومخالفتك ، فسهل أنت عليّ ودعني غير مجلح{[5688]} ، وهذا تأويل حسن واقف مع اللفظ ، لكن تظاهر ما روي من ذكر بنات الأصفر ، وذلك معترض في هذا التأويل ، وقرأ عيسى بن عمر «ولا تُفتني » بضم التاء الأولى قال أبو حاتم هي لغة بني تميم ، والأصفر هو الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما السلام وكان أصفر اللون فيقال للروم بنو الأصفر ، ومن ذلك قول أبي سفيان : َأِمَر َأْمُر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر ، ومنه قول الشاعر [ عدي بن زيد العبادي ] : [ الخفيف ]
وبنو الأصفر الكرام ملوك الر*** وم لم يبق منهمُ مذكور{[5689]}
وذكر النقاش والمهدوي أن الأصفر رجل من الحبشة وقع ببلاد الروم فتزوج وأنسل بنات لهن جمال وهذا ضعيف ، وقوله : { ألا في الفتنة سقطوا } أي في الذي أظهروا الفرار منه بما تبين لك وللمؤمنين من نفاقهم وصح عندكم من كفرهم وفسد مما بينكم وبينهم ، و { سقطوا } عبارة منبئة عن تمكن وقوعهم ومنه على الخبير سقطت{[5690]} ، ثم قال { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } ، وهذا توعد شديد لهم أي هي مآلهم ومصيرهم كيف ما تقلبوا في الدنيا فإليها يرجعون فهي محيطة بهذا الوجه .
نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذراً يمنعهم من الغزو ، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم ، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون : لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى { الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] ، وقيل : قال جماعة منهم : ائذن لنا لأنّا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذَنْ فأذَنْ لنا لئلا نقع في المعصية . وهذا من أكبر الوقاحة لأنّ الإذن في هذه الحالة كَلا إذنٍ ، ولعلّهم قالوا ذلك لعلمهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : إنّ الجِدّ بن قيس قال : يا رسول الله لقد علم الناس أنّي مُسْتَهْتَر بالنساء فإنّي إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهنّ فأذَنْ لي في التخلّف ولا تفتنّي وأنا أعينك بمالي ، فأذن لهم . ولعلّ كلَّ ذلك كان .
والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة { ألا في الفتنة سقطوا } للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة . فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا ، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه ، أي في الفتنة العظيمة سقطوا ، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم { ولا تفتنى } كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه ، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق ، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم ، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعوناً مبغوضاً للناس . وتقدّم بيان { الفتنة } قريباً .
والسقوط مستعمل مجازاً في الكَون فجأة على وجه الاستعارة : شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها ، فهم كالساقط في هُوّة على حينِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب « على الخبير سقطتَ » .
وتقديم المجرور على عامله ، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة .
وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل .
وجملة { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } معترضة والواو اعتراضية ، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر . والكفر يستحقّ جهنّم .
وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها ، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات . والمراد بالكافرين : جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله : { إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 45 ] .
ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله : { لمحيطة بالكافرين } إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال ، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ذُكر أن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس. ويعني جلّ ثناؤه بقوله:"وَمِنْهُمْ" ومن المنافقين، "مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي "أُقِمْ فلا أشخص معك، "وَلا تَفْتِنّي" يقول: ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتهم، فإني بالنساء مغرم، فأخرج وآثم بذلك... حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغْزُوا تُبُوكَ تَغْنَمُوا بَناتِ الأصْفَرِ وَنِساءَ الرّومِ» فقال الجدّ: ائذن لنا، ولا تفتنا بالنساء...
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه للجدّ بن قيس أخي بني سلمة: «هَلْ لَكَ يا جَدّ العامَ فِي جِلادِ بَنِي الأصْفَرِ؟» فقال: يا رسول الله، أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشدّ عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهنّ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أذِنْتُ لَكَ»، ففي الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي..."، أي إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر، وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم.
...عن ابن عباس، قوله: "ومِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي" يقول: ائذن لي ولا تحرجني. "ألاَ في الفِتْنَةِ سَقَطُوا" يعني: في الحرج سقطوا.
...عن قتادة: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لي وَلا تَفْتِنّي": ولا تؤثمني، ألا فِي الإثْمِ سَقَطُوا.
وقوله: "وَإنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافِرِينَ" يقول: وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذّب رسله، محدقة بهم جامعة لهم جميعا يوم القيامة. يقول: فكفي للجدّ بن قيس وأشكاله من المنافقين بصليّها خزيا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ائذن لّي} في القعود {وَلاَ تَفْتِنّي}: ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم، بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. وقيل: ولا تلقني في الهلكة، فإني إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل: قال الجدّ بن قيس: قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتنّي ببنات الأصفر يعني نساء الروم، ولكني أعينك بمال فاتركني...
{أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} أي إنّ الفتنة هي التي سقطوا فيها، وهي فتنة التخلف... {لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} يعني أنها تحيط بهم يوم القيامة. أو هي محيطة بهم الآن؛ لأنّ أسباب الإحاطة معهم فكأنهم في وسطها...
... {ألا في الفتنة سقطوا} والمعنى أنهم يحترزون عن الوقوع في الفتنة، وهم في الحال ما وقعوا إلا في الفتنة، فإن أعظم أنواع الفتنة الكفر بالله ورسوله، والتمرد عن قبول التكليف. وأيضا فهم يبقون خالفين عن المسلمين، خائفين من أن يفضحهم الله، وينزل آيات في شرح نفاقهم... قال أهل المعاني: وفيه تنبيه على أن من عصى الله لغرض ما، فإنه تعالى يبطل عليه ذلك الغرض، ألا ترى أن القوم إنما اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، فالله تعالى بين أنهم في عين الفتنة واقعون ساقطون.
ثم قال تعالى: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} قيل: إنها تحيط بهم يوم القيامة. وقيل إن أسباب تلك الإحاطة حاصلة في الحال، فكأنهم في وسطها. وقال الحكماء المسلمون: إنهم كانوا محرومين من نور معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وما كانوا يعتقدون لأنفسهم كمالا وسعادة سوى الدنيا وما فيها من المال والجاه، ثم إنهم اشتهروا بين الناس بالنفاق والطعن في الدين، وقصد الرسول بكل سوء، وكانوا يشاهدون أن دولة الإسلام أبدا في الترقي والاستعلاء والتزايد، وكانوا في أشد الخوف على أنفسهم، وأولادهم وأموالهم، والحاصل أنهم كانوا محرومين عن كل السعادات الروحانية، فكانوا في أشد الخوف، بسبب الأحوال العاجلة، والخوف الشديد مع الجهل الشديد، أعظم أنواع العقوبات الروحانية، فعبر الله تعالى عن تلك الأحوال بقوله: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أجملهم في هذا الحكم، وكان قد أشار إلى أن منهم من كان قد استأذن في الخروج توطئة للاعتذار عنه، شرع يفصلهم، وبدأ المفصلين بمن صرح بالاستئذان في القعود فقال عاطفاً على "لقد ابتغوا ": {ومنهم من يقول} أي في جبلته تجديد هذا القول من غير احتشام {ائذن لي} أي في التخلف عنك {ولا تفتني} أي تكن سبباً في فتنتي بالحزم بالأمر بالنفر فأفتتن إما بأن أتخلف فأكون مصارحاً بالمعصية أو أسافر فأميل إلى نساء بني الأصفر فأرتد عن الدين فإنه لا صبر لي عن النساء، وقائل ذلك هو الجد ابن قيس، كان من الأنصار منافقاً. ولما أظهروا أنهم قصدوا البعد من شيء فإذا هم قد ارتكبوا فيه، انتهزت فرصة الإخبار بذلك على أبلغ وجه بإدخال ناف على ناف لتحصيل الثبوت الأكيد بإقرار المسؤول فقيل: {ألا في الفتنة سقطوا} أي بما قالوا وفعلوا، فصارت ظرفاً لهم فوضعوا أنفسهم بذلك في جهنم، و في التعبير بالسقوط دلالة على انتشابهم في أشراك الفتنة انتشاباً سريعاً بقوة فصار يعسر خلاصهم معه {وإن جهنم لمحيطة} أي بسبب إحاطة الفتنة -التي أسقطوا أنفسهم فيها- بهم، وإنما قال: {بالكافرين} تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على ذلك...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... هذا شروع في بيان حال أناس من أولئك المنافقين بأقوال قالوها فيما بينهم جهرا، وأمور أكنوها في أنفسهم سراً، وأقوال سيقولونها، وأقسام سيقسمونها، وأعذار سيعتذرونها غير ما سبق منهم. وشؤون عامة فيهم ـ أكثرها من أنباء الغيب ـ مع ما يتعلق بذلك ويناسبه من الحكم والأحكام، والعقائد والآداب. قال عزَّ وجلَّ: {ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني} هذا بيان لأول استئذان معين وقع من أولئك المنافقين في التخلف.
واتفقت الروايات على أن جد بن قيس من شيوخهم قال هذا للنبي صلى الله عليه وسلم في أول عهد الدعوة للغزوة وأثناء التجهيز للسفر، وروي أن غيره منهم قال لما دعاهم إلى تبوك: إنه ليفتنكم بالنساء. أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج إلى غزوة تبوك قال لجد بن قيس: (ما تقول في مجاهدة بني الأصفر)؟ قال: إني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن، فأْذن لي ولا تفتني. وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لجد بن قيس: (يا جد هل لك في جلاد بني الأصفر)؟ قال جد: أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء، وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني الأصفر أن أفتتن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنه: (قد أذنت لك) فأنزل الله الآية. وقد عبر عن قوله بالفعل المضارع لاستحضار تلك الحال لغرابتها، فإن مثله في نفاقه لا يخشى على نفسه إثم الافتتان بالنساء؛ إذ لا يجد من دينه مانعاً من التمتع بهن وهو يحبهن، بل شأن ذلك أن يكون مرغباً له في هذه الغزوة. وقد رد الله شبهته وشبهة من وافقه عليها ورددوا معناها بقوله: {ألا في الفتنة سقطوا}، بدأ الرد على قائلي هذا القول بأداة الافتتاح [ألا] المفيدة للتنبيه والتأمل فيما بعدها ولتحقيق مضمونه إن كان خبرا لتوجيه السمع والقلب له، وعبر عن افتتانهم بالسقوط في الفتنة للمبالغة، وقدم الظرف {في الفتنة} على عامله {سقطوا} للدلالة على الحصر، يقول: ألا فليعلموا أنهم سقطوا وتردوا بهذا القول في هاوية الفتنة بأوسع معناها، لا في شيء آخر من شبهاتها أو مشابهاتها، من حيث يزعمون اتقاء التعرض لشبهة نوع من أنواعها، وهو الإثم بالنظر إلى جمال نساء الروم واشتغال القلب بجمالهن، فتردوا في شر مما اعتذروا به. {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} هذا وعيد لهم على الفتنة التي تردوا فيها، وضع فيه المظهر موضع ضميرهم للنص على أن عقابهم بإحاطة جهنم بهم عقاب على الكفر الذي حملهم على ذلك الاعتذار الذي هو ذنب في نفسه كان أقصى عقابه مس النار دون إحاطتها لو لم يكن سببه الكفر بتكذيب الرسول فيما جاء به من حكم الجهاد وثوابه والعقاب على تركه، أو الشك في ذلك كما قال آنفا: {وارتابت قلوبهم}، وقلما يكون الكفر إلا شكاً أو ظنا، فإن رأيت صاحبه موقنا فيه فاعلم أن يقينه سكون النفس إليه عن جهل لا عن علم، والمراد أن جهنم ستكون محيطة بهم جامعة لهم يوم القيامة، وإنما عبر عن ذلك باسم الفاعل الدال على الحال لإفادة تحقق ذلك حتى كأنه واقع مشاهد، ويحتمل أن يقال: إنها محيطة بهم الآن؛ لأن أسباب الإحاطة معهم، فكأنهم في وسطها، قاله الزمخشري، وإنما تحيط النار بمن أحاطت به خطاياه حتى لا رجاء في توبته {بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} [البقرة: 81]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف، ويعتذر بعذر آخر عجيب، فيقول: {ائْذَنْ لِي} في التخلف {وَلَا تَفْتِنِّي} في الخروج، فإني إذا خرجت، فرأيت نساء بين الأصفر لا أصبر عنهن، كما قال ذلك {الجد بن قيس} ومقصوده -قبحه اللّه- الرياء والنفاق بأن مقصودي مقصود حسن، فإن في خروجي فتنة وتعرضا للشر، وفي عدم خروجي عافية وكفا عن الشر. قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القول: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} فإنه على تقدير صدق هذا القائل في قصده، [فإن] في التخلف مفسدة كبرى وفتنة عظمى محققة، وهي معصية اللّه ومعصية رسوله، والتجرؤ على الإثم الكبير، والوزر العظيم، وأما الخروج فمفسدة قليلة بالنسبة للتخلف، وهي متوهمة، مع أن هذا القائل قصده التخلف لا غير، ولهذا توعدهم اللّه بقوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} ليس لهم عنها مفر ولا مناص، ولا فكاك، ولا خلاص...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نزلت في بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف عن تبوك ولم يُبدوا عذراً يمنعهم من الغزو، ولكنّهم صرّحوا بأنّ الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبّة أموالهم وأهليهم، ففضح الله أمرهم بأنّهم منافقون: لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45]...
والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة {ألا في الفتنة سقطوا} للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة. فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا، ولكنّه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرّف في جنسه، أي في الفتنة العظيمة سقطوا، فأيُّ وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم {ولا تفتنى} كان ما وقَع فيه أشدَّ ممّا تفصَّى منه، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلّف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم، وإنْ أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعوناً مبغوضاً للناس. وتقدّم بيان {الفتنة} قريباً.
والسقوط مستعمل مجازاً في الكَون فجأة على وجه الاستعارة: شُبّه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيّؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنّهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها، فهم كالساقط في هُوّة على حينِ ظَنّ أنّه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب « على الخبير سقطتَ».
وتقديم المجرور على عامله، للاهتمام به لأنّه المقصود من الجملة.
وهذه الجملة تسير مَسرى المثَل.
وجملة {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} معترضة والواو اعتراضية، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر. والكفر يستحقّ جهنّم.
وإحاطة جهنّم مراد منها عدم إفلاتهم منها، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات. والمراد بالكافرين: جميع الكافرين فيشمل المتحدّث عنهم لثبوت كفرهم بقوله: {إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر} [التوبة: 45].
ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله: {لمحيطة بالكافرين} إثبات إحاطة جهنّم بهم بطريق شبيه بالاستدلال، لأنّ شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا: وتتوالى الآيات التي تتحدث عن ملامح المنافقين الذين برزوا كظاهرةٍ انهزاميّةٍ منحرفة في أجواء الاستعداد للمعركة، في ما كانت تمثله من تحدّيات الساحة لكل المظاهر الإيمانيّة التي كانت تختفي خلفها أفكار النفاق ومشاعره. ماذا يقولون، وكيف يفكرون أو يشعرون تجاه الجماعة المسلمة؟ أساليب التهرب من القتال {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} فهذا الفريق يحاول أن يظهر أمام النبي صلى الله عليه وسلم بمظهر الإنسان الذي يخاف على نفسه من الوقوع في الفتنة التي تهدّد إيمانه، في ما تتمثل به المعركة من تجربةٍ صعبةٍ يتساقط فيها الضعفاء أمام إغراءات النصر ونتائجه المفرحة، أو أمام مشاكل الحرب وويلاتها المحزنة. فهو لا يريد الذهاب إلى الحرب لئلا يسقط عندها في إيمانه، فيخيّل إليك وأنت تسمعه أنه من المؤمنين الذين يخافون على إيمانهم من السقوط أمام حالات الضعف البشريّ من الرغبة والرهبة، ولذلك، فإنهم يخشون من التجربة الصعبة التي تهدّدهم بالانحراف، فيطلبون من الرسول أن لا يعرّضهم لها، في ما يفرضه عليهم من فروض، أو يحمِّلهم من مسؤوليّات، ولكن الله يكشف زيف هذا المنطق، فإذا كانوا يخشون من نتائج الفتنة، فلأنها تبعد الإنسان عن الله وتمنعه من الحصول على رضاه، فكيف بهم الان، وهم يخضعون للنوازع النفسية التي تدفعهم إلى الابتعاد عن رضاه، في العمل على التمرّد على أمره ونهيه، وفي محاولة التخلّص من المسؤوليّة في المحافظة على سلامة الإسلام والمسلمين، الأمر الذي يجعلهم في مواقع الفتنة بالذات، من حيث يريدون تفاديها في ما يزعمون، {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} بسبب ما يمارسونه من الانحراف عن خطّ الإيمان في مواقع الجهاد، وسيتحملون نتائج ذلك في الآخرة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} فهي تحاصرهم من كل جانب، فلا يهربون منها من جهةٍ، إلاّ ليقعوا فيها من جهةٍ أخرى، وذلك من خلال إحاطة الكفر بجميع دوافعهم وأعمالهم ونتائجها في الوقوف ضد إرادة الله في الحياة من حولهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يكشف شأن النزول المذكور أن الإِنسان متى أراد أن يتنصل من تحمل المسؤولية يسعى للتذرّع بشتى الحيل، كما تذرع المنافق جد بن قيس لعدم المشاركة في المعركة وميدان الجهاد، بأنّه ربّما تأسره الوجوه النضرة من بنات الروم وتختطف قلبه، فينسحب من المعركة ويقع في إشكالِ شرعي!!...
ويذكرني قول جد بن قيس بكلام بعض الضالعين في ركاب الطاغوت، إذ كان يقول: إِذا لم نضغط على الناس فإنّ ما نتسلمه من الراتب والحقوق المالية مشكل شرعاً. فمن أجل التخلص من هذا الإِشكال الشرعي لابدّ من إِيذاء الناس وظلمهم!.
وعلى كل حال فإنّ القرآن يوجه الخطاب للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليردّ على مثل هذه الذرائع المفضوحة قائلا: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتنّي) بالنساء والفتيات الروميات الجميلات.
كما ويحتمل في شأن نزول الآية أن جد بن قيس كان يتذرع ببقاء امرأته وأطفاله وأمواله بلا حام ولا كفيل بعده ليتخلّص من الجهاد.
ولكن القرآن يقول مجيباً عليه وأمثاله: (ألا في الفتنة سقطوا وأن جهنّم لمحيطة بالكافرين).
أي أنّ أمثال أُولئك الذين تذرّعوا بحجّة الخوف من الذنب هم الآن واقعون فيه فعلا، وأن جهنم محيطة بهم، لأنّهم تركوا ما أمرهم الله ورسوله به وراء ظهورهم وانصرفوا عن الجهاد بذريعة الشبهة الشرعية!!
إِن أحد طرق معرفة جماعة المنافقين في كل مجتمع، هو التدقيق في أسلوب استدلالهم وأعذارهم التي يذكرونها ليتركوا ما عليهم من الوظائف، فهذه الأعذار تكشف بجلاء ما يدور في خلدهم وباطنهم. فهم غالباً ما يتشبثون بسلسلة من الموضوعات الجزئية والمضحكة أحياناً بدلا من الاهتمام بالمواضيع المهمّة، ويستعملون المصطلحات الشرعية لإغفال المؤمنين ويتذرّعون بالأحكام الشرعية وأوامر الله ورسوله، في حين غارقون في دوّامة الخطايا، جادّون في عداوتهم للرسول ودينه القويم.
للمفسّرين أقوال مختلفة في تفسير جملة (وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين) فقال بعضهم: هذه العبارة كناية عن إحاطة عوامل ورودهم إِلى جهنم بهم، أي أن ذنوبهم تحيط بهم!
وقال بعضهم: إنّ هذا التعبير من قبيل الحوادث الحتمية المستقبلية التي تذكر بصيغة الفعل الماضي أو الحال، أي أن جهنم ستحيط بهم بشكل قاطع.
كما ويحتمل أن نفسر الجملة بمعناها الحقيقي، وهو أن جهنم موجودة فعلا، وهي عبارة عن باطن هذه الدنيا، فالكفار قابعون في وسط جهنّم في حياتهم الدنيوية وإن لم يصدر الأمر بتأثيرها، كما أن الجنّة موجودة في هذه الدنيا أيضاً وتحيط بالجميع، غاية ما في الأمر لما كان أهل الجنّة جديرين بها فسيكونون مرتبطين بها؛ وأهل النّار جديرون بالنّار فهم من أهلها أيضاً.