قوله تعالى : { قد مكر الذين من قبلهم } ، وهو نمرود بن كنعان ، بني الصرح ببابل ليصعد إلى السماء . قال ابن عباس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراع . وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين ، فهبت ريح وألقت رأسه في البحر ، وخر عليهم الباقي وهم تحته ، ولما سقط الصرح تبلبلت السن الناس من الفزع يومئذ فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا فلذلك سميت بابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، فذلك قولة تعالى :{ فأتى الله بنيانهم من القواعد } أي : قصد تخريب بنيانهم من أصولها ، { فخر عليهم السقف } يعني أعلى البيوت { من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } ، من مأمنهم .
ثم سلى الله - تعالى - نبيه والمؤمنين ، فبين لهم أن هؤلاء المستكبرين الذين قالوا فى القرآن : إنه أساطير الأولين ، سيحيق بهم مكرهم السيئ ، كما حاق بالذين من قبهلم ، فقال - تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } .
وقوله - سبحانه - { مكر } من المكر ، وهو التدبير المحكم ، أو صرف الغير عما يريده بحيلته ، وهو مذموم إن تحرى به الماكر الشر والباطل ، ومحمود إن تحرى به الخير والحق .
والمراد بالذين من قبلهم : الكفار الذين كانوا قبل كفار مكة ، كقوم نوح وهود وصالح .
وقوله : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ . . } أى : أهلكهم ، كما فى قوله - تعالى -
{ . . . فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ . . } ويقال : أتى فلان من مأمنه أى : نزل به الهلاك من جهة أمنه . وأتى عليه الدهر . أى : أهلكه وأفناه . ومنه الأتوّ . وهو الموت والبلاء .
يقال : أتى على فلان أُتوّ ، أى موت أو بلاء يصيبه .
والقواعد : جمع قاعدة . وهى أساس البناء ، وبها يكون ثباته واستقراره .
والمعنى : لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بما يقوله المستكبرون من قومك فى شأن القرآن الكريم لكى يصرفوا الناس عن الدخول فى الإِسلام ، فقد مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم ، فكانت عاقبة مكرهم أن أتى الله بنيانهم من القواعد ، بأن اجتث هذا البنيان من أصله ؛ واقتلعه من أساسه { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } أى : فسقط عليهم سقف بنيانهم فأهلكهم { وأتاهم العذاب } المبير المدمر { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } ولا يحتسبون بأنه سيأتيهم من هذه الجهة ، بل كانوا يتوقعون أن ما شيدوه سيحميهم من المهالك .
فالآية الكريمة تصور بأسلوب بديع معجز ، كيف أن هؤلاء الماكرين ، قد حصنوا أنفسهم بالبناء المحكم المتين ، ليتقوا ما يؤذيهم ، إلا أن جميع هذه التحصينات قد هوت وتساقطت على رءوسهم ، أمام قوة الله - تعالى - التى لا ترد ، فإذا بالبناء الذى بنوه ليحتموا به ، قد صار مقبرة لهم .
وصدق الله إذ يقول : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وقال - سبحانه - : { فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ } مع أن السقف لا يكون إلا من فوق ، لتأكيد الكلام وتقويته .
وقال القرطبى : قال ابن الأعرابى : وكد ليعلمك أنهم كانوا حالين تحته ، والعرب تقول خر علينا سقف ، ووقع علينا حائط ، إذا كان يملكه وإن لم يكن وقع عليه . فجاء بقوله : { من فوقهم } ليخرج هذا الشك الذى فى كلام العرب ، فقال : { من فوقهم } أى : عليهم وقع وكانوا تحته فهلكوا وما أفلتوا . . .
هذا ومن المفسرين الذين رجحوا أن الآية مسوقة على سبيل التمثيل ، الفخر الرازى فقد قال : وفى قوله - سبحانه - { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } قولان :
والمعنى أنهم رتبوا حيلا ليمكروا بها على أنبياء الله ، فجعل الله - تعالى - حالهم فى تلك الحيل ، مثل حال قوم بنوا بنيانا وعموده بالأساطين ، فانهدم ذلك البناء ، وضعفت تلك الأساطين ، فسقط السقف عليهم ، ونظيره قولهم : من حفر بئرا لأخيه أوقعه الله فيه .
- ووجه الشبه أن ما عدوه سبب بقائهم ، صار سبب استئصالهم وفنائهم .
الثانى : أن المراد منه مادل عليه الظاهر ، وهو أن الله - تعالى - أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته .
ومن المفسرين الذين رجحوا أن الكلام على حقيقته ، الإِمام ابن جرير فقد قال - بعد أن سرد بعض الأقوال - : وأولى الأقوال بتأويل الآية قول من قال : معنى ذلك ، تساقطت عليهم سقوف بيوتهم ، إذ أتى على أصولها وقواعدها أمر الله ، فانكفأت بهم منازلهم ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من قواعد البنيان وخرّ السقف .
وتوجيه معانى كلام الله إلى الأشهر الأعرف منها ، أولى من توجيهها إلى غير ذلك ما وجد إليه سبيل .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير - رحمه الله - أولى بالقبول ، لأنه مادام اللفظ صالحا للحمل على الحقيقة ، فلا داعى لصرفه عن ذلك .
وقد حكى لنا القرآن الكريم صنوفا من العذاب الذى أنزله الله - تعالى - بالظالمين ، ومن ذلك قوله - تعالى - : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
فقد كانت حرب دعاية منظمة يديرها قريش على الدعوة ، ويديرها أمثال قريش في كل زمان ومكان من المستكبرين الذين لا يريدون الخضوع للحق والبرهان ، لأن استكبارهم يمنعهم من الخضوع للحق والبرهان . فهؤلاء المستكبرون من قريش ليسوا أول من ينكر ، وليسوا أول من يمكر . والسياق يعرض عليهم نهاية الماكرين من قبلهم ، ومصيرهم يوم القيامة ، بل مصيرهم منذ مفارقة أرواحهم لأجسادهم حتى يلقوا في الآخرة جزاءهم . يعرض عليهم هذا كله في مشاهد مصورة على طريقة القرآن المأثورة :
( قد مكر الذين من قبلهم . فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم ، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون . ثم يوم القيامة يخزيهم ، ويقول : أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ؟ قال الذين أوتوا العلم : إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين ، الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم ، فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء . بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها ، فلبئس مثوى المتكبرين )
( قد مكر الذين من قبلهم ) والتعبير يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف إشارة إلى دقته وإحكامه ومتانته وضخامته . ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله وتدبيره : ( فأتى الله بنيانهم من القواعد ، فخر عليهم السقف من فوقهم ) وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل ، يطبق عليهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم ، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها ، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم ( وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) فإذا البناء الذي بنوه وأحكموا واعتمدوا على الاحتماء فيه . إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم ، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم . وهو الذي اتخذوه للحماية ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته !
إنه مشهد كامل للدمار والهلاك ، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين ، الذين يقفون لدعوة الله ، ويحسبون مكرهم لا يرد ، وتدبيرهم لا يخيب ، والله من ورائهم محيط !
وهو مشهد مكرر في الزمان قبل قريش وبعدها . ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون ، ومهما يدبر المدبرون .
قال العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو نمرود الذي{[16393]} بنى الصرح .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد نحوه .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم : أولُ جبار كان في الأرض نمرود ، فبعث الله عليه بَعُوضة ، فدخلت في منخرة ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه فضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله . وهو الذي كان بنى صرحًا إلى السماء ، وهو الذي قال الله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ }
وقال آخرون : بل هو بختنصر . وذكروا من المكر الذي حكى الله هاهنا ، كما قال في سورة إبراهيم : { وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ } [ إبراهيم : 46 ] .
وقال آخرون : هذا من باب المثل ، لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح ، عليه السلام : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [ نوح : 22 ] أي : احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة ، كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا } [ الآية ]{[16394]} [ سبأ : 33 ] .
وقوله : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ } أي : اجتثه من أصله ، وأبطل عملهم ، وأصلها{[16395]} كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } [ المائدة : 64 ] .
وقوله : { فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ } [ الحشر : 2 ] .
وقال هاهنا : { فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ }
أي : يظهر فضائحهم ، وما كانت تُجنّه ضمائرهم ، فيجعله علانية ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر وتشتهر{[16396]} ، كما في الصحيحين{[16397]} عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غَدْرَته ، فيقال : هذه غَدْرَة فلان بن فلان " {[16398]} .
وهكذا هؤلاء ، يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ، ويخزيهم الله على رءوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعا لهم وموبخا : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } تحاربون وتعادون في سبيلهم ، [ أي ]{[16399]} : أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا ؟ { هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] . فإذا توجهت عليهم الحجة ، وقامت عليهم الدلالة ، وحقت عليهم الكلمة ، وأسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار{[16400]} { قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } - وهم السادة في الدنيا والآخرة ، والمخبرون عن الحق في الدنيا والآخرة ، فيقولون حينئذ : { إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ } أي : الفضيحة والعذاب اليوم [ محيط ]{[16401]} بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره ولا ينفعه .
قال ابن عباس وغيره من المفسرين : الإشارة ب { الذين من قبلهم } إلى نمرود الذي بنى صرحاً ليصعد فيه إلى السماء على زعمه ، فلما أفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين على ما حكى النقاش ، بعث الله عليه رمحاً فهدمته ، «وخر سقفه » عليه وعلى أتباعه ، وقيل : جبريل هدمه بجناحه وألقى أعلاه في البحر وانحقف من أسفله ، وقالت فرقة أخرى : المراد ب { الذين من قبلهم } جميع من كفر من الأمم المتقدمة ومكر ونزلت فيه عقوبة من الله تعالى ، وقوله على هذا { فأتى الله بنيانهم من القواعد } إلى آخر الآية ، تمثيل وتشبيه ، أي حالهم بحال من فعل به هذا ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فخر عليهم السقف من فوقهم } أي جاءهم العذاب من قبل السماء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ينحو إلى اللعن ، ومعنى قوله { من فوقهم } رفع الاحتمال في قوله { فخر عليهم السقف } فإنك تقول انهدم على فلان بناؤه وهو ليس تحته ، كما تقول : انفسد عليه متاعه ، وقوله { من فوقهم } ألزم أنهم كانوا تحته . وقوله { فأتى } أي أتى أمر الله وسلطانه ، وقرأ الجمهور «بنيانهم » ، وقرأت فرقة «بنيتهم » ، وقرأ جعفر بن محمد «بيتهم » ، وقرأ الضحاك «بيوتهم » ، وقرأ الجمهور «السقْف » بسكون القاف ، وقرأت فرقة بضم القاف وهي لغة فيه ، وقرأ الأعرج «السُّقُف » بضم السين والقاف ، وقرأ مجاهد «السُّقْف » بضم السين وسكون القاف .