قوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } يعني : في النار ، كقوله تعالى : { على ملك سليمان } أي : في ملك سليمان ، وقيل : عرضوا على النار ، وجواب { لو } محذوف معناه : لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبا .
قوله تعالى : { فقالوا يا ليتنا نرد } ، يعني : إلى الدنيا .
قوله تعالى : { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } ، قراءة العامة كلها بالرفع على معنى : يا ليتنا نرد ونحن لا نكذب ، ونكون من المؤمنين ، وقرأ حمزة وحفص ويعقوب ، { ولا نكذب } بنصب الباء والنون على جواب التمني ، أي : ليت ردنا وقع وأن لا نكذب ، ونكون ، والعرب تنصب جواب التمني بالواو كما تنصب بالفاء ، وقرأ ابن عامر { نكذب } بالرفع و { نكون } بالنصب لأنهم تمنوا أن يكونوا من المؤمنين ، وأخبروا عن أنفسهم أنهم لا يكذبون بآيات ربهم إن ردوا إلى الدنيا .
ثم يصور - سبحانه - حالهم عند ما يعرضون على النار ، وعندما يقفون أمام ربهم ، وحكى ما يقولونه فى تلك المواقف الشديدة فقال تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ . . . . } .
{ لَوْ } شرطية ، حذف جوابها لتذهب النفس فى تصوره كل مذهب وذلك أبلغ من ذكره .
و { وُقِفُواْ } بالبناء للمفعول بمعنى : وقفهم غيرهم . يقال : وقف على الأطلال أى : عندها مشرفاً عليها ، ويقال وقف على الشىء عرفه وتبينه .
والمعنى : إنك أيها النبى الكريم - أو أيها الإنسان العاقل - لو اطلعت على هؤلاء المشركين عندما يقفون على النار ويشاهدون لهيبها وسعيرها . لرأيت شيئاً مروعاً مخيفاً يجعلهم يتحسرون على ما فرط منهم ، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ليصدقوا بآيات الله التى طالما كذبوها . وليكونوا من المؤمنين .
وعبر - سبحانه - بإذ التى تدل على الماضي - مع أن الحديث عما سيحصل لهم فى الآخرة فكان يناسبه إذا - لإفادة تحقق الوقوع وتأكده ، وليتصور المستقبل على أنه موجود لا على أنه سيوجد ، وعطف بالفاء فى قوله { فَقَالُواْ } للدلالة على أن أول شىء يقع فى قلوبهم حينئذ إنما هو الندم على ما سلف منهم ، وتمنى الرجوع إلى الدنيا ليؤمنوا .
ومن شاء ان يرى فلينظر في الصفحة الأخرى المواجهة لهذه الصفحة الأولى :
( ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا : يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين ) !
إنه المشهد المقابل لمشهدهم في الدنيا . . مشهد الاستخذاء والندامة والخزي والحسرة . في مقابل مشهد الإعراض والجدال والنهي والنأي والادعاء العريض !
( ولو ترى إذ وقفوا على النار ) . .
لو ترى ذلك المشهد ! لو تراهم وقد حبسوا على النار لا يملكون الإعراض والتولي ! ولا يملكون الجدل والمغالطة !
لو ترى لرأيت ما يهول ! ولرأيتهم يقولون :
( يا ليتنا نرد ، ولا نكذب بآيات ربنا ، ونكون من المؤمنين ) . .
يعلمون الآن أنها كانت ( آيات ربنا ) ! وهم يتمنون لو يردون إلى الدنيا . وعندئذ فلن يكون منهم تكذيب بهذه الآيات ، وعندئذ سيكونون من المؤمنين !
ولكنها ليست سوى الأماني التي لا تكون !
على أنهم إنما يجهلون جبلتهم . فهي جبلة لا تؤمن . وقولهم هذا عن أنفسهم : إنهم لو ردوا لما كذبوا ولكانوا مؤمنين ، إنما هو كذب لا يطابق حقيقة ما يكون منهم لو كان لإجابتهم من سبيل ! وإنهم ما يقولون قولتهم هذه ، إلا لأنه تكشف لهم من سوء عملهم وسوء مغبتهم ما كانوا من قبل يخفونه على أتباعهم ليوهموهم أنهم محقون ، وأنهم ناجون ، وأنهم مفلحون .
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار ، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك قالوا { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ، ليعملوا عملا صالحا ، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين .
وقوله تعالى : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } الآية المخاطبة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وجواب { لو } محذوف ، تقديره في آخر هذه الآية لرأيت هولاً أو مشقات أو نحو هذا ، وحذف جوابها في مثل هذا أبلغ لأن المخاطب يترك مع غاية تخيله{[4878]} ، ووقعت { إذ } في موضع إذا التي هي لما يستقبل وجاز ذلك لأن الأمر المتيقن وقوعه يعبر عنه كما يعبر عن الماضي الوقوع . و { وقفوا } معناه : حبسوا ، ولفظ هذا الفعل متعدياً وغير متعد سواء ، تقول : وقفت أنا ووقفت غيري ، وقال الزهراوي : وقد فرق بينهما بالمصدر ففي المتعدي وقفته وقفاً وفي غير المتعدي وقفت وقوفاًَ ، قال أبو عمرو بن العلاء : لم أسمع في شيء من كلام العرب أوقفت فلاناً إلا أني لو لقيت رجلاً واقفاً فقلت له ما أوقفك هاهنا لكان عندي حسناً ، ويحتمل قوله : { وقفوا على النار } أن يكون دخلوها ، فكان وقوفهم عليها أي فيها ، قاله الطبري ، ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها وعاينوها ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر : «ولا نكذبُ » و «نكونُ » بالرفع في كلها ، وذلك على نية الاستئناف والقطع في قوله «ولا نكذب ونكون » أي يا ليتنا نرد ونحن على كل حال لا نكذب ونكون ، فأخبروا أنفسهم بهذا ولهذا الإخبار صح تكذيبهم بعد هذا ، ورجح هذا سيبويه ومثله بقولك دعنى ولا أعود أي وأنا لا أعود على كل حال ، ويخرج ذلك على قول آخر وهو أن يكون «ولا نكذب ونكون » داخلاً في التمني على حد ما دخلت في نرد ، كأنهم قالوا : يا ليتنا نرد وليتنا نكذب وليتنا نكون ، ويعترض هذا التأويل بأن من تمنى شيئاً يقال إنه كاذب وإنما يكذب من أخبر .
قال القاضي أبو محمد : وينفصل عن هذا الاعتراض بأن يكون قوله { وإنهم لكاذبون } [ الأنعام : 28 ] حكاية عن حالهم في الدنيا كلاماً مقطوعاً مما قبله وبوجه آخر وهو أن المتمني إذا كانت سجيته وطريقته مخالفة لما تمنى بعيدة منه يصح أن يقال له كذبت على تجوز ، وذلك أن من تمنى شيئاً فتمنيه يتضمن إخباراً أن تلك الأمنية تصلح له ويصلح لها فيقع التكذيب في ذلك الإخبار الذي يتضمنه التمني ، ومثال ذلك أن يقول رجل شرير ليتني أحج وأجاهد وأقوم الليل فجائز أن يقال لهذا على تجوز كذبت أي أنت لا تصلح لهذا ولا يصلح لك ، وروي عن أبي عمرو : أنه أدغم باء نكذب في الباء التي بعدها ، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم في رواية حفص «ولا نكذبَ ونكونَ » بنصب الفعلين ، وذلك كما تنصب الفاء في جواب التمني ، فالواو في ذلك والفاء بمنزلة ، وهذا تقدير ذكر مصدر الفعل الأول كأنهم قالوا يا ليتنا كان لنا رد ، وعدم تكذيب وكون من المؤمنين . وقرأ ابن عامر في رواية هشام بن عمار عن أصحابه عن ابن عامر «ولا نكذبُ » بالرفع «ونكونَ » بالنصب ، ويتوجه ذلك على ما تقدم{[4879]} في مصحف عبد الله بن مسعود «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآيات ربنا ونكون » بالفاء ، وفي قراءة أبي بن كعب «يا ليتنا نرد فلا نكذب بآياتنا أبداً ونكون » ، وحكى أبو عمرو أن في قراءة أبي «بآيات ربنا ونحن نكون » ، وقوله { نرد } في هذه الأقوال كلها معناه : إلى الدنيا ، وحكى الطبري تأويلاً آخر وهو يا ليتنا نرد إلى الآخرة أي نبعث ونوقف على النار التي وقفنا عليها مكذبين ، ليت ذلك ونحن في حالة لا نكذب ونكون ، فالمعنى يا ليتنا نوقف هذا الوقوف غير مكذبين بآيات ربنا كائنين من المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التأويل يضعف من غير وجه ويبطله قوله تعالى : { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [ الأنعام : 28 ] ولا يصح أيضاً التكذيب في هذا التمني لأنه تمني ما قد مضى . وإنما يصح التكديب الذي ذكرناه قبل هذا على تجوز في تمني المستقبلات .