المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

61- وإن مآل الأعداء عن جانب الحرب إلى جانب السلم ، فاجنح لها - أيها الرسول - فليست الحرب غرضاً مقصودا لذاته عندك إنما أنت قاصد بها الدفاع لعدوانهم ، وتحديهم لدعوتك . فاقبل السلم منهم ، وتوكل على اللَّه ، ولا تخف كيدهم ومكرهم إنه سبحانه هو السميع لما يتشاورون به ، العليم بما يدبرون ويأتمرون ، فلا يخفي عليه شيء{[78]} .


[78]:مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام دين السلام ونحن الآن نسمع كل دول العالم تنادي بالسلام ولذا أنشأت هيئة الأمم المتحدة.
 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

قوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم } ، أي : مالوا إلى الصلح .

قوله تعالى : { فاجنح لها } ، أي : مل إليها وصالحهم ، روي عن قتادة والحسن : أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم }

قوله تعالى : { وتوكل على الله } ثق بالله .

قوله تعالى : { إنه هو السميع العليم } .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

ثم أمر - تعالى - رسوله - صلى الله عليه - بقبول السلم والمصالحة ، إذا ما رغب أعداؤه في ذلك ، وكانت ظواهرهم وأفعالهم تدل على صدق نواياهم فقال - تعالى - : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ . . . عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .

قوله { جَنَحُواْ } من الجنوح بمعنى الميل ، يقال : جنح فلان للشئ وإليه - يجنح - مثلث النون - جنوحاً . أى : مال إليه .

قال القرطبى : والجنح : الميل . وجنح الرجل إلى الآخر : مال إليه . ومنه قيل للأضلاع جوانح ، لأنها مالت على الحشوة - بضم الحاء وكسرها - أى : الأمعاء .

وجنحت الإِبل : إذا مالت أعناقها في السير قال ذو الرمة :

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه . . . بذكراك والعيس المراسيل جنح

وقرأ الأعمش وأبو بكر وابن محيص " للسلم " - بكسر السين - وقرأ الباقون بالفتح . وإنما قال { لَهَا } لأن السلم مؤنثة - تأنيث نقيضها وهى الحرب . . ويجوز أن يكون التأنيث للفعلة .

والمعنى : عليك - أيها الرسول الكريم - أن تنكل في الحرب بأولئك الكافرين الناقضين لعهودهم في كل مرة ، وأن تهيئ ما استطعت من قوة لإِرهابهم فإن مالوا بعد ذلك إلى { لِلسَّلْمِ } أى : المسالمة والمصالحة فوافقهم ومل إليها ما دامت المصلحة في هذه المسالمة .

وقوله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } معطوف على { فاجنح لَهَا } لقصد التثبيت وبعث الطمأنينة في قلبه .

أى : اقبل المسالمة ما دام فيها مصلحتك ، وفوض أمرك إلى الله - تعالى - ولا تخش مكرهم وكيدهم وغدرهم ، إنه - سبحانه - { هُوَ السميع } لأقوالهم { العليم } بأحوالهم ، فيجازيهم بما يستحقون ، ويرد كيدهم في نحورهم .

وعبر - سبحانه - عن جنوحهم إلى السلم بحرف { إِن } الذي يعبر به عن الشئ المشكوك في وقوعه ، للإِشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً لاختيار المسالمة أو المصالحة لذاتها ، وإنما هم جنحوا إليها لحاجة في نفوسهم ، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائماً على حذر منهم ، وألا يأمنوا مكرهم .

هذا وقد اختلف العلماء فيمن عنى بهذه الآية ، فمنهم من يرى أن المعنى بها أهل الكتاب ، ومنهم من يرى أن الآية عامة ، أي تشمل أهل الكتاب والمشركين . ثم اختلفوا بعد ذلك في كونها منسوخة أولاً ؟

وقد حكى ابن جرير معظم هذه الخلافات ورجح أن المقصود بهذه الآية جماعة من أهل الكتاب ، وأن الآية ليست منسوخة فقال ما ملخصه :

عن قتادة أن قوله { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا } منسوخة بقوله في سورة براءة { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وبقوله { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } فقد كانت هذه - أي الآية التي معنا وهى قوله - تعالى - { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ . . . } قبل براءة . كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يوادع القول إلى أجل ، فإما أن يسلموا ، وإما أن يقاتلهم ، ثم نسخ ذلك بعد براءة فقال : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وعن عكرمة والحسن البصرى قالا : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ . . . } نسختها الآية التي في براءة وهى قوله - تعالى - { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر }

الآية .

ثم قال ابن جرير : فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله من أن الآية منسوخة ، فقول لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل .

لأن قوله { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا . . } إنما عنى به بنو قريظة - كما قال مجاهد - وكانوا يهودا أهل كتاب وقد أذن الله - جل ثناؤه - للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ، ومتاركتهم الحرب ، على أخذ الجزية منهم ، وأما قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } فإنما عنى به مشركي العرب من عبدة الأوثان ، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم ، فليس في إحدى الآتين نفي حكم الأخرى ، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه . .

هذا ما يراه ابن جرير . أما ابن كثير فقد وافقه على أن الآية ليست منسوخة ، وخالفه في أن المقصود بها بنو قريظة ، فهو يرى أن الآية عامة فقد قال - رحمه الله - :

قوله : { وَإِن جَنَحُواْ } أى : مالوا { لِلسَّلْمِ } أي المسالمة والمصالحة والمهادنة { فاجنح لَهَا } أى : فمل إليها واقبل منهم ذلك . ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر . .

وقال مجاهد : نزلت في بنى قريظة ، وهذا فيه نظر ، لأن السياق كله في موقعه بدر ، وذكرها مكتنف لها كله .

وقال ابن عباس ومجاهد وزيد بن أسلم وعطاء الخراسانى وعكرمة والحسن وقتادة : إن الآية منسوخة بآية السيف في براءة ، وهى قوله - تعالى - { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وفيه نظر أيضاً ، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة { وَإِن جَنَحُواْ } وكما فعل النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص . .

ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن كثير أرجح ، لأن الآية الكريمة تقرر مبدأ عاماً في معاملة الأعداء ، وهو أنه من الجائز مهادنتهم ومسالمتهم ما دام ذلك في مصلحة المسلمين .

ولعل هذا هو ما قصده صاحب الكشاف بقوله عند تفسير الآية - " والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإِمام صلاح الإِسلام وأهله من حرب أو سلم . وليس يحتم أن يقاتلوا أبداً . أو يجابوا إلى الهدنة أبداً " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

55

والحكم الثالث في هذه النصوص هو الحكم المتعلق بمن يريدون المهادنة والموادعة للمعسكر الإسلامي ؛ ويجنحون إلى السلم والمسالمة ؛ وتدل ظواهرهم وأفعالهم على رغبتهم في السلم حقاً :

( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ، وتوكل على الله . إنه هو السميع العليم ) .

والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح ، تعبير لطيف ، يلقي ظل الدعة الرقيق . فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم ، ويرخي ريشه في وداعة ! كما أن الأمر بالجنوح إلى السلم مصحوب بالتوكل على الله السميع العليم الذي يسمع ما يقال ويعلم ما وراءه من مخبآت السرائر . وفي التوكل عليه الكفاية والأمان .

وبالعودة إلى تلخيص الإمام ابن القيم لطوائف الكفار ومواقفهم من رسول الله [ ص ] وموقفه كذلك منهم ، أول العهد بالمدينة إلى يوم بدر ونزول هذا الحكم ، يتبين أن هذا النص يتعلق بالفريق الذي اعتزل رسول الله [ ص ] ولم يقاتله ؛ وجنح إلى السلم ولم يظهر العداء والمقاومة للدعوة الإسلامية ، ولا للدولة المسلمة . وقد أمر الله رسوله [ ص ] أن يترك هذا الفريق ، وأن يقبل مهادنته ومسالمته [ وذلك حتى نزلت براءة ونزل فيها إمهال من لم يكن له عهد ، أو كان له عهد غير موقت ، مدة أربعة أشهر ، يكون له بعدها حكم آخر بحسب موقفه ] ومن ثم فهو ليس حكماً نهائياً على إطلاقه الذي يؤخذ من نصه مجرداً عن هذه الملابسات ، ومجرداً كذلك عن النصوص التالية له في الزمن ، وعن التصرفات الواقعية بعده لرسول الله [ ص ] .

ولكن النص كان له نوع من العموم في الحكم في حينه . فقد عمل رسول الله [ ص ] به - حتى نزلت سورة براءة - ومن عمله به كان صلح الحديبية في السنة السادسة للهجرة . .

ولقد اتجه بعض الفقهاء إلى اعتبار الحكم نهائياً ودائماً ففسروا الجنوح إلى السلم بقبول أداء الجزية . . ولكن هذا لا يتفق مع الواقع التاريخي ؛ فإن أحكام الجزية نزلت في سورة براءة بعد السنة الثامنة للهجرة ، وهذه الآية نزلت في السنة الثانية بعد بدر ؛ ولم تكن أحكام الجزية موجودة . والأقرب إلى الصحة بمراجعة الأحداث وتواريخ النزول والطبيعة الحركية للمنهج الإسلامي ، أن يقال : إن هذا الحكم ليس نهائياً ؛ وأنه عدل أخيراً بالأحكام النهائية التي نزلت في سورة براءة [ التوبة ] والتي انتهى بها الناس إلى أن يكونوا مع الإسلام : إما محاربين يحاربون . وإما مسلمين تحكمهم شريعة الله . وإما أهل ذمة يؤدون الجزية وهم على عهدهم ما استقاموا . . وهذه هي الأحكام النهائية التي تنتهي إليها حركة الجهاد الإسلامي . وكل ما عداها هو حالات واقعية يسعى الإسلام إلى تغييرها حتى تنتهي إلى هذه الأوضاع الثلاثة التي تمثل العلاقات النهائية ، وهي العلاقات التي يمثلها الحديث الذي أخرجه مسلم ورواه الإمام أحمد :

قال أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن يزيد ، عن أبيه ، عنيزيد بن الخطيب الأسلمي - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله [ ص ] إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ، وبمن معه من المسلمين خيراً ، وقال : " اغزوا باسم الله . في سبيل الله . قاتلوا من كفر بالله . إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال ، أو خلال ، فأيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم ، وكف عنهم . ادعهم إلى الإسلام . فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين . فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب ، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين . فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية . فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم . فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم " . .

والمشكل في هذا الحديث هو ذكر الهجرة ودار المهاجرين ، مع ذكر الجزية . . والجزية لم تفرض إلا بعد الفتح ؛ وبعد الفتح لم تعد هجرة [ بالقياس إلى الجماعة المسلمة الاولى التي انتهت إلى دار إسلام وفتح وتمكن ] والثابت أن الجزية لم تفرض إلا بعد السنة الثامنة ؛ وأنها من ثم لم تؤخذ من المشركين العرب لأنهم أسلموا قبل نزول الجزية . فقبلت بعد ذلك من أمثالهم من المشركين المجوس ، وهم مثلهم في الشرك ؛ ولو نزلت أحكام الجزية وفي الجزيرة مشركون لقبلت منهم كما يقرر الإمام ابن القيم . وهو فيما ذكر قول أبي حنيفة وأحد قولي الإمام أحمد [ أما القرطبي فقد روى هذا القول عن الأوزاعي ومالك ، وروى غيره عن أبي حنيفة ] :

وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه ، أن قول الله تعالى :

( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم ) . .

لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب ، وأن الأحكام النهائية نزلت فيما بعد في سورة براءة . إنما أمر الله رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله سواء كان قد تعاهد ، أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين . وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة . فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا ؛ ليكون الدين كله لله .

ولقد استطردت - بعض الشيء - في هذا البيان وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن " الجهاد في الإسلام " ؛ فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم ؛ ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث : الإسلام ، أو الجزية ، أو القتال ، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه ؛ وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ؛ كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة ؛ ولا حول لهم في الأرض ولا قوة . . وعندئذ يعمد أولئك الكتاب إلى لَيِّ أعناق النصوص ليؤلوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله ؛ ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته !

إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية ، فيجعلون منها نصوصاً نهائية ؛ وإلى النصوص المقيدة بحالات خاصة ، فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة ؛ حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوصالمقيدة المرحلية ! وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين ، وعن دار الإسلام عندما تهاجم ! وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة . والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام ! إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع ، أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه ، ولا بالخضوع لمنهج الله ، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان ! أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه ، فيتحرك حينئذ للدفاع !

ولو أراد هؤلاء المهزومون روحياً وعقلياً أمام ضغط الواقع الحاضر ، أن يلتمسوا في أحكام دينهم ما يواجه هذا الواقع - دون ليّ لأعناق النصوص - لوجدوا فيه هذه الواقعية الحركية في أحكامه وتصرفاته المرحلية التي كان يواجه بها ضغط الواقع المشابه لما نواجهه نحن اليوم ؛ ولاستطاعوا أن يقولوا : إنه في مثل هذه الحال كان الإسلام يتصرف على هذا النحو ، ولكن هذه ليست هي القواعد الدائمة ؛ إنما هي الأحكام والتصرفات التي تواجه الضرورة .

وهذه أمثلة ونماذج من الأحكام والتصرفات المرحلية في أوقات الضرورات :

لقد عقد رسول الله [ ص ] أول مقدمه المدينة مع اليهود حول المدينة والمشركين عهداً على المسالمة والموادعة والدفاع المشترك عن المدينة . مع التسليم بأن السلطة العليا في المدينة هي سلطة رسول الله [ ص ] والتعهد منهم بالدفاع عن المدينة معه ضد قريش ، والكف عن مناصرة أي مهاجم للمدينة ، أو عقد أي حلف مع المشركين المحاربين دون إذن من رسول الله [ ص ] وفي الوقت ذاته أمره الله أن يقبل السلم ممن يجنحون إلى السلم ، وإن كانوا لا يعقدون معه عهداً ، وأن يوادعهم ما وادعوه . . . ثم تغير هذا كله فيما بعد كما ذكرنا .

ولما كانت غزوة الخندق ؛ وتجمع المشركون على المدينة ؛ ونقضت بنو قريظة العهد ؛ وخاف رسول الله [ ص ] على المسلمين ؛ عرض على عيينة بن حصن الفزاري ، والحارث بن عوف المري رئيس غطفان الصلح على ثلث ثمار المدينة ، وأن ينصرفا بقومهما ويدعا قريشاً وحدها . وكانت هذه المقالة من رسول الله [ ص ] لهما مراوضة ولم تكن عقداً . فلما رأى رسول الله [ ص ] منهما أنهما قد رضيا ، استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقالا : يا رسول الله ، هذا أمر تحبه فنصنعه لك ? أو شيء أمرك الله به فنسمع له ونطيع ? او أمر تصنعه لنا ? فقال : " بل أمر أصنعه لكم ، فان العرب قد رمتكم عن قوس واحدة " فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله ، والله قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك وعبادة الأوثان ، ولا نعبد الله ولا نعرفه ، وما طمعوا قط أن ينالوا منا ثمرة ، إلا شراء أو قرى . فحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له ، وأعزنا بك ، نعطيهم أموالنا ! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فسر بذلك رسول الله [ ص ] وقال : " أنتم وذاك " وقال لعيينة والحارث : " انصرفا ، فليس لكما عندنا إلا السيف " . . فهذا الذي فكر فيه رسول الله [ ص ] إجراء لمواجهة الضرورة . . وليس حكماً نهائياً . .

وعقد رسول الله مع مشركي قريش صلح الحديبية - وهم على شركهم - بشروط لم يسترح إليها المسلمون ، وذلك على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ، وأن يأمن الناس بعضهم من بعض ، وأن يرجع عنهم عامه ذلك ، حتى إذا كان العام المقبل قدمها وخلوا بينه وبين مكة فأقام بها ثلاثاً ، وألا يدخلها إلا بسلاح الراكبوالسيوف في القرب ، وأن من أتى المشركين من أصحاب النبي لم يردوه ، ومن أتاه من أصحاب المشركين رده . . . وقد رضي رسول الله [ ص ] بما ألهمه الله - هذه الشروط ، التي تبدو في ظاهرها مجحفة ، لأمر يريده الله ألهم به رسوله . . وفيها متسع - على كل حال - لمواجهة الظروف المشابهة ؛ تتصرف من خلاله القيادة المسلمة . .

إن المنهج الحركي لهذا الدين يواجه الواقع دائماً بوسائل مكافئة ، وهو منهج متحرك مرن ، ولكنه متين واضح ، والذين يلتمسون فيه ما يواجهون به الواقع في كل حالة لن يضطروا إلى ليّ أعناق النصوص وتأويلها تأويلات تأباها ! وإنما المطلوب هو تقوى الله ، والتحرج من تطويع دينه لواقع الشر الجاهلي ، والهزيمة به والوقوف به موقف الدفاع ، وهو دين مسيطر حاكم ، يلبي - وهو في مركز الاستعلاء والمبادأة - كل حاجات الواقع وضروراته والحمد للّه .

وعندما أمر الله تعالى رسوله [ ص ] أن يقبل موادعة من وادعوه ، وأن يجنح للسلم معهم متى جنحوا إليه ؛ وجهه إلى التوكل عليه ، وطمأنه إلى إحاطته سبحانه بسرائر القوم المخبوءة :

( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ، إنه هو السميع العليم ) . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ، { وَإِنْ جَنَحُوا } أي : مالوا { لِلسَّلْمِ } أي : المسالمة والمصالحة والمهادنة ، { فَاجْنَحْ لَهَا } أي : فمل إليها ، واقبل منهم ذلك ؛ ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ؛ أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الأخر .

وقال عبد الله بن الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا فضيل بن سليمان - يعني : النميري - حدثنا محمد بن أبي يحيى ، عن إياس بن عمرو الأسلمي ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنه سيكون بعدى اختلاف - أو : أمر - فإن استطعت أن يكون السلم ، فافعل " {[13126]}

وقال مجاهد : نزلت في بني قريظة .

وهذا فيه نظر ؛ لأن السياق كله في وقعة بدر ، وذكرها مكتنف لهذا كله .

وقول ابن عباس ، ومجاهد ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في " براءة " : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ } الآية [ التوبة : 29 ] فيه نظر أيضًا ؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إذا كان العدو كثيفًا ، فإنه تجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص ، والله أعلم .

وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك ،


[13126]:زوائد المسند (1/90) وقال الهيثمي في المجمع (7/234): "رجاله ثقات".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ} (61)

وقوله تعالى : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } الآية ، الضمير في { جنحوا } هو للذين نبذ إليهم على سواء ، وجنح الرجل إلى الأمر إذا مال إليه وأعطى يده فيه ، ومنه قيل للأضلاع جوانح لأنها مالت على الحشوة{[5450]} وللخباء جناح وجنحت الإبل إذا مالت أعناقها في السير وقال ذو الرمة :

إذا مات فوق الرحل أحييت روحه*** بذكراك والعيس المراسيل جنح{[5451]}

وجنح الليل إذا أقبل وأمال أطنابه{[5452]} على الأرض ومنه قول النابغة : [ الطويل ]

جوانح قد أيقنَّ أن قبيله*** إذا ما التقى الجمعان أول غالب{[5453]}

أي موائل ، وقال لبيد : [ الوافر ]

جنوح الهالكيِّ على يديه*** مكبّاً يجتلي نُقَبَ النصال{[5454]}

وقرأ جمهور الناس «للسَّلم » بفتح السين وشدها وقرأ عاصم في رواية بكر «للسِّلم » بكسرها وشدها هما لغتان في المسالمة ، ويقال أيضاً «السَّلَم » بفتح السين واللام ولا أحفظها قراءة ، وقرأ جمهور الناس «فاجنَح » بفتح النون وهي لغة تميم ، وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُح » وهي لغة قيس بضم النون ، قال أبو الفتح وهذه القراءة هي القياس ، لأن فعل إذا كان غير متعد فمستقبله{[5455]} يفعل بضم العين أقيس قعد يقعد أقيس من جلس يجلس ، وعاد الضمير في { لها } مؤنثاً إذ السلم بمعنى المسالمة والهدنة ، وقيل السلم مؤنثة كالحرب ذكره النحاس ، وقال أبو حاتم يذكر السلم ، وقال قتادة والحسن بن أبي الحسن وعكرمة وابن زيد : هذه الآية منسوخة بآيات القتال في براءة{[5456]} .

قال القاضي أبو محمد : وقد يحتمل ألا يترتب نسخها بأن يعني بهذه من تجوز مصالحته وتبقى تلك في براءة في عبدة الأوثان وإلى هذا ذهب الطبري وما قالته الجماعة صحيح أيضاً إذا كان الجنوح إلى سلم العرب مستقراً في صدر الإسلام فنسخت ذلك آية براءة ونبذت إليهم عهودهم ، وروي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون }{[5457]} .

قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد من أن يقوله ابن عباس رضي الله عنه ، لأن الآيتين مبينتان ، وقوله { وتوكل على الله } أمر في ضمنه وعد .


[5450]:- الحُشوة بضم الحاء وبكسرها: الأمعاء.
[5451]:- الرّحل: ما يوضع فوق ظهر البعير للركوب عليه. والعيس: الإبل البيض، والمراسيل: سهلة السير التي تعطيك ما عندها عفوا دون إجهاد لها أو لك، وجنّح: مائلة صدورها إلى الأرض، وقيل: مائلة في سيرها من النشاط، يريد أنه يغني بأشعاره فيحي روحه.
[5452]:- الإطناب: جمع طنب بضمتين، والطنب: حبل الخباء، يقال: خباء مطنب ورواق مطنّب، أي مشدود بالأطناب.
[5453]:- البيت في وصف الطيور التي تتبع الجيش، ويوضح هذا البيت الذي قبله، وفيه يقول: إذا ما غزا بالجيش أبصرت فوقه عصائب طير تهتدي بعصائب والقبيل: الجماعة من قوم شتى تكون من الثلاثة فصاعدا، وقد فسر ابن عطية رحمه الله كلمة "جوانح".
[5454]:- البيت مع الأبيات السابقة عليه في وصف ثور وحشي ناشط كثير الحركة ضلّ عن القطيع الذي كان يرعى معه، وبات في حمى بعض الأشجار يحرك قرنه كلما تحركت أغصان الشجر أو قطرت على ظهره، وقد أكبّ كما يكبّ الصيقل الذي يشحذ السيوف، ومعنى جنوح: إكباب، أي أكبّ مثل إكباب، والهالكي: الصيقلي الذي يشحذ السيوف على يديه أو يصنعها، ويجلتى: يجلو، والنقب: الصدأ الذي ظهر في النصال. والصورة التي عرضها لبيد في هذه الأبيات وما تبعها من معركة بين الثور والكلاب من روائع الصور في الشعر العربي.
[5455]:- أي: مضارعه.
[5456]:- كقوله تعالى في الآية (5): {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} وقوله في الآية (36): {وقاتلوا المشركين كافة}.
[5457]:- من الآية (35) من سورة (محمد).