47- يا أيها الذين أوتوا الكتاب الذي أنزله الله آمنوا بما أنزلنا من القرآن على محمد مصدقاً لما معكم من قبل أن ننزل بكم عقاباً تنمحي به معالم وجوهكم فتصير كأقفيتها . لا أنف فيها ولا عين ولا حاجب ، أو نطردكم من رحمتنا كما طردنا الذين خالفوا أمرنا بفعل ما نهوا عنه من الصيد يوم السبت . وكان قضاء الله نافذاً لا مرد له .
قوله تعالى : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب } . يخاطب اليهود .
قوله تعالى : { آمنوا بما نزلنا } يعني : القرآن .
قوله تعالى : { مصدقاً لما معكم } . يعني : التوراة ، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كلم أحبار اليهود ، عبد الله بن صوريا ، وكعب بن الأشرف فقال : يا معشر اليهود : " اتقوا الله وأسلموا ، والله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق " قالوا : ما نعرف ذلك ، وأصروا على الكفر فنزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { من قبل أن نطمس وجوهاً } ، قال ابن عباس : نجعلها كخف البعير ، وقال قتادة والضحاك : نعميها ، والمراد بالوجه العين .
قوله تعالى : { فنردها على أدبارها } . أي : نطمس الوجوه ، فنردها على القفا ، وقيل : نجعل الوجوه منابت الشعر كوجوه القردة لأن منابت شعور الآدميين في أدبارهم دون وجوههم ، وقيل معناه : نمحو آثارها وما فيها من أنف ، وعين ، وفم ، وحاجب ، ونجعلها كالأقفاء . وقيل : نجعل عينيه على القفا فيمشي القهقري .
روي أن عبد الله بن سلام رضي الله عنه لما سمع هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ، ويده على وجهه ، وأسلم ، قال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي ، وكذلك كعب الأحبار لما سمع هذه الآية أسلم في زمن عمر رضي الله عنه ، فقال : يا رب آمنت ، يا رب أسلمت ، مخافة أن يصيبه وعيد هذه الآية .
فإن قيل : قد أوعدهم بالطمس إن لم يؤمنوا ، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟ قيل : هذا الوعيد باق ، ويكون طمس ومسخ في اليهودية قبل قيام الساعة ، وقيل : هذا كان وعيداً بشرط ، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه دفع ذلك عن الباقين ، وقيل : أراد به القيامة ، وقال مجاهد : أراد بقوله : { نطمس وجوهاً } أي : نتركهم في الضلالة ، فيكون المراد طمس وجه القلب ، والرد عن بصائر الهدى على أدبارها في الكفر والضلالة . وأصل الطمس : المحو ، والإفساد ، والتحويل ، وقال ابن زيد : نمحو آثارهم من وجوههم ونواصيهم ، التي هم بها فنردها على أدبارها ، حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه ، وهو الشام . وقال : قد مضى ذلك ، وتأوله في إجلاء بني النضير إلى أذرعات وأريحاء من الشام .
قوله تعالى : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } . فنجعلهم قردة وخنازير .
ثم وجه - سبحانه - نداء إلى اليهود أمرهم فيه باتباع طريق الحق ، وأنذرهم بسوء المصير إذا لم يستمعوا إلى هذا النداء فقال - تعالى - : { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : " كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود : اتقوا الله وأسلموا . فوالله إنكم لتعلمون أن الذى جئتكم به الحق . فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد ، وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر . فأنزل الله فيهم : { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } " الآية .
وفى ندائهم بقولهم { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ } تحريض لهم على الإِيمان ، لأن اعطاءهم علم الكتاب من شأنه أن يحملهم على المسارعة إلى تلبية دعوة النبى صلى الله عليه وسلم وألا تأخذهم العصبية الدينية كما أخذت أهل مكة العصبية الجاهلية ، ولأن هذا الإِيمان الذى يدعون إليه هو التصديق بما أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن ، إذ هو يطابق - فى جوهره - ما أنزله سبحانه - على الأنبياء السابقين الذين يزعم أهل الكتاب أنهم يؤمنون بهم . إذاً فوحدة المنزل توجب عليهم أن يؤمنوا بجميع ما أنزله الله .
ووصفهم هنا بأنهم أوتوا الكتاب ، مع أنه وصفهم قبل ذلك بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، لأن وصفهم هنا بذلك المقصود منه حضهم على الإِيمان وترغيبهم فيه ؛ واثارة هممهم للانقياد لتعاليم كتابهم الذى بشرهم بمبعث النبى صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالإِيمان به .
أما وصفهم فيما سبق بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب فالمقصود منه التعجيب من أحوالهم ، والتهوين من شأنهم .
والمعنى : يا معشر اليهود الذين آتاهم الله التوراة لتكون هداية لهم ، آمنوا ايمانا حقا { بِمَا نَزَّلْنَا } من قرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فإن هذا القرآن قد نزل { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } وموافقا للتوراة التى بين أيديكم فى الدعوة إلى وحداتيه الله - تعالى - وإلى مكارم الأخلاق ، وفى النهى عن الفواحش والمعاصى ، ومؤيدا لها فيما ذكرته من صفات تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن آيات تدعو إلى تصديقه والإِيمان به .
وعبر عن القرآن بقوله : { بِمَا نَزَّلْنَا } ؛ لأن فى هذا التعبير تذكير بعظم شأن القرآن وأنه منزل بأمر الله وحفظه .
وعبر عن التوراة بقوله { لِّمَا مَعَكُمْ } لأن فى هذا التعبير تسجيلا عليهم بأن التوراة كتاب مستصحب عندهم وقريب من أيديهم ، وشهادته بصدق النبى صلى الله عليه وسلم ظاهرة جلية ، فإذا ما تركوا شهادته مع وضوحها ومع استصحابهم له كان مثلهم { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } ثم أنذرهم - سبحانه - بعد ذلك بسوء العاقبة إذا ما أعرضوا عن الإِيمان بدعوة الإِسلام فقال - تعالى - { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } .
والطمس إزالة الأثر بالمحو . قال الله - تعالى - { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } أى : زالت ومحيت . ويقال : طمست الريح الأثر إذا محته وأزلته . وللمفسرين فى المراد من معنى الطمس هنا اتجاهان :
أما الاتجاه الأول فيرى أصحابه حمل اللفظ على حقيقته بمعنى إزالة ما فى الوجه من أعضاء ومحو أثرها .
فيكون المعنى : { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } أى نمحو تخطيط صورها من عين وأنف وفم وحاجب { فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } أى فنجعلها على هيئة أدبارها وهى الأفقاء بحيث تكون الوجوه مطموسة مثل الأقفاء . وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس وقتادة وغيرهما .
قال الإِمام الرازى : وهذا المعنى إنما جعله الله عقوبة لما فيه من التشويه فى الخلقة والمثلة والفضيحة ؛ لأن عند ذلك يعظ الغم والحسرة . .
ومن المفسرين الذين رجحوا حمل اللفظ على حقيقته الإِمام ابن جرير لقد قال : " وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب " قول من قال : معنى قوله { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } من قبل أن نطمس أبصارها ، ونمحو آثارها ، فنسويها كالأقفاء . فنردها على أدبارها ، فنجعل أبصارها فى أدبارها ، يعنى بذلك : فنجعل الوجوه فى أدبار الوجوه . فيكون معناه : فنحول الوجوه أقفاء ، والأقفاء ، وجوها ، فيمشوا القهقرى ، كما قال ابن عباس ومن قال بذلك .
وأصحاب هذا الاتجاه منهم من يرى أن هذه العقوبة تكون فى آخر الزمان ومنهم من يرى هذه العقوبة تكون فى الآخرة .
ومنهم من قال بأن هذه العقوبة مقيدة بعدم إيمان أحد منهم ، وقد آمن بعضهم كعبد الله بن سلام وغيره .
وأما الاتجاه الثانى فيرى أصحابه حمل اللفظ على مجازه ، بمعنى أن المراد بالطمس الطمس المعنوى .
فيكون المعنى : آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن تقسوا قلوبكم ، ونطبع عليها بسبب تمسكها بالضلال ، وتماديها فى العناد .
قال ابن كثير مؤيدا هذا الاتجاه : هذا مثل ضربه الله لهم فى صرفهم عن الحق وردهم ، إلى الباطل ، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلال يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم . وهذا كما قال بعضهم فى قوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } أى هذا مثل سوء ضربه الله لهم فى ضلالهم ومنعهم عن الهدى .
قال مجاهد : من قبل أن نطمس وجوها أى عن صراط الحق : فنردها على أدبارها أى فى الضلال . وقال السدى : معناه : فنعميها عن الحق ونرجعها كفارا . . . .
وقال الفخرى الرازى - بعد أن بين معنى الآية على القول الأول - : أما القول الثانى : فهو أن المراد من طمس الوجوه مجازه ثم ذكروا فيه وجوها .
الأول : قال الحسن : نطمسها عن الهدى فنردها على أدبارها أى على ضلالتها والمقصود بيان إلقائها فى أنواع الخذلان وظلمات الضلالات .
الثاني : يحتمل أن يكون المراد بالطمس القلب والتغيير . وبالوجوه : رؤساؤهم ووجهاؤهم .
والمعنى : من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلب منهم الإِقبال والوجاهة ونكسوهم الصغار والإِدبار والمذلة .
الثالث : قال عبد الرحمن بن زيد : هذا الوعيد قد لحق اليهود ومضى . وتأول ذلك فى إجلاء قريظة والنضير إلى الشام ، فرد الله وجوههم على أدبارهم حين عادوا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام . فيكون المراد بطمس الوجوه على هذا الرأى : إزالة آثارهم عن بلاد العرب ومحو أحوالهم عنها .
وقد مال الفخرى الرازى إلى القول الثانى ووصفه بأنه لا إشكال معه البتة . .
وقال بعض العلماء : إن الذى يبدو لنا من ظاهر النص وهو قوله - تعالى - { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } : أنه يراد به سحقهم فى القتال ، وحملهم على أن يولوا الأدبار ، فتكون وجوههم غير بادية بصورها ، بعد أن كانوا مقبلين بها ، فأزالها السيف والخوف ، وجعل صورتها مختفية ، وأقفيتهم هى البادية الواضحة ، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار .
وعلى ذلك يكون المعنى : إنكم استرسلتم فى غيكم وضلالكم . ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإِيمان قبل أن ينزل بكم غضب الله - تعالى - فى الدنيا وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم ، فيذيقون بأس القتال فتفرون ، وتختفى وجوهكم . . .
هذه بعض الوجوه التى قالها من يرى أن المراد بالطمس الطمس المعنوى وأن اللفظ محمول على المجاز ، ولعل هذا الاتجاه أقرب إلى الصواب لسلامته من الاعتراضات والإِشكالات التى أوردها بعض المفسرين - كالرازى والآلوسى - عند تفسيرهما للآية الكريمة .
وقوله { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت } بيان لعقوبة أخرى سوى العقوبة السابقة . واللعن : هو الطرد من رحمة الله - تعالى - .
فالآية دعوة لليهود إلى الإِيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من قبل أن يطبع الله - تعالى - على قلوبهم ويذهب بنورها فلا تتجه إلى الحق ولا تميل إليه . أو من قبل أن يلعنهم ويطردهم من رحمته ويجعلهم عبرة للمعتبرين .
وأصحاب السبت هم قوم من اليهود حرم الله عليهم الصيد فى يوم السبت ، فتحايلوا على استحلال ما حرمه الله بحيل قبيحة ، فأنزل الله عليهم عذابه ، ومسخهم قردة . .
وقد ذكر الله قصتهم بشئ من التفصيل فى سورة الأعراف .
وكلمة " أو " فى الآية الكريمة لمنع الخلو . فجوز أن يعاقب الله طائفة منهم بعقوبة من هاتين العقوبتين ، ويعاقب طائفة أخرى منهم بالعقوبة الثاينة إن هم استمروا فى ضلالهم وطغيانهم .
والضمير المنصوب فى قوله " نلعنهم " يعود لأصحاب الوجوه . أو للذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات .
وقوله { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أى كان وما زال جميع ما أمر الله به وقضاه ونافذا لا محالة ؛ لأنه - سبحانه - لا يعجزه شئ فى الأرض ولا فى السماء :
والجملة الكريمة تذييل قصد به تهديد هؤلاء الضالين المعاندين حتى يثوبوا إلى رشدهم ، ويدخلوا فى صفوف المؤمنين .
بعد ذلك يتجه الخطاب إلى الذين أوتوا الكتاب - اليهود - دعوة إلى الكتاب المصدق لما بين أيديهم ؛ وتهديدا لهم بالمسخ واللعن المتوقعين من وراء عنادهم وأفاعيلهم . ودمغا لهم بالشرك والانحراف عن التوحيد الخاص ، الذي عليه دينهم ، والله لا يغفر أن يشرك به . . وفي الوقت ذاته بيان عام لحدود المغفرة الواسعة ؛ وبشاعة الشرك حتى إنه ليخرج من هذه الحدود :
( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها ، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . . وكان أمر الله مفعولا . إن الله لا يغفر أن يشرك به ، ويغفر ما دون ذلك - لمن يشاء - ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيمًا ) . .
إنه نداء لهم بالصفة التي كان من شأنها أن يكونوا أول المستجيبين ؛ وبالسبب الذي كان من شأنه أن يكونوا أول المسلمين :
( يا أيها الذين أوتوا الكتاب ، آمنوا بما نزلنا ، مصدقا لما معكم ) . .
فهم أوتوا الكتاب ، فليس غريبا عليهم هذا الهدى . والله الذي آتاهم الكتاب هو الذي يدعوهم إلى الإيمان بما أنزل مصدقا لما معهم . فليس غريبا عليهم كذلك . وهو مصدق لما معهم . .
ولو كان الإيمان بالبينة . أو بالأسباب الظاهرة . لآمنت يهود أول من آمن . ولكن يهود كانت لها مصالح ومطامح . وكانت لها أحقاد وعناد . وكانت هي بطبعها منحرفة صلبة الرقبة . . كما تعبر عنهم التوراة بأنهم :
" شعب صلب الرقبة ! " . ومن ثم لم تؤمن . ومن ثم يجيئها التهديد العنيف القاسي :
( من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت . وكان أمر الله مفعولا ) . . وطمس الوجوه إزالة معالمها المميزة لآدميتها ؛ وردها على أدبارها ، دفعها لأن تمشي القهقرى . . وقد يكون المقصود هو التهديد بمعناه المادي ؛ الذي يفقدهم آدميتهم ويردهم يمشون على أدبارهم ؛ ويكون كذلك اللعن الذي أصاب أصحاب السبت [ وهم الذين احتالوا على صيد السمك يوم السبت ، وهو محرم عليهم في شريعتهم ] هو مسخهم بالفعل قردة وخنازير . . كما قد يكون المقصود طمس معالم الهدى والبصيرة في نفوسهم ، وردهم إلى كفرهم وجاهليتهم ، قبل أن يؤتيهم الله الكتاب . والكفر بعد الإيمان ، والهدى بعد الضلال ، طمس للوجوه والبصائر ، وارتداد على الأدبار دونه كل ارتداد .
وسواء كان هذا هو المقصود أو ذاك . فهو التهديد الرعيب العنيف ؛ الذي يليق بطبيعة يهود الجاسية الغليظة ؛ كما يليق بفعالهم اللئيمة الخبيثة !
وقد كان ممن ارتدع بهذا التهديد : كعب الأحبار فأسلم :
أخرج ابن أبى حاتم : حدثنا أبى . حدثنا ابن نفيل . حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن جليس ، عن أبى إدريس عائذ الله الخولاني ، قال : كان أبو مسلم الخليلي معلم كعب . وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله [ ص ] قال : فبعثه إليه ينظر : أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة . فإذا تال يقرأ القرآن يقول : ( يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم ، من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها . . . ) فبادرت الماء فاغتسلت ، وإني لأمس وجهي مخافة أن أطمس ! ثم أسلمت .
يقول تعالى - آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم{[7655]} الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهددا لهم أن{[7656]} يفعلوا ، بقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } قال بعضهم : معناه : من قبل أن نطمس وجوها . طمسها{[7657]} هو ردها إلى الأدبار ، وجعل أبصارهم من ورائهم . ويحتمل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقي لها سمع ولا بصر ولا أثر ، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار .
قال العوفي عن ابن عباس : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } وطمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين{[7658]} من قفاه .
وكذا قال قتادة ، وعطية العوفي . وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ . وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ]{[7659]} } [ يس 8 ، 9 ] إن هذا مثل [ سوء ]{[7660]} ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى .
قال مجاهد : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } يقول : عن صراط الحق ، فنردها{[7661]} على أدبارهم ، أي : في الضلالة .
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، والحسن نحو هذا .
قال السدي : { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة .
وقال ابن{[7662]} زيد{[7663]} نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز .
وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية ، قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم ، قال : ألستم تقرؤون في كتابكم{[7664]} { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ ]{[7665]} أَسْفَارًا } وأنا قد حملت التوراة . قال : فتركه عمر . ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلا من أهلها حزينا ، وهو يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } الآية . قال{[7666]} كعب : يا رب آمنت ، يا رب ، أسلمت ، مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين{[7667]} .
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس{[7668]} عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثه إليه ينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس ، ثم أسلمت{[7669]} .
وقوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } يعني : الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد ، وقد مسخوا قردة وخنازير ، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف .
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : إذا أمر بأمر ، فإنه لا يخالف ولا يمانع .
{ يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها } من قبل أن نمحو تخطيط صورها ونجعلها على هيئة أدبارها ، يعني الأقفاء ، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا ، أو في الآخرة . وأصل الطمس إزالة الأعلام المائلة وقد يطلق بمعنى الطلس في إزالة الصورة ولمطلق القلب والتغيير ، ولذلك قيل معناه من قبل أن نغير وجوها فنسلب وجاهتها وإقبالها ونكسوها الصغار والإدبار ، أو نردها إلى حيث جاءت منه ، وهي أذرعات الشام يعني إجلاء بني النضير ، ويقرب منه قول من قال إن المراد بالوجوه الرؤساء ، أو من قبل أن نطمس وجوها بأن نعمي الأبصار عن الاعتبار ونصم الأسماع عن الإصغاء إلى الحق بالطبع ونردها عن الهداية إلى الضلالة . { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت ، أو نمسخهم مسخا مثل مسخهم ، أو نلعنهم على لسانك كما لعناهم على لسان داود . والضمير لأصحاب الوجوه أو للذين على طريقة الالتفات ، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء ، وعطفه على الطمس بالمعنى الأول يدل على أن المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا ومن حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال إنه بعد مترقب أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم وقد آمن منهم طائفة . { وكان أمر الله } بإيقاع شيء أو وعيده ، أو ما حكم به وقضاه . { مفعولا } نافذا وكائنا فيقع لا محالة ما أوعدتم به إن لم تؤمنوا .
هذا خطاب لليهود والنصارى ، و { لما معكم } معناه من شرع وملة ، لا لما كان معهم من مبدل ومغير ، و «الطامس » : الدائر المغير الأعلام ، كما قال ذو الرمة : [ البسيط ]
من كل نضّاخَةِ الذّفرى إذا عَرِقَتْ . . . عُرْضَتُها طامسُ الأعلامِ مجهولُ{[4093]}
ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه : أعمى مطموس ، وقالت طائفة : «طمس الوجوه » هنا : أن تعفى أثر الحواس فيها ، وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس ، فيكون أرد على «الأدبار » في هذا الموضع بالمعنى ، أي خلوه من الحواس دبراً لكونه عامراً بها ، وقال ابن عباس وعطية العوفي : «طمس الوجوه » أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشى القهقرى ، وحكى الطبري عن فرقة : أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر ، فذلك هو الرد على الدبر ، ورد على هذا القول الطبري ، وقال مالك رحمه الله : كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية : { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم } فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته ، فأسلم مكانه ، وقال : والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي ، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك : ذلك تجوز ، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد ، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر ، وهو الرد على الأدبار ، وقال ابن زيد : الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها ، وطمسها : إخراجهم منها ، والرد على الأدبار : هو رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً ، و { أصحاب السبت } : هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد ، حسبما تقدم ، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة ، قاله قتادة والحسن والسدي : وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور ، دال على جنسها ، لا واحد الأوامر ، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا ، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به .
أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجّة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وَزْع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تَعِنُّ من فُرَص الموعظة والهدى إلاّ انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسّموا أحوال تأثّر نفوس المخاطبين ومظانّ ارعوائها عن الباطل ، وتبصّرها في الحق ، فينجدوها حينئذٍ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة ( 11 ) إذ قال : « فلَمَّا ألْحَدُوا المَيْت ، وفَاتَ قولُ لَيْت ، أشْرَفَ شَيْخ من رِبَاوَة ، متَأبِّطاً لِهِرَاوة ، فقال : لِمِثْلِ هذا فليعمل العاملون » الخ ، لذلك جيء بقوله : { يا أيّها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نّزلنا مصدّقاً لما معكم } الآية عقب ما تقدّم .
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } [ آل عمران : 23 ] لأنّ ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنّهم شُرّفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتّسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنّهم أوتوا الكتاب كلّه حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيباً منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنّهم لم يُؤتَوْه .
وجيء بالصلتين في قوله : { بما نزلنا } وقوله : « بما معكم » دون الإسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : { بما نزلنا } من التذكير بعظم شأن القرآن أنّه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله : { لما معكم } من التعريض بهم في أنّ التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حقّ علمه ولا يعملون بما فيه ، على حدّ قوله : { كمثَل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] .
وقوله : { من قبل أن نطمس وجوهاً } تهديد أو وعيد ، ومعنى : { من قبل أن نطمس } أي آمنِوا في زمن يبتدىء من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحلّ بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلّط الله عليهم ما يفسد به محيَّاهم فإنّ قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازاً على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإنّ الوجوه مجامع الحواسّ .
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدّد به ، وفي الحديث " أمَا يخشَى الذي يرفع رأسه قبلَ الإمام أن يَجعل الله وجهه وجه حمار " . وأصْل الطمس إزالة الآثار الماثلة . قال كعب :
عُرْضَتُها طَامِسُ الأعلام مَجْهُولُ
وقد يطلق الطمس مجازاً على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه .
ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميّز والمعرفة منها .
وقوله : { فنردّها على أدبارها } عطف لمجرد التعقيب لا للتسبّب ؛ أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمسُ والردّ على الأدبار ، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء ، وإن كان الطمس هنا مجازاً وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلّة بعد أن كانوا هناك أعزّة ذوي مال وعدّة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجرُ أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيّد جهته في عصر الهجرة .
والردّ على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازاً بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ؛ ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردّ هم من حيث أتوا ، أي إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام .
والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبّب معاً ، والكلام وعيد ، والوعيدُ حاصل ، فقد رماهم الله بالذلّ ، ثم أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم وأجلاهم عمر بن الخطاب إلى أذرعات .
وقوله : { أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت } أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مراداً به المسخ فاللعن مراد به الذلّ ، وإن كان الطمس مراداً به الذلّ فاللعن مراد به المسخ .
و { أصحاب السبت } هم الذين في قوله : { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وقد تقدّم في سورة البقرة .