{ فكيف تتقون إن كفرتم } أي : كيف لكم بالتقوى يوم القيامة إذ كفرتم في الدنيا يعني لا سبيل لكم إلى التقوى إذا وافيتم يوم القيامة ؟ وقيل : معناه كيف تتقون العذاب يوم القيامة وبأي شيء تتحصنون منه إذا كفرتم ؟ { يوما يجعل الولدان شيبا } شمطاً من هوله وشدته ، ذلك حين يقال لآدم قم فابعث بعث النار من ذريتك .
ثم ذكرهم - سبحانه - بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتعظون أو يرتدعون فقال : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً . السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } .
والاستفهام فى قوله : { فَكَيْفَ } مستعمل فى التوبيخ والتعجيز ، و { تَتَّقُونَ } بمعنى تصونون أنفسكم من العذاب ، ومعنى { إِن كَفَرْتُمْ } إن بقيتم على كفركم وأصررتم عليه . وقوله { يَوْماً } : منصوب على أنه مفعول به لقوله : { تَتَّقُونَ }
وقوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } صفة ثانية لهذا اليوم .
والمراد بالولدان : الأطفار الصغار ، وبه بمعنى فيه . .
والمقصود بهاتين الآيتين - أيضا - تأكيد التهديد للمشركين ، حتى يقلعوا عن شركهم وكفرهم . . أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم من سوء عاقبة المكذبين ، فكيف تصونون أنفسكم - إذا ما بقيتم على كفركم - من عذاب يوم هائل شديد ، هذا اليوم من صفاته أنه يحول الشعر الشديد السواد للولدان ، إلى شعر شديد البياض .
وهذا اليوم من صفاته - أيضا - أنه لشدة هوله ، أن السماء - مع عظمها وصلابتها - تصير شيئا منفطرا - أى : متشققا { به } أى : فيه ، والضمير يعود إلى اليوم . .
وصدر - سبحانه - الحديث عن يوم القيامة ، بلفظ الاستفهام " كيف " للإِشعار بشدة هوله . وأنه يعجز الواصفون عن وصفه .
ووصف - سبحانه - هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان ، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه ، للارتقاء فى الوصف من العظيم إلى الأعظم ، إذ أن تحول شعر الأطفال من السواد
إلى البياض - مع شدته وعظمه - أشد منه وأعظم ، انشقاق السماء فى هذا اليوم .
قال صاحب الكشاف : وقوله { يَجْعَلُ الولدان شِيباً } مثل فى الشدة ، يقال فى اليوم الشديد ، يوم يشيب نواصى الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان ، إذا تفاقمت على الإِنسان ، أسرع فيه الشيب ، كما قال أبو الطيب :
والهَمُّ يَخْتَرِم الجسيمَ نحافةً . . . ويُشِيبُ ناصيةَ الصبى ويُهْرِم
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب . وقوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } وصف لليوم بالشدة - أيضا - وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق . .
ووصف - سبحانه - السماء بقوله : { مُنفَطِرٌ } بصيغة التذكير ، حيث لم يقل منفطرة ، لأن هذه الصيغة ، صيغة نسب . أى : ذات انفطار ، كما فى قولهم : امرأة مرضع وحائض ، أى : ذات إرضاع وذات حيض . أو على تأويل أن السماء بمعنى السقف ، كما فى قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } أو على أن السماء اسم جنس واحده سماوة ، فيجوم وصفه بالتذكير والتأنيث .
وقوله : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } الضمير فيه يعود إلى الخالق - عز وجل - والوعد مصدر مضاف لفاعله . أى : كان وعد ربك نافذا ومفعولا ، لأنه - سبحانه - لا يخلف موعوده .
ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة ثالثة لليوم ، والضمير فى وعده يعود إليه ، ويكون من إضافة المصدر لمفعوله . أى : كان الوعد بوقوع يوم القيامة نافذا ومفعولا .
فذلك أخذ الآخرة وهذا أخذ الدنيا ؛ فكيف تنجون بأنفسكم وتقوها هذا الهول الرعيب ?
( فكيف تتقون - إن كفرتم - يوما يجعل الولدان شيبا السماء منفطر به ? ) . .
وإن صورة الهول هنا لتنشق لها السماء ، ومن قبل رجفت لها الأرض والجبال . وإنها لتشيب الولدان . وإنه لهول ترتسم صوره في الطبيعة الصامتة ، وفي الإنسانية الحية . . في مشاهد ينقلها السياق القرآني إلى حس المخاطبين كأنها واقعة . . ثم يؤكدها تأكيدا . ( كان وعده مفعولا ) . . واقعا لا خلف فيه . وهو ما شاء فعل وما أراد كان !
وقوله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } يحتمل أن يكون { يَوْمًا } معمولا لتتقون ، كما حكاه ابن جرير عن قراءة ابن مسعود : " فكيف تخافون أيها الناس يوما يجعل الولدان شيبا إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به " ؟ ويحتمل أن يكون معمولا لكفرتم ، فعلى الأول : كيف يحصلُ لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم ؟ وعلى الثاني : كيف يحصل لكم تقوى إن كفرتم يوم القيامة وجحدتموه ؟ وكلاهما معنى حسن ، ولكن الأول أولى ، والله أعلم .
ومعنى قوله : { يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } أي : من شدة أهواله وزلازله وبلابله ، وذلك حين يقول الله لآدم : ابعث بعث النار . فيقول : مِن كم ؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة .
قال الطبراني : حدثنا يحيى بن أيوب العلاف ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد ، حدثنا عثمان بن عطاء الخراساني ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ : { يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } قال : " ذلك يوم القيامة ، وذلك يوم يقول الله لآدم : قم فابعث من ذريتك بعثا إلى النار . قال : من كم يا رب ؟ قال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، وينجو واحد " . فاشتد ذلك على المسلمين ، وعرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال حين أبصر ذلك في وجوههم : " إن بني آدم كثير ، وإن يأجوج ومأجوج من ولد آدم ، وإنه لا يموت منهم رجل حتى يرثه لصلبه ألف رجل . ففيهم وفي أشباههم جنة لكم " . {[29438]}
هذا حديث غريب ، وقد تقدم في أول سورة الحج ذكر هذه الأحاديث .
وقوله تعالى : { فكيف تتقون } معناه تجعلون لأنفسكم ، و { يوماً } مفعول ب { تتقون } ، وقيل هو مفعول ب { كفرتم } على أن يجعله بمنزلة جحدتم ، ف { تتقون } على هذا من التقوى ، أي { تتقون } عقاب الله { يوم } ، و { يجعل } يصح أن يكون مسنداً إلى اسم الله تعالى ، ويصح أن يكون مسنداً إلى اليوم . وقوله تعالى : { الولدان شيباً } يريد صغار الأطفال ، وقال قوم هذه حقيقة تشيب رؤوسهم من شدة الهول كما قد ترى الشيب في الدنيا من الهم المفرط كهول البحر ونحوه . وقال آخرون من المتأولين : هو تجوز وإبلاغ في وصف هول ذلك اليوم . وواحد { الولدان } وليد ، وواحد الشيب أشيب .
الاستفهام ب ( كيف ) مستعمل في التعجيز والتوبيخ وهو متفرع بالفاء على ما تضمنه الخطاب السابق من التهديد على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وما أدمج فيه من التسجيل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم شاهد عليهم فليس بعد الشهادة إلاّ المؤاخذة بما شهد به ، وقد انتقل بهم من التهديد بالأخذ في الدّنيا المستفاد من تمثيل حالهم بحال فرعون مع موسى إلى الوعيد بعقاب أشد وهو عذاب يوم القيامة وقد نشأ هذا الاستفهام عن اعتبارهم أهل اتِّعاظ وخوف من الوعيد بما حلّ بأمثالهم مما شأنُه أن يثير فيهم تفكيراً من النجاة من الوقوع فيما هُدِّدوا به ، وأنهم إن كانوا أهل جلادة على تحمل عذاب الدّنيا فماذا يصنعون في اتقاء عذاب الآخرة ، فدلّت فاء التفريع واسم الاستفهام على هذا المعنى .
فالمعنى : هبكم أقدمتم على تحمل عذاب الدنيا فكيف تتقون عذاب الآخرة ، ففعل الشرط من قوله : { إِنْ كفرتم } مستعمل في معنى الدوام على الكفر لأن ما يقتضيه الشرط من الاستقبال قرينة على إرادة معنى الدّوام من فعل { كفرتم } وإلاّ فإن كفرهم حاصل من قبل نزول هذه الآية .
و { يوماً } منصوب على المفعول به ل { تتقون } . واتقاء اليوم باتقاء ما يقع فيه من عذاب أي على الكفر .
ووصف اليوم بأنه { يجعل الولدان شيباً } وصف له باعتبار ما يقع فيه من الأهوال والأحزان ، لأنه شاع أن الهم مما يسرع به الشيب فلما أريد وصف همّ ذلك اليوم بالشدة البالغة أقواها أسند إليه يشيب الولدان الذين شعرهم في أول سواده . وهذه مبالغة عجيبة وهي من مبتكرات القرآن فيما أحسب ، لأني لم أر هذا المعنى في كلام العرب وأما البيت الذي يذكر في شواهد النحو وهو :
إذن والله نَرميهم بحرب *** تُشيب الطفل من قبل المشيب
فلا ثبوت لنسبته إلى من كانوا قبل نزول القرآن ولا يعرف قائله ، ونسبه بعض المؤلفين إلى حسان بن ثابت . وقال العيني : لم أجده في ديوانه . وقد أخذ المعنى الصمّة ابن عبد الله القشيري في قوله :
دَعانيَ من نجدٍ فإن سنينه *** لَعِبْنَ بنا شِيباً وشيبننا مردا
وهو من شعراء الدولة الأموية وإسناد { يجعل الولدان شيباً } إلى اليوم مجاز عقلي بمرتبتين لأن ذلك اليوم زمَن الأهوال التي تشيب لمثلها الأطفال ، والأهوال سبب للشيب عرفاً .
والشيب كناية عن هذا الهول فاجتمع في الآية مجازان عقليان وكناية ومبالغة في قوله : { يجعل الولدان شيباً .
وجملة { السماء منفطر به } صفة ثانية .
والبَاء بمعنى ( في ) وهو ارتقاء في وصف اليوم بحدوث الأهوال فيه فإن انفطار السماء أشد هولاً ورعباً مما كني عنه بجملة { يجعل الولدان شيباً } . أي السماء عَلى عظمها وسمكها تنفطر لذلك اليوم فما ظنكم بأنفسكم وأمثالكم من الخلائق فيه .
والانفطار : التشقق الذي يحدث في السماء لنزول الملائكة وصعودهم كما تقدم في قوله تعالى : { تعرج الملائكة والروح إليه } في سورة المعارج ( 4 ) .