اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَكَيۡفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرۡتُمۡ يَوۡمٗا يَجۡعَلُ ٱلۡوِلۡدَٰنَ شِيبًا} (17)

قوله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } .

«يوماً » إما منصوب ب «تَتَّقُونَ » على سبيل المفعول به تجوزاً .

وقال الزمخشري : «يوماً مفعول به ، أي : فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهَوْلَهُ إن بقيتم على الكفر » .

وناقشه أبو حيان فقال{[58381]} : «وتتقون مضارع " اتقى " و " اتقى " ليس بمعنى " وقى " حتى يفسره به و " اتقى " يتعدى إلى واحد و " وقى " يتعدى إلى اثنين ، قال تعالى : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }[ الطور : 18 ] ولذلك قدره الزمخشريُّ : تقون أنفسكم لكنه ليس " تتقون " بمعنى " تقون " ، فلا يعدى تعديته » انتهى .

ويجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة ، إن كفرتم في الدنيا . قاله الزمخشري .

ويجوز أن ينتصب مفعولاً ب «كفرتم » إن جعل «كفَرْتُمْ » بمعنى «جَحدتُمْ » أي : فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة .

ولا يجوز أن ينتصب ظرفاً لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة .

ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار ، أي : كفرتم بيوم القيامة .

فصل في المراد بالآية

قال القرطبيُّ{[58382]} : وهذا تقريع وتوبيخ ، أي : كيف تتقون العذاب إن كفرتم ، وفيه تقديم وتأخير ، أي : كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم ، وكذا قراءة{[58383]} عبد الله وعطية .

قال الحسن : بأي صلاة تتقون العذاب ؟ بأي صوم تتقون العذاب ؟{[58384]} وفيه إضمار ، أي : كيف تتقون عذاب يوم القيامة .

وقال قتادة : والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء{[58385]} ، و «يَوْماً » مفعول ب «تتقون » على هذه القراءة وليس بظرف ، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كفرتم » ، وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله «كَفرْتُمْ » والابتداء «يَوْماً » يذهب إلى أن «اليوم » مفعول «يَجْعَلُ » والفعل لله - عز وجل - كأنه قال : يجعل الله الولدان شيباً في يوم .

قال ابن الأنباري : وهذا لا يصح ؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله .

وقال المهدوي : والضمير في «يَجْعلُ » يجوز أن يكون لله - عز وجل - ويجوز أن يكون لليوم ، وإذا كان لليوم ، صلح أن تكون صفة له ، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عز وجل - إلا مع تقدير حذف ، كأنه قيل : يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً .

وقال ابن الأنباري : ومنهم من نصب " اليوم " ب " كَفرْتُمْ " ، وهذا قبيح ؛ لأن اليوم إذا علق ب " كفرتم " احتاج إلى صفة ، أي : كفرتم بيوم ، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف ، وينصب ما بعدها ، احتججنا عليه بقراءة عبد الله{[58386]} : { فَكيْفَ تتَّقُونَ يَوْماً } .

قال القرطبيُّ{[58387]} : " هذه القراءة ليست بمتواترة ، وإنما جاءت على وجه التفسير ، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف «يوم » مفعول صريح من غير صفة ، ولا حذفها ، أي : فكيف تتقون الله ، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ، والجزاء " .

والعامة : على تنوين " يَوْماً " ، وجعل الجملة بعده نعتاً له ، والعائد محذوف ، أي : جعل الولدان فيه . قاله أبو البقاء ، ولم يتعرض للفاعل في " يَجْعلُ " ، وهو على هذا ضمير الباري تعالى ، أي : يوماً يجعل الله فيه ، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمراً في " يَجْعَلُ " هو فاعله ، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة ، أي : نفس اليوم يجعل الولدان شيباً .

وقرأ زيد{[58388]} بن علي : «يَوْمَ يَجْعَلُ » بإضافة الظرف للجملة ، والفاعل على هذا هو ضمير الباري - تعالى - والجعل - هنا - بمعنى التصيير ، ف «شيباً » مفعول ثان .

وقرأ أبو السمال{[58389]} : «فكيف تتَّقُون » بكسر النون على الإضافة .

والولدان : الصبيان .

وقال السديُّ : هم أولاد الزنا{[58390]} .

وقيل : أولاد المشركين ، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدَمُ قَمْ فابْعَثْ بعثاً للنارِ . قال القشيريُّ : هم أهل الجنة ، يُغيِّرُ اللَّهُ أحوالهم ، وأوصافهم على ما يريد .

وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم ، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ، لكن معناه : أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة ، ويقال : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعقِ . والله أعلم .

و «شيباً » : جمع «أشْيَب » ، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء ، نحو : أحْمَر حُمْرٌ ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]

4939 - مِنَّا الذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ***والعَانِسُونَ ومنَّا المُرْدُ والشِّيبُ{[58391]}

وقال آخر : [ الطويل ]

4940 - . . . *** لَعِبْنَ بِنَا شِيباً ، وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا{[58392]}

قال الزمخشريُّ : وفي بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنكِ الغراب ، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : رأيت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون .

ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب .

قال ابن الخطيب{[58393]} : إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين :

الأول : جعل الولدان شيباً وفيه وجهان :

الأول : أنه مثلٌ في الشدة ، يقال في اليوم الشديد : يوم يشيِّبُ نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم ، والأحزان إذا تفاقمت{[58394]} على الإنسان ، أسرع فيه الشيبُ لأن كثرة الهموم ؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب ، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية ، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج ، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط ، وذلك يوجب ابيضاض الشعر ، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة .

الثاني : ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة ، والشيب .


[58381]:البحر المحيط 8/365.
[58382]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/33.
[58383]:ينظر: السابق.
[58384]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/447) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.
[58385]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/291) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/447) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حمبد وابن المنذر.
[58386]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/34.
[58387]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 19/34.
[58388]:ينظر: الدر المصون 6/408.
[58389]:ينظر: القرطبي 19/34.
[58390]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/34) عن السدي.
[58391]:نسب البيت لأبي قيس بن رفاعة، كما نسب إلى أبي قيس بن الأسلت. ينظر إصلاح المنطق ص 341، والدرر 1/131، وشرح شواهد المغني ص716، والمقاصد النحوية 1/167، وأمالي القالي 2/67، وسر صناعة الإعراب ص 684، وشرح الأشموني 1/35، والأزهية 97، ومغني اللبيب ص 304، وهمع الهوامع 1/45، وابن الشجري 2381.
[58392]:تقدم.
[58393]:ينظر: الفخر الرازي 30/162.
[58394]:في أ: تعاظمت.