قوله : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } .
«يوماً » إما منصوب ب «تَتَّقُونَ » على سبيل المفعول به تجوزاً .
وقال الزمخشري : «يوماً مفعول به ، أي : فكيف تتقون أنفسكم يوم القيامة وهَوْلَهُ إن بقيتم على الكفر » .
وناقشه أبو حيان فقال{[58381]} : «وتتقون مضارع " اتقى " و " اتقى " ليس بمعنى " وقى " حتى يفسره به و " اتقى " يتعدى إلى واحد و " وقى " يتعدى إلى اثنين ، قال تعالى : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }[ الطور : 18 ] ولذلك قدره الزمخشريُّ : تقون أنفسكم لكنه ليس " تتقون " بمعنى " تقون " ، فلا يعدى تعديته » انتهى .
ويجوز أن ينتصب على الظرف ، أي : فكيف لكم بالتقوى يوم القيامة ، إن كفرتم في الدنيا . قاله الزمخشري .
ويجوز أن ينتصب مفعولاً ب «كفرتم » إن جعل «كفَرْتُمْ » بمعنى «جَحدتُمْ » أي : فكيف تتقون الله وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة .
ولا يجوز أن ينتصب ظرفاً لأنهم لا يكفرون ذلك اليوم بل يؤمنون لا محالة .
ويجوز أن ينتصب على إسقاط الجار ، أي : كفرتم بيوم القيامة .
قال القرطبيُّ{[58382]} : وهذا تقريع وتوبيخ ، أي : كيف تتقون العذاب إن كفرتم ، وفيه تقديم وتأخير ، أي : كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم ، وكذا قراءة{[58383]} عبد الله وعطية .
قال الحسن : بأي صلاة تتقون العذاب ؟ بأي صوم تتقون العذاب ؟{[58384]} وفيه إضمار ، أي : كيف تتقون عذاب يوم القيامة .
وقال قتادة : والله ما يتقى من كفر ذلك اليوم بشيء{[58385]} ، و «يَوْماً » مفعول ب «تتقون » على هذه القراءة وليس بظرف ، وإن قدر الكفر بمعنى الجحود كان اليوم مفعول «كفرتم » ، وقال بعض المفسرين : وقف التمام على قوله «كَفرْتُمْ » والابتداء «يَوْماً » يذهب إلى أن «اليوم » مفعول «يَجْعَلُ » والفعل لله - عز وجل - كأنه قال : يجعل الله الولدان شيباً في يوم .
قال ابن الأنباري : وهذا لا يصح ؛ لأن اليوم هو الذي يفعل هذا من شدة هوله .
وقال المهدوي : والضمير في «يَجْعلُ » يجوز أن يكون لله - عز وجل - ويجوز أن يكون لليوم ، وإذا كان لليوم ، صلح أن تكون صفة له ، ولا يصلح ذلك إذا كان الضمير لله - عز وجل - إلا مع تقدير حذف ، كأنه قيل : يوماً يجعل الله الولدان فيه شيباً .
وقال ابن الأنباري : ومنهم من نصب " اليوم " ب " كَفرْتُمْ " ، وهذا قبيح ؛ لأن اليوم إذا علق ب " كفرتم " احتاج إلى صفة ، أي : كفرتم بيوم ، فإن احتج محتج بأن الصفة قد تحذف ، وينصب ما بعدها ، احتججنا عليه بقراءة عبد الله{[58386]} : { فَكيْفَ تتَّقُونَ يَوْماً } .
قال القرطبيُّ{[58387]} : " هذه القراءة ليست بمتواترة ، وإنما جاءت على وجه التفسير ، وإذا كان الكفر بمعنى الجحود ف «يوم » مفعول صريح من غير صفة ، ولا حذفها ، أي : فكيف تتقون الله ، وتخشونه إن جحدتم يوم القيامة ، والجزاء " .
والعامة : على تنوين " يَوْماً " ، وجعل الجملة بعده نعتاً له ، والعائد محذوف ، أي : جعل الولدان فيه . قاله أبو البقاء ، ولم يتعرض للفاعل في " يَجْعلُ " ، وهو على هذا ضمير الباري تعالى ، أي : يوماً يجعل الله فيه ، وأحسن من هذا أن يجعل العائد مضمراً في " يَجْعَلُ " هو فاعله ، وتكون نسبة الجعل إلى اليوم من باب المبالغة ، أي : نفس اليوم يجعل الولدان شيباً .
وقرأ زيد{[58388]} بن علي : «يَوْمَ يَجْعَلُ » بإضافة الظرف للجملة ، والفاعل على هذا هو ضمير الباري - تعالى - والجعل - هنا - بمعنى التصيير ، ف «شيباً » مفعول ثان .
وقرأ أبو السمال{[58389]} : «فكيف تتَّقُون » بكسر النون على الإضافة .
وقال السديُّ : هم أولاد الزنا{[58390]} .
وقيل : أولاد المشركين ، والعموم أصح أي يوم يشيب فيه الصغير من غير كبر ، وذلك حين يقال لآدم : يا آدَمُ قَمْ فابْعَثْ بعثاً للنارِ . قال القشيريُّ : هم أهل الجنة ، يُغيِّرُ اللَّهُ أحوالهم ، وأوصافهم على ما يريد .
وقيل : هذا ضرب مثل لشدة ذلك اليوم ، وهو مجاز لأن يوم القيامة لا يكون فيه ولدان ، لكن معناه : أن هيبة ذلك اليوم بحال لو كان فيه هناك صبي لشاب رأسه من الهيبة ، ويقال : هذا وقت الفزع قبل أن ينفخ في الصور نفخة الصعقِ . والله أعلم .
و «شيباً » : جمع «أشْيَب » ، وأصل الشين الضم فكسرت لتصح الياء ، نحو : أحْمَر حُمْرٌ ؛ قال الشاعر : [ البسيط ]
4939 - مِنَّا الذِي هُوَ مَا إنْ طَرَّ شَارِبُهُ***والعَانِسُونَ ومنَّا المُرْدُ والشِّيبُ{[58391]}
4940 - . . . *** لَعِبْنَ بِنَا شِيباً ، وشَيَّبْنَنَا مُرْدَا{[58392]}
قال الزمخشريُّ : وفي بعض الكتب أن رجلاً أمسى فاحم الشعر كحنكِ الغراب ، فأصبح وهو أبيض الرأس واللحية كالثغامة ، فقال : رأيت القيامة والجنة والنار في المنام ، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار ، فمن هول ذلك أصبحت كما ترون .
ويجوز أن يوصف اليوم بالطول فإن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب .
قال ابن الخطيب{[58393]} : إن الله تعالى ذكر من هول ذلك اليوم أمرين :
الأول : جعل الولدان شيباً وفيه وجهان :
الأول : أنه مثلٌ في الشدة ، يقال في اليوم الشديد : يوم يشيِّبُ نواصي الأطفال ، والأصل فيه أن الهموم ، والأحزان إذا تفاقمت{[58394]} على الإنسان ، أسرع فيه الشيبُ لأن كثرة الهموم ؛ توجب انكسار الروح إلى داخل القلب ، وذلك الانكسار يوجب انطفاء الحرارة الغريزية ، وضعفها يوجب بقاء الأجزاء الغذائية غير تامة النضج ، وذلك يوجب استيلاء البلغم على الأخلاط ، وذلك يوجب ابيضاض الشعر ، فلما رأوا أن حصول الشيب من لوازم كثرة الهموم جعلوا الشيب كناية عن الشدة والهموم ، وليس المراد أن هول ذلك اليوم يجعل الولدان شيباً حقيقة لأن إيصال الألم أو الخوف إلى الأطفال غير جائز يوم القيامة .
الثاني : ما تقدم من طول اليوم وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة ، والشيب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.